لم يشكل سقوط حكومة ميشيل بارنييه الفرنسية يوم الأربعاء الماضي، مفاجأة كبيرة للمتابعين، حيث كان متوقعاً أن الوزارة، التي لم تكن محل توافق، لن تصمد كثيراً، خاصة بعدما حصل من خلاف حول موازنة عام 2025، وما انكشف من عجز مالي. حجب الثقة عن الحكومة المشكلة لم يكن فقط بسبب إعلان الموازنة التقشفية من أجل مواجهة العجز، بقدر ما كان مجرد حلقة من حلقات الأزمة السياسية المتطاولة. هذه الأزمة، التي شغلت الفرنسيين منذ بدايات هذا العام، كانت وصلت ذروتها في شهر يونيو/حزيران الماضي، حينما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة. كان الغرض من هذا هو تحسين موقف «الوسط»، المجموعة السياسية، التي ينتمي إليها، بعد الأداء السيئ، الذي ظهرت به، في الانتخابات الأوروبية.
خسر ماكرون رهانه على التفاف الناخبين حول تياره، حيث جاءت النتيجة النهائية بتصدر التحالف اليساري المنافس، الذي تلته في المرتبة الثانية «الجبهة الوطنية»، حزب اليمين المتطرف، لتأتي مجموعة ماكرون في المرتبة الثالثة. المحبط في تلك النتيجة بالنسبة لقادة الإليزيه لم يكن فقط تراجع حزب ماكرون وانهيار شعبيته، ولكن أيضاً حصول انقسام وتوزع للناخبين بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهما تياران مرفوضان بالنسبة للنخبة الحاكمة الفرنسية، التي لا تتردد في التدخل، والقيام بما يلزم لمنعهما من التحكم في السلطة، حتى لو أتوا عن طريق الانتخابات. هذا هو بالضبط ما حدث، حيث رفض الرئيس ماكرون تسليم مهمة تشكيل الحكومة لـ»الجبهة الشعبية الجديدة» التحالف اليساري الحاصل على عدد أصوات أكبر، بذريعة التقارب في الأصوات بين المتنافسين، كما لم يلبث أن أعلن أنه لا يوجد فائز في الانتخابات، وأن النتائج متقاربة بين الكتل الثلاث. كان ذلك يعني العودة للتوافق كوسيلة لاختيار رئيس وزراء أو أيلولة مسؤولية هذا الاختيار للرئيس.
الأزمة الفرنسية، التي أربكت الأسواق وأضعفت العملة الأوروبية، يظهر أنها أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، بل لعلها تهدد، بانهيار نظام الجمهورية الخامسة
ليساريون، خاصة جان لوك ميلانشون، من حزب «فرنسا الأبية»، عارضوا بشكل قوي اقتراحات ماكرون، محاولين التمسك بحقهم في تشكيل الحكومة كمجموعة فائزة بأكثرية الأصوات. هذه المعارضة وما تبعها من أعمال تظاهر وعصيان شارك فيها الآلاف من الفرنسيين، ذهبت بلا جدوى، حيث أصر ماكرون على اختيار رئيس وزراء من خارج المجموعة، بل على اختيار رجل محسوب على اليمين. الساخطون على الحكومة، الذين ما لبثوا أن تكاثرت أعدادهم، انتقدوا ميشيل بارنييه رئيس الوزراء الذي اختاره ماكرون في سبتمبر/أيلول، واتهموه بأنه اتجه لحل الأزمة الاقتصادية عبر الخيار الأسهل، وهو تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب، من أجل سد ثغرة العجز، التي تقدر بستين مليار يورو. ذلك السخط الشعبي كان له ما يبرره، حيث أتت الأحداث في وقت كانت فيه الشكاوى من التضخم والإفقار تتزايد بين الفرنسيين، الذين كانوا يأملون أن تغير الحكومة الجديدة واقعهم. سهّل كل ذلك مهمة تأليب الناس على الحكومة، التي كانت تتجه لمضاعفة أسعار الخدمات كالكهرباء، وتخفيض الدعم الاجتماعي. الحكومة أظهرت تراجعاً عن بعض قراراتها تحت الضغط الشعبي، لكن هذا لم يشفع لبارنييه، ولم يخفف من حدة المطالبة بتنحيته، بل إن التظاهرات الغاضبة من فئات المهنيين المختلفة استمرت حتى بعد الإعلان عن استقالة الحكومة. من المفارقات أن كلاً من اليمين واليسار، ولأول مرة في التاريخ الفرنسي الحديث، اشتركا في هدف معارضة حكومة بارنييه ورفض الإجراءات، التي كانت تنوي تطبيقها، ومن بينها مشروع الموازنة. اشتراك الكتلتين في مخطط حجب الثقة عن الحكومة أدى في الأخير لإسقاطها في وقت قياسي. بهذا تكون الأزمة، التي تعيشها فرنسا حالياً بعد حل حكومة بارنييه ثلاثية الأبعاد، فهي في المقام الأول أزمة اقتصادية، وهنا كثيراً ما تتم الإشارة إلى أن عوائد الديون الفرنسية صارت مقاربة للعوائد والفوائد اليونانية. هذه المقاربة توضح حجم التدهور الاقتصادي، بالوضع في الاعتبار مكانة اليونان، التي ينظر إليها كواحدة من أكثر الدول هشاشة في القارة.
يأتي في المقام الثاني البعد السياسي والرئاسة الفرنسية المتخبطة والفاشلة، لكن التي يجبر الجميع على الصبر عليها لحين عقد انتخابات في 2027. مع أن سياسيين مثل اليمينية مارين لوبان يدعون علانية لتنحي ماكرون بسبب ما حمله عهده من انتكاسات، إلا أن حظوظ عقد انتخابات رئاسية مبكرة ما تزال ضئيلة. مارين لوبان، التي حصل حزبها منفرداً على عدد الأصوات الأكبر، كانت أحد أهم اللاعبين السياسيين خلال الأشهر الماضية، حيث لم تنجح الاتهامات الموجهة لها، سواء بشأن علاقتها بروسيا، أو بتبديد أموال الاتحاد الأوروبي في إسكات صوتها الناقد، أو في إفقادها الثقة في حزبها كحزب قادر على الفوز في الانتخابات. لثقلها السياسي، فقد كان قيل إنها كانت موافقة على ميشيل بارنييه كرئيس وزراء، لكن المجالس السياسية كانت تقول أيضاً إن بإمكان لوبان أن تعمل على تنحيته في أي وقت، إذا ما خالف توجهاتها، أو تعارضت رؤيته معها، وهو ما يبدو أنه حدث فعلاً، حيث تتهم السياسية اليمينية، بأنها هي من هندست مخطط إسقاط الحكومة، وهو ما ذهبت إليه صحيفة «نيويورك تايمز» في تحليلها المعنون: «فرنسا مأخوذة كرهينة»، حيث اعتبرت الصحيفة أن في هذا دليل جديد على النفوذ، الذي يملكه اليمين المتطرف في فرنسا.
أما البعد الثالث فهو المعضلة الدستورية، المتمثلة في أنه، ووفقاً للوائح الوطنية، لا يمكن عقد انتخابات برلمانية جديدة قبل مرور عام على الانتخابات السابقة، ما يعني الانتظار حتى منتصف العام المقبل قبل الدعوة لتصويت جديد. هذه الفترة، الممتدة من تاريخ اليوم وحتى عقد انتخابات جديدة سوف تكون صعبة، فإما أن يستمر بارنييه بقيادة حكومة تصريف أعمال غير مرضي عنها، ولا تملك تفويضاً من أجل اتخاذ أي قرار مهم، أو أن يتم اختيار رئيس وزراء جديد مرة أخرى على هوى ماكرون وبغض النظر عن أي تصويت أو انتخاب.
الأزمة الفرنسية، التي أربكت الأسواق وأضعفت العملة الأوروبية، يظهر أنها أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، بل لعلها تهدد، كما ذهبت في ذلك صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية بانهيار نظام الجمهورية الخامسة، الذي استمر لمدة ستين عاماً. «فرنسا تخطو نحو المجهول»، هذه هي الجملة التي وضعتها مجلة «إيكونومست» على غلافها لعدد هذا الأسبوع، أما أبلغ ما كتب في الصحافة الأوروبية حول الموضوع، مما اطلعنا عليه، فكان ما ورد في صحيفة «دير ستاندرد» النمساوية، التي كتبت في عنوان لافت أنه «كلما طال بقاء ماكرون، اقتربت لوبان من الرئاسة».
في الواقع فإن هذه الحالة من العجز وانعدام اليقين مثالية لتقدم اليمين، للتذكير، فقد أدى التجمع الوطني، اليمين المتطرف، أداءً حسناً بالفعل في الانتخابات الماضية مقارنة باليسار، الذي اضطرّ لأن يجمع مجموعة متناقضة من الأحزاب والتيارات تحت اسم تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» من أجل تعزيز موقفه. ما تزال حالة الاحتقان الشعبي مستمرة، حيث يشعر كثير من المواطنين بأن أصواتهم لا معنى لها، وأن الصورة بشأن مستقبلهم ضبابية. من المشكوك فيه والحال هذه أن تحل هذه التنحية، واستبدال شخص بارنييه، المشكلة الاقتصادية، حيث يتوقع أن تلجأ أي حكومة مقبلة للإجراءات ذاتها من أجل الخروج من مأزق الدين.
كاتب سوداني