فكرة الانتماء بين الجين والطين

حجم الخط
15

تدفع الظروف مجاميع من البشر إلى الاجتماع في مكان ما لمصالح اقتصادية وسياسية، تبحث تلك المجاميع عما يجعلها كتلة موحدة لمواجهة القوى المختلفة سواء كانت طبيعية أو بشرية، لاتقاء المفاسد وجلب المنافع. هذا التجمع كان يسمى قبيلة، والقبيلة «قوم أتوا من كل قبيل»، أي من كل جهة. وفي تشكيلة القبيلة يبرز عامل «المكان»، كجهة قدوم، ومحل إقامة.
القبيلة ـ إذن – عبارة عن تجمع لعشائر «متعددة الأجداد»، جمعها «مكان واحد»، في «تحالف قبلي»، حتّم اختراع «جد واحد»، أو «أصل طوطمي» واحد، يجمع عناصر ذلك التحالف المختلفة، كأن يكون هذا الجد لأكبر تلك العشائر، ثم يعمم الانتساب إليه على باقي العشائر، من أجل ضمان وحدة القبيلة أو التحالف القبلي لتحقيق أهداف معينة.
ولكن، ألا يوجد «جد واحد» لمجموعة من الناس؟ بالطبع يوجد، وهذه المجموعة تسمى «عشيرة»، وهي مأخوذة من تقليد عربي قديم، بمقتضاه كان العرب يفاخرون بإنجاب الرجل «عشرة» من الولّد»، ثم عمم اسم «العشيرة»، ليطلق على «أبناء الجد الواحد»، مهما كان عددهم، على عكس القبيلة التي يمكن أن تنتسب لأجداد مختلفين، يجمعهم تحالف قبلي، ينتسب لجد افتراضي متخيل، لا وجود له إلا في مخيلة أفراد هذا التحالف.
ومع جملة من العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية تطورت المجتمعات البشرية، وبدأت عمليات التحول الكبيرة من العشيرة (أبناء الجد الحقيقي الواحد) إلى القبيلة (أبناء الجد الافتراضي الواحد) في تغليب لعامل «الانتماء الطيني» على «الانتساب الجيني»، وهو انعكاس للتطور من «الدوغمائية الجينية» إلى «البراغماتية الطينية»، أو من «الجد» إلى «الوطن»، إن جاز التعبير.
قبل تلك المرحلة لم تكن فكرة الانتماء للمكان حاضرة في العقلية العشائرية، حيث وطن البدوي خيمته، وجدُّهُ انتماؤه، ولهذا كانت العشائر البدوية تنتقل من مكان إلى آخر، قاطعة أواصر الانتماء بأي مكان (وطن) لأن المهم في هذه المرحلة كان «الانتماء الجيني»، ومادام جميع أفراد العشيرة ينتقلون فإنه لا يتبقى من الوطن إلا «أطلال» يبكي عليها الشعراء، ليس لكونها وطناً، بل لكونها ذكرى حبيب غارب.
وفي المراحل المجتمعية التي مر بها البشر تنعكس صورة تطور أنماط الحياة والفكر والمعتقدات والفنون والآداب والانتماءات من مرحلة العشيرة والانتماء الجيني إلى مرحلة القبيلة وانتماء هو مزيج بين الديني والمكاني، وصولاً إلى مرحلة الشعب والانتماء الوطني الذي يفترض أنه خلص إلى حدٍ ما من علائق الانتماءات الأخرى.

مع تحول الإنسان من العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب، وانتقاله من بيت الشَّعْر إلى بيت الطين إلى ناطحات السحاب الإسمنتية، تغلبت فكرة الانتماء للمكان على فكرة الانتماء للجد، عبر جملة من المصالح الاقتصادية والسياسية

ومع تحول الإنسان من العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب، وانتقاله من بيت الشَّعْر إلى بيت الطين إلى ناطحات السحاب الإسمنتية، تغلبت فكرة الانتماء للمكان على فكرة الانتماء للجد، حيث تعيش مجموعات بشرية غير مترابطة جينياً، ولكنها مرتبطة وطنياً، عبر جملة من المصالح الاقتصادية والسياسية التي تنعكس في الانتماء لمكان واحد، لا جد واحد، هذا المكان تم الاصطلاح على تسميته وطناً، بما يحمله الجذر الثلاثي لكلمة «وطن» من إيحاءات «المكوث والاستقرار، وتجاوز مرحلة الترحل والانتقال».
مع هذا التجاوز ولدت مرحلة الدولة والشعب، بانتقال الإنسان من طور العشيرة/القبيلة إلى طور الشعب، وانتقاله من أساليب الحياة القبلية في البوادي والغابات إلى أساليب العيش المدنية على ضفاف الأنهار، حين بدأت مرحلة الاستقرار، والانتقال من مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة، وما بعدها، وصولاً إلى الثورة الصناعية، وما تلاها من ثورات.
ومع كل ذلك، فإن مراحل التطور ليست واضحة الحدود، إذ يحصل تداخل مرحلتي تطور في زمن ومكان معين، فتتعايش القبيلة والدولة لدى بعض المجتمعات، ومن هنا يقوى أحياناً الحنين للمرحلة الطوطمية والجد الجيني، وحكايات «العرق النقي»، و«شعب الله المختار»، و«الطيبون الأطهار». وإذا كانت المصالح الاقتصادية ـ في المقام الأول ـ هي دافع حركة التاريخ، كما يرى كارل ماركس، فإن تلك المصالح ـ فيما يبدو ـ تلعب دوراً مهماً في محاولات الإنسان المعاصر التقوقع حول الأفكار اليمينية، مثل: «الوطنية العصبوية» و«القومية الشوفينية» والعودة لفكرة «العرق الآري» و«الرجل الأبيض» و«السلالة الطاهرة»، ومحاولة إنتاج الأفكار العشائرية في حلة معاصرة أنيقة، مدعمة بمبتكرات التكنولوجيا الحديثة، ومدعومة بنظريات فلسفية وأفكار دينية، لتبرير سلوكيات وتدعيم رؤى لا تعدو كونها ترجيعاً لتصورات رجل الغابة أو البادية القديم عن الإنسان الكون والحياة.
ومع انهيار المعسكر الشرقي الذي كان ـ ولو نظرياً ـ الحامل الرئيس لتوجهات اليسار العالمي بدأت حركات اليمين في التضخم، ومع العقود الماضية اكتسبت تلك الحركات في أوروبا والأمريكيتين زخماً شعبياً واسعاً، أوصل الكثير منها إلى السلطة، في مؤشرات على أن «البدوي الصغير» الذي يسكن داخل كل منا بدأ يكبر ويشب عن الطوق، حتى خرج إلى الشارع، ببدلة أنيقة، حاملاً جهاز حاسوب متقدم، وآخر مبتكرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبدأ يخاطب الناخبين ببرامج انتخابية، مكنته من صدارة المشهد السياسي.
وبوصول التيارات اليمينية إلى السلطة يقترب «الأداء السياسي» من «الأداء العشائري»، ويبدأ الحديث عن القوة الخشنة، وتختفي لغة الدبلوماسية، في مقابل بروز التهديد بالحرب، ولا تعدو الدولة – والحالة تلك – كونها قبيلة على هيئة دولة، ويصبح رأس الدولة شيخ عشيرة بربطة عنق، و«زِر نووي»، مكان العمامة و«الرمح الرديني»، وتصبح المصالح الاقتصادية التي دفعت الإنسان للانتقال من مرحلة العشيرة/القبيلة إلى مرحلة الشعب، تصبح هذه المصالح دافعاً له للعودة – مجدداً ـ لعباءته القديمة، ويرجع الإنسان المعاصر كائناً بدائياً، يبحث عن «جده الجيني أو الطوطمي»، بدلاً عن «أبيه الوطني الترابي» الذي ذكر نبي الإسلام أنه جد البشرية كلها، حين قال: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»، في لفتة عميقة، لأصل الإنسان وحقيقة انتمائه.

كاتب يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    المفروض أنْ تسجّل لحضرتك هذه التسمية: { فكرة الانتماء للجين والطين والوطن }؟ ربّما لم تذكر قبيلة جديدة يبدو
    أنْ سيكون لها سطوة التفوّق هي إنسان الألكترون الآليّ؛ الذي طفق يغزو كلّ مكان؛ من دون جين ولا طين ولا وطن.
    فكيف وقد عُزز بالذكاء الاصطناعيّ؛ وما سنرى المزيد منه؛ وهلم جرا ؛ فسوف يكون سيد القارات الستّ طرًا.

  2. يقول علاء:

    يبدو أن الإنسان بدأ من الغابة وسيعود إلى الغابة.

  3. يقول أبو تاج الحكمة الأول:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الكاتب الكريم ألا يستحق رسول الإنسانية النبي العربي محمد كلمة الصلاة والسلام عليه بجوار اسمه الشريف

  4. يقول جميل:

    رحلة ممتعة لهذا الإنسان بين البداوة والحضارة، ويبدو ان الإنسان بعد أن يصل قمة التطور الصناعي والتكنولوجي سيعود لعصر الغابات والبوادي.
    شكراً لهذا الموضوع الشيق.

  5. يقول رائد:

    هذا المقال وقع في تناقضات كثيرة وهناك فجوات ابستمولوجية، وايديولوجية لا تنسجم مع طبيعة التفكير الديالكتيكي.

    1. يقول جهاد:

      أخ رائد لم أفهم ماذا تريد أن تقول؟
      ألفاظ غريبة ضيعت المعنى.

    2. يقول الرَّائِي:

      أتفق كليا مع الأخ رائد –
      بالفعل هناك فجوات إبستمولوجية وأنطولوجية لا تتواءم فينومينولوجيا مع ماهية التفكير الديالكتيكي!

    3. يقول جمال:

      المقال واضح، ولا أدري ماذا قصد المعلق رائد بعباراته الأبستمولوجية والديالكتيكية.
      ومع ذلك اتفق معه، كما اتفق الرائي.
      ولله في خلقه شؤون

  6. يقول الدكتور جمال البدري:

    وأنا أكتب تعليقي بشأن مقالك أمام نافذة تطلّ على جمال الله في الوجود؛ تمنيّت أنْ أرى في تلك السّاعة غيث مطر
    ذي جود؛ فرؤيتي للمطر تنعش فؤادي الصادي المصدود؛ فالمطر عندي بريد الرّوح للقريب والبعيد؛ فاستجاب الله لرجائي الموعود ؛ فقلت في ذلك: { سبحان منْ يُنشي السحاب ويجعل…….في القبة الزرقاء مزنًا يهطل }.{ فيمدّه من غربها لشروقها…….مدّ الحبيب بوصله يتدلل }.{ فيسرّ محزن الفؤاد بمائه…….ويزيل عبئًا فوق ظهر يثقل }.لقد ابتلت
    الأرض بالغيث ( الجميل )؛ لكنني لم أرَ طينًا ذي وحل زلق عليل.بل زاد الجمال جمالًا؛ كأنّه من الثريا تهليل على تهليل.
    وأؤكّد أنّ مقالك ياعزيزي جميح المحترم؛ أعمق من مجرد مقال؛ فليس فيه تناقضات الديالتيك ذي الجدال ؛ فمنْ عسر عليه المقال؛ ليقرأه بهدوء من دون قيل ولا قال.فهو من كاتب ورث حكمة اليمن الأقيال.

    1. يقول ليلى الصباغ - الناصرة:

      أخ جمال على ذكرك للغيث الجميل، يقول صديقك شاعر الفراتين غياث المرزوق منوّها إلى اسمك أيضا –
      /… أَهْـلًا
      بِقَـــــارِئِ حَيِّنَا،
      بِٱلْكَاتِبِ –
      وَجَمُلْتَ مَرْتَبَةً بِبَــحْرِ
      مَرَاتِبِ
      /…
      /… وَتَحِيَّةً،
      بَــــدْرَ ﭐلْــعِرَاقِ،
      بَهِيَّـةً –
      مِـنْ غَـرْبِ غَـرْبٍ
      طَافِحٍ –
      بِغَرَائِبِ
      /…
      /… هَــا
      مَيْنُ خَوْفٍ مِنْ هَوَامٍ
      جَائِحٍ –
      أَوْ مِـــنْ صَـــرَاصِـــيرٍ
      تَنُــوءُ –
      بِــجَائِبِ
      /…
      /… يَأْتِي
      ﭐلْعَسِيفُ عَلَى ﭐلْهَوَامِشِ
      لَاهِثًا –
      مِنْ كُلِّ فَـــجٍّ أَوْ زُقَـــاقٍ
      خَائِبِ
      /…
      /… مِــنْ
      بَعْـــدِ عَتْـفَتِـهِ ﭐلْمَدِيـــدَةِ
      حَاضِرًا –
      كَبَغِيَّـــةٍ مُسْــــتَرْجِلٍ فِي
      ﭐلْغَائِبِ
      ***
      / عن قصيد، «خَفَايَا ٱلْعِشْقِ ٱلْأَرْبَعُونَ: خَفِيَّةُ ٱلْاِثْتِنَانِ» (25)، شعر غياث المرزوق
      *

  7. يقول ليلى الصباغ / الناصرة:

    كنا في الفصول الدراسية يقول لنا الأساتذة : فهم السؤال نصف الجواب.كذلك فهم المقال كل الجواب..والمقال مكتوب بلغة عربية واضحة فأين القصور في الفهم يا ديالكتيك؟

  8. يقول خليل الناصري:

    الإنسان في داخله غرائز حيوانية تتحكم في سلوكه، والأمر الوحيد الذي يحد من تغول الغرائز هو لدى هذا الإنسان هو الوازع الديني الذي يهذب هذا السلوك.
    ومهما لبس الإنسان من لبوس او مهما كان وضعه الاجتماعي فغنه يظل محتفظاً بغرائزه في المال والسيطرة والجنس، سواء كان بدوياً ضمن مجتمع قبلي أو مدنياً ضمن مجتمع متحضر.

  9. يقول رابعة:

    بعد التحية الطيبة للأستاذ محمد جميح، أود إبداء بعض الملاحظات النقدية في هذه العجالة:
    أولا، القول بأن القبيلة قوم أتوا من كل قبيل، أي من كل جهة، ليس دقيقا، ما دام التعريف اللغوي يقرّ بأنها جَماعَةٌ كَثِيرَةٌ مِن النّاسِّ يَرْجِعُونَ إلى نَسَبٍ واحِدٍ. فبدلا من القول بالقبيل فإن أصْل الكلمة من التَّقابُلِ والمُقابَلَةِ، أي المُواجَهَةُ، ومنه سُـمِّيَت القَبِيلَة؛ لِتَقابُلِ الأنْسابِ فيها وتَلاقِيها في أُصولٍ واحِدَةٍ. حتى معجم المعاني الجامع يقول، القَبِيلَةُ جماعةُ من الناس تنتسب إِلى أَبٍ أو جَدٍّ واحد..
    ثانيا، هناك التباس جلي حول مفهوم الطوطمي الذي لا يشير عادة إلى الإنسان بقدر ما يشير إلى حيوان أو نبات أو أي بُدٍّ لآخر. والطوطمية وُجدت لدى عرب الجاهلية إذ كان لكل قبيلة صنم خاص بها على صورة حيوان أو رمز نباتي أو حتى “شبه إنساني”. وهو عادة شيء مادي مرسوم أو مجسم تعتقد جماعة ما أنه يحتوي على صفات روحانية خارقة ضمن مقدساتها وميراثها الخاص بها.. (يتبع)

    1. يقول رابعة:

      ثالثا، يُلاحظ أن التطور البشري من مرحلة العشيرة إلى مرحلة القبيلة ومن ثم إلى مرحلة الشعب قد أُخذ بعكسيَّته حسبما يُدلي به النص القرآني إذ قدَّم الشعوب على القبائل {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}-الحجرات:13. وقيل إن اسم الجمع ‹الشعوب› جاء للإشارة إلى الأنساب وإن فعل الجمع ‹لتعارفوا› ورد للتلميح إلى عرفان الناس بعضهم بعضا في النسب والقرابة من الله (أي قربة تقربكم إلى الله). وقيل أيضا إن ‹الشعوب› بمعنى الأفخاذ والقبائل بمعنى الأفخاذ الدون، وإن الشعوب بفحوى البطون والقبائل بفحوى الأفخاذ (مع تضارب الأقوال )..
      رابعا، مرةً أُخرى، يتكشف التقرير عن إساءة فهم سافرة للنظرية الماركسية (الدياكتيكية)، فالتصريح بأن «المصالح الاقتصادية ـ في المقام الأول ـ هي دافع حركة التاريخ» غير صحيح هو الآخر. ذلك لأن الجانب الاقتصادي لَمتعلّق بأنماط الإنتاج أولا وآخرا، وأن حركة التاريخ إنما هي مرتبطة بميداء الصراع الطبقي بحسب القانون الديالكتيكي، قانون ‹صراع الأضداد›، دافعا الناسَ جميعا نحو الوصول إلى الاشتراكية (الشيوعية) ومعلنا بيقين لا محيد عنه بأن النظام الرأسمالي سوف يدمّر نفسه بنفسه كحتمية تاريخية – وهذا مما نرى شيئا من إرهاصاته الآن في هذا الزمان المتقلب سريعا وبسرعة البرق..

    2. يقول الناظر:

      ملاخظات متألقة وألمعية ولا ريب
      بارك الله وسدد الخطى يا أخت رابعة

اشترك في قائمتنا البريدية