فضيلة الاعتراف بالهزيمة

سيطرت على الأنظمة العربية غريزة عنيدة ترفض الهزيمة، ولكن ذلك لم يترافق بالتطلع إلى تجاوز أسباب الهزيمة والعودة من جديد، بقدر ما كانت تعبيرا عن رفض الإقرار بفشل مشروعها، الذي يعني ضرورة إنهائه وإفساح الطريق لمشروع بديل، وأمعنت هذه الأنظمة في الاستهانة بالشعوب التي دفعت ثمن الهزيمة، لتقنعها أحيانا بأن ما حدث كله،ما هو إلا محطة تعثر أو انتكاس، وأن معالجة بعض الأمور هنا أو هناك سيؤدي إلى استئناف المسيرة (المظفرة) للنظام. وإلى اليوم ما زالت تتعالى الأصوات التي تحذر من الاعتراف بالهزيمة، وتتجاهل أن هزيمة نظام ومشروعه لا تعني مطلقا أن الهزيمة ستلحق بالشعب ووجوده، في حالة من الإصرار على التماهي الكامل بين النظام والشعب، وهو ما لا يتسق مع الواقع الملموس، الذي يؤكد أن هذه الأنظمة عملت على بناء وقائع تفتيت طبقية أو طائفية.
في مراسم مهيبة كان إمبراطور اليابان يتقدم ليوقع اتفاقية الاستسلام بعد الحرب العالمية الثانية، وتزامن ذلك مع انتحار مجموعة من القادة العسكريين اليابانيين بطعن أنفسهم بالسيف في الطقوس التقليدية لـ»الهارا كيري» اللائقة بالمقاتلين العسكريين بعد الهزيمة، وعلى الطرف الآخر من العالم، كان القائد الألماني أدولف هتلر يطلق النار على رأسه مع تقدم القوات السوفييتية إلى برلين، وكم تبدو هذه الحالة متعالية على الوضع الذي ظهر به الرئيس العراقي صدام حسين مختبئا، أو الرئيس الليبي معمر القذافي قبل مقتله على يد إحدى الميليشيات التي كان يزرع بذرة وجودها في بلده، وكانت النتيجة هي سقوط اللا دولة التي عملا على تأسيسها لمصلحة نظام أناني يعتبر الدولة تابعة لطموحه ومشروعه، لا الرافعة والمبرر الأصلي والأساسي لوجوده، دولة تصبح مع الوقت تجسيدا للنظام، وتلغي فكرة أن يكون النظام تمثيلا لها.

الهزيمة من الأحداث التاريخية، التي تصنع في حالة إقرارها البداية الجديدة التي تحتاجها بعض الشعوب، لأنها تكشف عن أوجه الخلل في بنية النظام، وعدم صلاحية قيادته في قراءة المواقف وتصور النتائج

يوجد فرق بين الهزيمة وإعلان الاستسلام، فلا أحد طالب الأنظمة العربية بالاستسلام في الأيام الصعبة التي أتبعت الخامس من يونيو، على العكس من ذلك، خرجت الجماهير إلى الشوارع لتعلن بأنها ستقاتل، ولكن التحايل على الأمر الواقع، ورفض فكرة الهزيمة وصل إلى نقطة هذيانية مع النظام السوري، الذي أتى رفضه مبررا أن اسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط النظام، مع أن ذلك لم يكن ليحدث من غير منظومة القمع الداخلي المتفشية، والدعم السوفييتي الذي تلقته دمشق، وهي عوامل ليست لها أية علاقة بالأسباب الأصلية للهزيمة والمتعلقة بتركيبة النظام وأدائه خلال السنوات التي سبقت الهزيمة.
في المقابل، لم تكن المراجعات المصرية كافية، وعملت على استيعاب أسباب الانتكاس المختلفة جذريا عن الهزيمة، ولم تتمدد هذه المراجعات لتقف عند أسباب ارتبطت أساسا بالرؤية السياسية القائمة لدى رأس النظام، الذي خرج منتشيا بعد أزمة السويس 1956 ليقنع المصريين بأنه حقق انتصارا يقوم على أسباب ذاتية تتعلق بالنظام نفسه، وليس استجابة لواقع موضوعي رأت خلاله موسكو وواشنطن ضرورة كتابة الفصل الأخير للاستعمار التقليدي، على ضفاف قناة السويس.
لم يعترف جمال عبد الناصر بالمسؤولية عن الفشل المؤسسي الذي أدى إلى الهزيمة، واعتبرها نتاجا للمؤامرة، في حالة تعكس شيئا من السذاجة السياسية، وكأنه لم يدرك منذ اللحظة الأولى أن بلاده تعيش في صراع متواصل، وأن القوى الاستعمارية القديمة والجديدة لن تتوقف عن ممارسة الضغوط على نظامه، وبدلا من أن يفتح الباب لجميع القوى لتثري النظام، وتعمل على تحقيق المنعة اللازمة لاستمراره ووجوده، على الرغم من التحديات والتهديدات الكبيرة التي تحيط به، أصر على ترك الأمر لمجموعة من أصدقائه المقربين، وفي مقدمتهم عبد الحكيم عامر، الذي أثبت عدم كفاءته في العديد من المحطات قبل أن يصل إلى النتيجة الكارثية في الخامس من يونيو. بقي الوضع أفضل نسبيا من سوريا، فعامر يتنحى من المشهد منتحرا أو منحورا، وتتاح الفرصة لمجموعة من القيادات من أصحاب الكفاءة، أما ما حدث في سوريا، فهو الوصول بوزير الدفاع والمسؤول المباشر عن الهزيمة إلى موقع رئاسة الجمهورية، في انقلاب لا يختلف مطلقا عن الانقلابات الكثيرة السابقة التي دفعت بالنظام السوري إلى حالة من الهشاشة تبدت في هزيمته السريعة وسلوكه الانسحابي أثناء حرب يونيو، مع أن النظام الذي كان طرفا أساسيا في التصعيد، ولكنه تخيل أن العالم بأسره يخضع لخطابه السياسي الداخلي، وتنطلي عليه المقولات المعدة للاستهلاك المحلي، وكم يبدو ذلك قريبا مع حالة الانفصال عن الواقع، التي اعترت الرئيس السوري (الأسد الابن) في الأشهر الأخيرة من حكمه.
لم يعترف صدام حسين يوما بالهزيمة في حرب الخليج الثانية، وبقي نظامه قائما على المبادئ نفسها وعازفا عن إجراء أية مراجعات أو إصلاحات ضرورية، لأنها تعني ببساطة تجاوز النظام نفسه والتأسيس لنظام مختلف، الأمر الذي لا يمكن أن تتحمله عشرات القيادات من غير أصحاب الكفاءة والمفتقدة للشرعية بشكل كامل من أقارب الرئيس وعائلته، ممن تحصلوا وقبضوا على عملية صنع القرار في العراق، وأخذوا يتمتعون بالمزايا والامتيازات من غير أي مبرر منطقي، وبدلا من محاسبة هذه الطغمة، تخلص النظام من بعض الضباط الذين تطلعوا إلى مراجعة قرار غزو الكويت ونتائجه.
الهزيمة من الأحداث التاريخية، التي تصنع في حالة إقرارها البداية الجديدة التي تحتاجها بعض الشعوب، لأنها تكشف إما عن أوجه الخلل في بنية النظام، أو عدم صلاحية قيادته، في قراءة المواقف وتصور النتائج، وفي حالة المكابرة والتواصل في التضليل فإن نظام الهزيمة يعود إلى لملمة مكتسباته، تحت ذريعة العودة واستئناف المعركة، من غير أن يجري أية إصلاحات جذرية، أو يتيح الفرصة للشعب من أجل التفاعل تجاه استيعاب واقع الهزيمة، التي يمكن أن تكون كامنة أصلا في بعض تصوراته وأفكاره وتقاليده، وفي مسيرة إنكار الهزيمة يتصاعد القمع لتتشكل داخله تفاعلات الغضب الكامن المستعد للانفلات، تجاه الاقتتال الذي يتخذ صورة انتقامية، لينتج في النهاية نظام يواجه المشكلات التي صنعت الهزيمة السابقة، ويتصرف وكأنه الوجه الآخر للعملة نفسها.
الاعتراف بالهزيمة لا يعني الاستسلام، ولا يعني التوقف عن المسيرة، ولكنه ينظر في أسباب فشل تجربة كاملة ويحاكمها، بدلا من الانصياع لشروطها من جديد، والإبقاء على العوامل نفسها التي حركتها وتغذية أوجه ضعفها من جديد، فحالة الإنكار هي الضربة القاضية التي تأتي من الداخل، ولا تفعل هذه الحالة من الغرور والمكابرة، التي تصبغ عادة الأنظمة القمعية والاستبدادية، سوى زيادة الطين بلة، كما تبدى وظهر واضحا في الأوضاع التي أنتجها سقوط هذه الأنظمة غير المؤمنة بفكرة الهزيمة، وما تقتضيه من مراجعة ومحاسبة في العراق وليبيا.
إن لم تكن الحالة التي تعيشها معظم الدول العربية حاليا، تعبيرا عن الهزيمة وتجليا لها، فما الذي يمكن أن يوصف به الكثير من الأحداث والمحطات المريرة التي عاشتها الشعوب العربية، ودفعت وما زالت تدفع الكثير ثمنا لها.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    ورب العزة و الجبروت الحي الذي لا يموت إن الهزيمة النكراء بانتظار عصابة تل أبيب يا حبيب طال الزمن أو قصر والهزيمة هي وعد ووعيد إلهي مذكور في القرآن يا إخوان ✌️🇵🇸🤕☝️🔥🐒🚀

    1. يقول أبوفارس أحمد:

      سنن الكون لا تتغير بالدعوات والأمنيات..

  2. يقول عربي أصيل:

    الهزيمة هي اسرع طريق للنصر

  3. يقول تيسير خرما:

    عبر 77 عام يتوهنا منظرونا بسؤال هل حقق العدو كل أهدافه لاستنتاج نصرنا بكل حرب بادرنا نحن بشنها عليه (حروب جيوش عربية 1948/ 1967 /1973 وحروب حركات مسلحة 1982/ 2006/ 2014/ 2024) طالما أنه لم يحقق 100% من أهدافه وعادة تكون أهداف مبالغ بها من مخططي العدو تبدأ بإفشال كل حرب نشنها نحن عليه وتنتهي بتحقيق ما أمكن من إنجازات إضافية له، وتجنب منظرونا كل مرة طرح سؤال هل حققنا هدفنا من مبادرتنا نحن بشن حرب عليه أم فشلنا بل تسببنا كل مرة بخسائر فادحة لجيوشنا وحركاتنا المسلحة ونكبات لشعوبنا واقتصادنا وسيادتنا

    1. يقول عمر علي الهاشمي:

      العرب هم اللذين كانو يعلنون أهداف اسرائيل، لكي يعلنو بعدها فشل اسرائيل

  4. يقول حسان:

    الارجح ، وكما يتبلور هذا الانطباع بل الادراك لدى الكثيرين ان هذه الانظمة المذكورة قد
    وجدت/اقيمت لكي تهزم ( فعل مبني للمجهول..) ، وذلك واضح بالنظر الى موردها
    وبنيتها ومقدماتها الراسخة في الوهم
    والاستبداد وبناء الانسان المنوم المهزوم سلفا.لذلك فان من الجهل ان نتوقع منها
    استخلاص العبرة والعدول عن نهجها
    العجيب، بما انها وجدت لكي تهزم مرارا
    وتكرارا وبالتالي يصبح الياس والقنوط دين
    شعوبها وحتى لو خلصت هذه الى حقيقة
    ان من يحكمونها ما هم سوى ادوات ووكلاء
    العدو فان ذلك لن يغير في الامر شيءا..
    ا

  5. يقول ابن الجنوب:

    أحسنت النشر يا كاتب هذا المقال لانه مقال شافي وافي متكامل

  6. يقول بوكريم:

    من العشاءرية الى اللادولة ومنها إلى الدولة العميقة…، يبرز العاملان المتطاحنان عبر التاريخ في إدارة الشأن العام لكل تجمع بشري (حتى في أعرق الديمقراطيات اليوم) ألا وهما الصراع بين قيمتي الحق والقوة…

  7. يقول مراقب صريح صريخ:

    مقالة تثرى الثقافة والمعلومة في فهم الفرق بين الاعتراف بالهزيمة وبين الاستسلام ،، وبالتالي ماذا يعني الاعتراف بالهزيمة ؟،

  8. يقول قدور بن جعفر:

    وتبقى دول الخليج واحة للديموقراطية والحرية بدون أحزاب ولا نقابات .. ومع ذلك لا يتجاوزها الزمن .. ودائما في طليعة الاصلاحات وسجلها خال من الهزائم …

  9. يقول تاريخ حروب الغرب وأتباعهم:

    اذا كانت دول المحور المانيا ايطاليا اليابان أمام الحلفاء والسوفييت، فنعم على المهزوم الاعتراف والتسليم، فقد كان إعداد واستعداد حربي هائل قبل وأثناء الحرب من قبل الطرفين ومثابرة على الانتصار، والنتيجة نصر أو هزيمة لأحد الطرفين. ويمكن تطبيق وجهة النظر على الحرب الكورية وفيتنام. ففي تلك الحروب لم يكن تكافؤ ولكن حظي الطرف الأضعف بدعم وظروف مساندة. ولكن هناك جبهات محدودة ومحكومة النتيجة مسبقا أي كانت مفتعلة لغايات وأجندات إحداث تغييرات ديمغرافية وفرض واقع. فلا تسليم بهزيمة بل بتواطؤ! وهناك تنصلات ونكوص على العقب وتخاذل وتآمر لا يجعل غيور وعاقل ومنصف أن يطلب من الطرف “الوحيد في الميدان” التسليم بهزيمة (مجرد مقارنة الترسانة). فإذا تمسك بالصمود والثبات ما يطيل الحرب(ليس في صالح أطراف) ومعاناة ولكن فتح عيون وبصائر عالميا وتوعية وحشد إنساني وتحريك ضمائر، وزعزعة منابر عتيدة وافتضاح زيف وخبث وكيد ومكر تاريخي.

  10. يقول عماد غانم:

    عرض على (الشهيدين القائدين الرمزين/صدام حسين ومعمر القذافي) ما عرض على نابليون ، لجوء سياسي في المغرب أو الأردن على صدام والأردن على القذافي ، ورفضا
    في وثائقي ياباني حصد عدة جوائز ، يسرد الحرب على العراق ثلاثة أطفال ، واحد من بغداد والثاني من البصرة والثالث من كردستان، طفل بغداد فقد كل عائلته ويعاني اضطرابات نفسية وتبناه صاحب حانوت، يكنس المحل ويعنفه عندما يفشل في كتابه إسمه .. في محل حلاقة يعرض التلفاز مباشرةً إلقاء القبض على صدام و(لم تنطلي البروباغندا على الطفل) كما انطلت على النخب، فهم يتعمدون إظهاره – وكل العرب والمسلمين – قذر ومستسلم .. أما القذافي فقد حصل و65 من مرافقيه على ضمانات لمغادرة سرت لسبها ، فغدروا به وقصفوا الموكب وكان الممثلين والكاميرات جاهزة ..
    الجيوش والحكومات العربية نهضت من كبوتها وعدلت الكفة .. انتصرت باكستان مؤخراً باقتحام مراكز حدودية وقواعد عسكرية هندية، فنقل المعركة لأرض الخصم عربون الانتصار ، أمريكا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية ، مصر في نصر ووقفة حزب الله لعام مع غزة، أما حماس فكانت حساباتها خاطئة منذ البداية

اشترك في قائمتنا البريدية