فلسطين صدمة وعي في الغرب: عن سرديّة «إسرائيل» التي تهشمت في ذهن الأجيال الجديدة

حجم الخط
2

لم يكن الهجوم الفلسطيني الفائق الجرأة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة مفاجئة صاعقة للكيان العبري وحده، تفوقت في مفاعيلها حتى على هجوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 على الجبهتين السوريّة والمصريّة، وستكون لها حتماً انعكاسات عميقة (محليّة) على صعيد السياسة والحكم والسايكولوجيا الجمعية، بل ومستقبل الدّولة العبريّة ذاته. فلقد استعادت قضية الشعب الفلسطيني بفضل هذا الهجوم مكانة مركزيّة تستحقها في ساحة السياسة الدوليّة، بعد عقودٍ من التآمر والتغييب ومحاولات التّطبيع والتوظيف، واستيقظت جماهير عربيّة عريضة على تموضع ذهني مستجد تجاه الغرب ومؤسساته ومصالحه ومستعمرته في قلب الشرق الأوسط، ونظامه الدّولي المزعوم. لكن أيضاً، فإن فلسطين العائدة مجدداً إلى قلب الحدث، مثّلت في مجتمعات الغرب – كما في مجتمعات العديد من دول العالم – صدمة وعي غير مسبوق، وسعت الشقة بين النخب الحاكمة في تلك المجتمعات في مقابل جماهيرها، وأطلقت افتراقاً مذهلاً في قراءة السرديّة حول الصراع الصهيوني – الفلسطيني بين الأجيال، وتهدّد اليوم بأن تكون فلسطين بوابة تمايز ثقافي وسياسي وطبقي يضاعف من استقطابات وتصدعات ظهرت في قلب المجتمعات الغربيّة منذ بعض الوقت، وأفرزت – فيما أفرزت – تباينات شعبوية واجتماعيّة واقتصاديّة.

وكأنه شبح «دين» جديد يجتاح الغرب

منذ السبت الأوّل بعد السابع من الشهر الماضي ثمّة ما يشبه طقساً دينياً يتكرر كل يوم سبت في قلب العاصمة لندن، وفي مدن بريطانية عديدة أخرى، ويتنقل كذلك كشبح يسافر بين محطات القطار الرئيسة عبر المملكة: إنها التّظاهرات الداعمة لفلسطين، حيث تزدحم الشوارع الأشهر وقاعات المحطات بالمتظاهرين الذين يرفعون الأعلام الفلسطينية، ويحملون شعارات تطالب بوقف فوريّ للنار في الحرب على غزّة، قبل أن تتصاعد هتافات مجموعات من بينهم تقول بـ«فلسطين حرّة من النهر إلى البحر»، وتدين بأقذع الألفاظ أحياناً وقوف الحكومات والسياسيين مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزّة. وبدلاً من أن تَفتر هذه الطقوس مع مرور الوقت، فإنها تتعاظم أسبوعاً بعد آخر، بل ويتوقّع أن تكون مظاهرة الغد في قلب لندن الأكبر من بين التحركات الشعبيّة ذات الطابع السياسيّ الدوليّ منذ عقود. وليست بريطانيا وحدها من تشهد جولات هذا الشبح الجديد. فالأمر مماثل في عدد من المدن الأوروبيّة مثل باريس، وبرلين، ومدريد، ودبلن، واستوكهولم، وأوسلو، وأيضاً في الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ناهيك عن عدد من عواصم دول الجنوب من أندونيسيا والهند، إلى البرازيل والمكسيك، ومروراً بجنوب أفريقيا ونيجيريا.

أشياء تغيرت هذه المرّة

بالطّبع، فإن التّظاهرات من أجل قضايا دوليّة في مجتمعات الغرب ليست بالأمر المستحدث. ففي الذّاكرة الحديثة لا ننسى تلك الاحتجاجات التي عمت عواصم العالم ضد العدوان على العراق، وشهدنا في وقت قريب حِراكات – وإن أصغر بما لا يقاس – في دعم أوكرانيا، كما أخرى متفرقة ولجمهور متخصص في تأييد كوبا، أو فنزويلا أو حتى فلسطين.
لكن بالنّسبة للمراقب، فإن هنالك أمورا ملفتة في هذه التحركات الأخيرة تكسبها مزاجاً مختلفاً عن كل ما سبق. أولها أنّ جمهورها الغالب من جيل الشبان، يسميه الخبراء بالجيل Z أو جيل الألفية ممن ولدوا بعد 1996، وثانيها توسعها وتمددها مع مرور الوقت. وثالثها أنها توحّد بين فئات متفاوتة أيديولوجيّة يجمعها شعور بالاستهداف والاضطهاد في المجتمعات الليبرالية المعاصرة.

إرهاصات ثورة للصغار؟

تقول مصادر متقاطعة إن جيل الألفية الغربيّ أوّل جيل منذ تأسيس الكيان العبري (1948) ينحاز بأغلبيته – المعنية بالسياسة – لفلسطين أكثر من (إسرائيل). في بريطانيا، فإن ربع الشبان بين 18 – 34 عاماً يؤيدون النضال الفلسطيني في مقابل أقل من سبعة في المئة ممن يدعمون الإسرائيليين، وهذه النسبة تنعكس تماماً في حالة جيل الكبار بين 55 – 75 عاماً.
ويلاحظ هيمنة لوجود مؤيدي فلسطين أيضاً (بمن فيهم يهود بريطانيون) في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية البريطانية، رغم التضييق الرسميّ. ويتكرر النمط ذاته على الجانب الآخر من الأطلسي، حيث يبدو الأمريكيون الأصغر سنا أقل احتمالا بكثير مقارنة بالأجيال الأكبر سناً في الوقوف إلى جانب إسرائيل.
وأظهر استطلاع حديث للرأي لرويترز أن 34 في المئة من الأمريكيين بين 18 و39 عاما يعتقدون أن (حركة حماس) مسؤولة عن الصّراع، مقارنة بـ 58 في المئة من الأمريكيين، الذين يبلغون من العمر 40 عاما فما فوق. ويقول خبراء يرصدون وسائل التواصل الاجتماعي إن أغلبية ساحقة من المراهقين دون 18 عاماً في المجتمعات الأنجلو- ساكسونيّة تشارك مواد متعاطفة مع القضية الفلسطينية وتدين الحرب على غزّة، بل وأيضاً رسومات وبيانات وشعارات تعتبر أن إسرائيل ليست بدولة، أو أنها مجرّد مشروع استيطانيّ غربيّ في قلب الشرق.

من أجل فلسطين: ديمومة وأكثر عدائية

كما لم تتوقف آلة الحرب الصهيونية عن قتل الفلسطينيين في غزّة (والضّفة) منذ السابع من الشهر الماضي، فإن التظاهرات التي تعم الغرب لم تتوقف بدورها، ولو لأسبوع واحد – وإن ظلّت عطلة نهاية الأسبوع موعداً مفضلاً لها. وقلّما يخلو يوم خلال الأسبوع من وقفة هنا أو (جلسة) اعتراضيّة هناك، لا سيّما في محطات القطار الرئيسة، التي تشكل عصب الحياة المعاصرة في بريطانيا والمدن الأوروبيّة. ويستمر التخطيط لمزيد من التحركات على قدم وساق. لكن الأهم أنّ غالبية المتظاهرين يبدون شكوكاً عميقة بالرواية الرسميّة، التي تبثها وسائل الإعلام الغربيّة الكبرى والمصادر الرسميّة التقليديّة ليس بشأن الحرب الأخيرة فحسب، وإنّما بشأن تاريخ الكيان العبري برمته، ويبدو أجرأ بما لا يقاس في مواجهة اتهامات شلّت عقول الأجيال السابقة كتهمة (العداء للساميّة)، والتهويل من الهولوكوست، والتّعامل مع العرب بفوقيّة وازدراء.
ولعل اختلاف مصادر المعرفة عند الأجيال الجديدة – بفضل الإنترنت وتقنيات الاتصال الحديثة – منحها القدرة على قراءة أكثر تحرراً للأمور والأحداث والأشياء خارج القوالب التي فرضت على الأجيال السابقة، ولم يعد من المنطق أن يكون لليهود دولة دينية مفروضة على أصحاب الأرض الأصليين، ولا أي مبرر لفرض أي دولة سياسات فصل عنصريّ وعرقيّ وديني على السكان الخاضعين لسيطرتها.

فلسطين مظلّة عريضة لكل المضطهدين

منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك، تجنّبت الجاليات الإسلاميّة والعربيّة والفلسطينية في الغرب بشكل عام إظهار مواقف سياسيّة حادة. لكن شيئاً ما تغيّر مع الحرب الحالية على غزّة، إذ تضمنت الاحتجاجات مشاركة كثيفة غير مسبوقة من أبناء تلك الجاليات من مختلف الأجيال، ولكن بالذات من الشباب الذين لم يكونوا وحدهم، إذ تحوّلت الأنشطة المناصرة لفلسطين إلى مظلّة عريضة تجمع كل من يحسبون أنفسهم ضمن المُضطهدين أو الغاضبين: الطبقات العاملة، السّود والأفارقة، الهنود الأصليّون في أمريكا الشماليّة، المهاجرون، أقصى اليسار الماركسي اللينيني، والحركات الاشتراكيّة، وأيضاً اليهود الأرثوذوكس، واليساريون.
لقد خسر الكيان العبري في هذه الحرب الأخيرة أمضى أسلحته على الإطلاق: سرديته المزعومة عن شعب مضطهد تجرّأ على النّهوض من حطام (المحرقة) وإيجاد موطئ قدم له على أرض يقدّسها. لقد تهشمت هذه السرديّة الكاذبة كقطعة زجاج تناثرت قطعها غباراً ولم يعد ممكناً إصلاحها، فيما تكتسب نكبة الفلسطينيين ومحنتهم المستمرة مكانة (محرقة) أخرى تآمر النافذون لإخفائها.
«إسرائيل» اليوم في نظر أعداد متزايدة حول العالم كيان يميني فاشي، يقوم على احتلال أراضي الغير، ويطبّق بمحض العنف سياسات فصل عنصري وعرقيّ ضد الفلسطينيين أهل البلاد الأصليين، ومقاومتها وإدانتها رمز وممر للاحتجاج ضد كل السلطات: متصهينة وفاشيّة ومحتلة ومستبدة ونصيرة للاستعمار.
لقد صارت ألوان العلم الفلسطيني رمز التمرد وراية المستضعفين عبر العالم كله، وهو أمر لم يكن قد خطر على بال ثلّة المقاومين الفلسطينيين الشجعان.

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Au Wagga Wagga:

    أحسنت ندى…كانت تنقص المكتبة المعرفية حول اسطورة السابع من تشرين اول تسليط الضوء على هذا الالق الذي غطاه دخان صواريخ الابادة الجماعية الصهيونية ضد الأطفال والنساء والشيوخ كما الرجال في المعسكر الصهيوني النازي في غزة وغطته الاخبار والتعليقات والمنشورات. هذا الالق هو عدالة قضيتنا واصالتها وحتمية انتصارها بعد تحطم الكرة البلورية لسحرة الغرب وهي سرديتهم المزيفة للسيطرة على العقل الجمعي الإنساني.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    غزوة السابع من أكتوبر , أيقظت العالم على القضية الفلسطينية !
    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية