فلسطينيو الداخل أو عرب 48 والحرب الإسرائيلية عليهم

على الأغلب في طول العالم وعرضه لا توجد مجموعة من السكان ذات سمات عرقية وثقافية معينة داخل مجتمع أكبر، يضطر المرء حين يريد الإشارة اليها أو الحديث عنها، إلى إنتقاء واحدة من عديد التسميات التي تُطلق عليها، مثلما هو الحال مع السكان العرب الفلسطينيين الذين شاءت ظروف عديدة أن يبقوا في أراضيهم وبلداتهم ومدنهم في الجزء الذي تم إحتلاله من فلسطين خلال حرب عام 1948 وما أعقبها مباشرة من إعلان قيام دولة يهودية – صهيونية في هذا الجزء سميت رسميا بـ»إسرائيل».
قائمة الأسماء التعريفية المستخدمة للإشارة إليهم وهي تحمل ايضا توصيفا لهويتهم، تتضمن على الأغلب التالي: «عرب إسرائيل» «عرب الداخل، «فلسطينيي 48» «عرب 48 «فلسطينيي الداخل» «الفلسطينيون داخل الخط الأخضر» إضافة إلى تسميات تستخدمها «إسرائيل» نفسها للإشارة إليهم من قبيل «المواطنون العرب في دولة إسرائيل» أو «الوسط العربي».

الأغلبية السكانية

في بدايات العام 1948 أي قبل أشهر قليلة على حملة التهجير والطرد الكبيرة للمواطنين العرب الفلسطينيين من أراضيهم وبلداتهم في فلسطين المحتلة عام 1948، كان هؤلاء يمثلون الأغلبية السكانية الأصيلة حيث اقترب عددهم انذاك من مليون نسمة (نتحدث هنا فقط عن فلسطين المحتلة في العام 48 بمعزل عن بقية أجزائها ممثلة بالضفة الغربية وقطاع غزة التي إحُتلت لاحقا ) مقابل أقلية يهودية كبيرة (نحو 31 في المئة في العام 1948 بعد ان كانت في اواخر العهد العثماني لا تتجاوز 8 في المئة) علما أن هذه الأقلية اليهودية الكبيرة ما كانت لتصل إلى هذا الحجم لولا الهجرة اليهودية المكثفة على الأخص من وسط وشرق أوروبا خلال فترة الإحتلال البريطاني لفلسطين بين عامي 1917 و1948.
في الأسابيع التي سبقت واعقبت الإعلان عن إقامة « إسرائيل « في أواسط العام 1948 كانت العصابات والميليشيات اليهودية المسلحة قد نجحت بالفعل (بتواطؤ رسمي عربي لا لبس فيه ) في تهجير ما بين 700 إلى 800 ألف فلسطيني من قراهم وبلداتهم، حيث لم يتبق من المليون فلسطيني في مناطق الـ 48 سوى نحو 167ألفا تركز معظمهم في منطقتي الجليل والمثلث.
وبعيدا عن الخوض في الظروف والأسباب التي مكنت فلسطينيي عام 48 من البقاء في أرضهم والنجاة من مصير التهجير خارج وطنهم، يمكن ملاحظة حجم التمييز والمعاناة التي تعرضوا لها منذ اليوم الأول من عمر الدولة الصهيونية في فلسطين ومعايشتهم لها، وهو تعامل قام أساسا على إعتبارهم بقايا لعدو مصيري تمت للتو هزيمته وهم بالتالي مجرد أعداء طبيعيين لمشروع هذه الدولة حتى وإن اضطروا للخنوع (المؤقت) لها ولسلطتها.
وهكذا انطلقت « إسرائيل « في تعاملها مع فلسطينيي 48 من منطلقين إثنين، أحدهما قانوني -رسمي اعتبرهم وبحكم الواقع جزءا من مواطني الدولة يحملون جنسيتها بموجب قانون المواطنة الذي أقره الكنيست الإسرائيلي عام 1952
وآخر قام على أساس الشك الدائم بولائهم «للدولة» وإمكانية تحولهم عندما تسمح الظروف إلى مقاتلين ضدها، وهو ما تجسد عمليا في فرض الحكم العسكري على القرى والمدن والبلدات العربية، والذي إمتد من عام 1948 وحتى عام 1966 وبموجبه تم تقييد حركة السكان العرب حيث لا يسمح لهم بالخروج من مدنهم وقراهم إلا بتصاريح من الحاكم العسكري (باستثناء القرى الدرزية وعددها نحو 18 قرية إذ قررت الزعامات الدرزية وبناء على تفاهمات أجرتها مع قادة الحركة الصهيونية حتى قبل قيام «إسرائيل» التعاون مع الدولة الجديدة، بما في ذلك الموافقة على خدمة الشبان الدروز في الجيش الإسرائيلي) كما تم وفي إطار ضبط ومحاصرة وجود ما بقي من الفلسطينيين في أراضيهم الإعلان عن القرى المهجرة وعددها فاق الـ 500 قرية وبلدة كمناطق عسكرية مغلقة، وذلك بموجب أنظمة الطوارئ، مما أدى إلى منع عودة المهجرين واللاجئين إلى بيوتهم وقراهم، وخصوصا هؤلاء الذين تعرضوا إلى تهجير داخلي وبقوا في حدود «إسرائيل» وحصلوا على المواطنة والجنسية الإسرائيلية.
وبات التعامل التمييزي مع التجمعات السكانية العربية في «إسرائيل» هو سمة أساسية يمكن ملاحظتها في كل صغيرة وكبيرة، ومن ذلك حجم الميزانيات المقررة لهذه البلدات والقرى من ميزانية الدولة والذي يقل كثيرا عما تتلقاه المستوطنات والتجمعات السكانية اليهودية، ما انعكس على الدوام سلبا على حجم ومستوى الخدمات التي تقدمها المجالس البلدية في القرى والبلدات العربية، إضافة إلى تضييقات أخرى من قبيل محاصرة التوسع الديمغرافي لهذه البلدات والمدن ومحاولات خنقه وحصره ضمن إطاره الجغرافي الذي لم يتطور أو يتغير تقريبا على مدى السبعين عاما الماضية.
بالرغم من كل إجراءات التضييق والتمييز التي قام على أساسها تعامل «إسرائيل» مع «مواطنيها» العرب، إلا أن هؤلاء وخاصة ممن واصلوا العيش في تجمعاتهم وبلداتهم الخاصة ولم يختلطوا معيشيا مع اليهود في ما يسمى بالمدن المختلطة، استطاعوا عبر العقود السبعة الماضية الحفاظ على هويتهم الخاصة ووعيهم بتاريخ قضيتهم الوطنية وما مرت به من مراحل وأحداث مفصلية إضافة إلى حقيقة النظرة الإسرائيلية اليهم وأسباب التمييز والتضييق الذي يتعرضون له.
كما استطاع فلسطينيو 48 تدعيم وجودهم العددي حيث قفزت أعدادهم من نحو 167 ألفا في عام 1949 إلى ما يقرب من المليوني نسمة وفق إحصاء 2019 أي ما يقدر بـ 21 في المئة من عدد سكان «إسرائيل».
هذا النمو المتواصل للمجتمع العربي داخل «إسرائيل» لفت أنظار مؤسسات صنع القرار في الدولة العبرية والتي أقرت بخطورته على المديين المتوسط والبعيد لجهة إخلاله الديمغرافي والثقافي بالطابع اليهودي – الصهيوني للدولة الصهيونية خاصة مع التفاوت في معدل الولادات بين الجانبين.

نشر الفوضى

هكذا وفي ظل عدم إمكانية ما طرحته بعض الأوساط الصهيونية مرارا من ضرورة طرد أو ترحيل القسم الأكبر من فلسطينيي 84 إلى الدول العربية، لجأت اخيرا «إسرائيل» إلى تطبيق خطة غير معلنة تستهدف ضرب وحدة وتماسك «الوسط العربي» عبر نشر الفوضى المجتمعية وحالة التسيب الأمني في أوساطه وإيصاله أخيرا إلى حالة من التشتت وعدم الثقة كبديل مؤقت لعملية ترحيل جماعي ظلت «إسرائيل» وما تزال على الأرجح تتمنى على نشوء ظروف مناسبة لتنفيذها.
وفي إنعكاس واضح للخطة الإسرائيلية هذه، بدأت وسائل الإعلام تنشر عناوين عريضة عن تزايد حالات العنف والجريمة في المجتمع العربي داخل «إسرائيل» وما رافق ذلك من انتشار للسلاح وبروز لعصابات مسلحة هي أقرب في طريقة عملها إلى عصابات المافيا التي بدأت تؤثر سليا على أمن وسلامة فلسطينيي 48 حتى وصل الأمر بها إلى التدخل في تشكيل المجالس البلدية العربية.
وفي تقرير لها اعترفت وزارة الداخلية الإسرائيلية أن نصيب المواطنين العرب من النسبة الإجمالية لضحايا جرائم القتل في «إسرائيل» قد وصل في العام 2018 إلى نحو 61 في المئة.
وكان لافتا للنخب القيادية والمثقفة داخل أوساط فلسطينيي 84 إن انتشار أعمال العنف وجرائم القتل في المجتمع العربي داخل «إسرائيل» خلال السنوات القليلة الماضية وتحت أي ذريعة كانت، ترافق وبشكل وثيق مع تعمد الشرطة الإسرائيلية غض النظر عما يحصل وتقاعسها الملحوظ في معالجة الأمر، وهو ما أوجد وعيا عاما أن ما يجري ما هو في الواقع إلا خطة إسرائيلية يتم تنفيذها باستخدام متعاونين وعملاء من داخل الوسط العربي ذاته.
وفي محاولات متعددة للتملص من هذه التهمة ادعت «إسرائيل» أن العنف في «الوسط العربي» مرده إلى أسباب «تربوية وثقافية» مثلما جاء حرفيا على لسان وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان.
لكن إحصائيات المؤسسات الأمنية الإسرائيلية ذاتها تدحض إدعاءات الوزير الإسرائيلي حيث تشير بشكل واضح إلى أن انتشار السلاح غير المشروع هو أحد الاسباب المهمة في انتشار العنف في المجتمع الفلسطيني داخل «إسرائيل» حيث يقدر عدد قطع السلاح غير الشرعي نحو 500 ألف قطعة، مع الإقرار أن الجيش وتجار السلاح الإسرائيليين هما أهم مصادر هذه الأسلحة، وهو ما يثيرالتساؤل: هل كانت حالة عدم اللامبالاة الإسرائيلية تجاه هذا الإنتشار والإستخدام المريب للسلاح في المجتمع العربي، ستبقى على حالها لو أن هذا السلاح كان موجها بمعظمه لمقاومة الإسرائيليين أنفسهم.
لا شك أن فلسطينيي الداخل الفلسطيني المحتل في العام 1948 يتحملون أنفسهم قسطا وفيرا من المسؤولية تجاه ما يجري داخل مجتمعهم عبر عدم النجاح في محاصرة هذه الظاهرة المستشرية في أوساطهم وعزل المتعاونين مع الخطة الإسرائيلية ومنفذيها على الأرض، ذلك أن النجاح في البقاء على الأرض والصمود في الوطن طوال العقود السبعة الماضية بات مهددا فعليا بفعل هذه الظاهرة التي تتشابه في مقاصدها وعلى نحو ما مع ما تتعرض له مجمل الشعوب العربية في بلدانها من حرب قائمة وملموسة تستهدف ثقافتها وتماسكها علما أن الهدف في الحالتين واحد.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية