فلسطين في ذكرى أول نوفمبر الجزائري

حجم الخط
4

ما زلت أتذكر كتاب فتحي الذيب الصادر تحت عنوان «عبد الناصر والثورة الجزائرية» وكيف كتبت أغلبية أسماء قيادات الثورة الجزائرية التي ذكرها مدير المخابرات المصري المكلف بالعلاقات مع الثورة الجزائرية، بالشكل غير الصحيح! رغم أن الرجل كان في علاقة عمل شبه يومية مع هذه الوجوه السياسية والعسكرية القيادية التي عرفها في القاهرة. حالة فتحي الذيب التي تبين لي مع الوقت انها لا تقتصر عليه، فالكثير من إخواننا في المشرق العربي – باستثناءات قليلة ـ لا يعرفون من الثورة الجزائرية إلا أنها كانت ثورة المليون ونصف مليون شهيد، وأنها اندلعت من جبال الأوراس الأشم. تقصير قد لا يكون العرب هم المسؤولون عنه وحدهم، فللجزائريين نصيب كبير فيه، هم الذين لم يكتبوا للتعريف بتاريخهم وتاريخ ثورتهم، التي بقيت مجهولة عند الكثير خارج الجزائر من العرب وغير العرب، إذا استثنينا المتخصصين في المجال التاريخي والمهتمين بالشأن الجزائري.
وضع ينطبق على الفلسطينيين الذين يمرون بمحنة قاسية هذه الأيام وهم يتعرضون إلى حرب إبادة إسرائيلية، أجزم أنهم في حاجة إلى التعرف أكثر على تاريخ الحالة الجزائرية، قد تكون مفيدة لهم وهم يمرون بفترة صعبة من تاريخهم الوطني، حتى إن اختلف الكثير من المعطيات بين الحالتين، بداية من العوامل الجغرافية والديموغرافية، الواضح أنها كانت لصالح الحالة الجزائرية، زيادة على الجيرة المختلفة التي كانت لصالح الثورة الجزائرية كذلك، بالدعم الكبير الذي وجدته ثورة الجزائريين من محيطها المغاربي المباشر، شرقا وغربا، من قبل الشعوب والأنظمة.
ليبقى ما أريد أن أقوله مختلف عن هذه العموميات التي تكاد تكون معروفة من قبل القارئ، لأنطلق من طابع الاستعمار الاستيطاني الطويل، الذي تشترك الحالتان الفلسطينية والجزائرية، بكل نتائجه العميقة على المجتمع، الأفراد والثقافة، بالمراحل التي يمكن أن تعيشها قضايا الشعوب وهي في حالة صعود أو انتكاسة، كما عاشته الحالة الجزائرية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان الاستعمار الفرنسي يحتفل فيها بمئوية وجوده فوق التراب الجزائري، قام أثناءها بتنظيم احتفالات كبيرة لتكريس صورة انتصار فرنسا النهائي في الجزائر، كقوة عسكرية واقتصادية صاعدة، انتجت حالة يأس كبيرة عند الجزائريين ظهرت نتائجها عند الشعب والنخب على مستوى السلوك اليومي والاستراتيجيات الفردية والجماعية المتنوعة، وصلت تأثيراتها للسلوكيات اليومية للجزائريين.

أول درس في الحالة الاستعمارية الاستيطانية هو التعامل معها على المدى الطويل وليس القصير ولا حتى المتوسط، وأن الصراع لن يحسمه جيل واحد، مهما بذل من جهود، ومهما كانت تضحياته

حالة يأس ـ المتفائل قد يصفها بمرحلة استراحة محارب، وقراءة أكثر عقلانية للمشهد بتفاصيله الجديدة ـ ظهرت بعد عقود من توقف مرحلة الانتفاضات الشعبية المسلحة التي قادتها قوى تقليدية ريفية، هي التي تكفلت بمجابهة الغزو العسكري الفرنسي في بدايته، قبل مرحلة الحركة الوطنية، التي غيرت الحامل الاجتماعي، الذي لم يعد هذه القوى الريفية، بل قوى عصرية كانت نتاج المرحلة الأولى للاستعمار. مواجهة انتقلت من الريف نحو المدينة، لتأخذ طابعا سياسيا في الأول، تم فيها استعمال الحزب والجمعية والنشاط الرياضي والمسرحي، وحتى الدخول في معارك الانتخابات، قبل اكتشاف فسادها في الحالة الاستعمارية الاستيطانية، ألغت مواطنة الجزائريين، للتوجه نحو الاستراتيجية المسلحة في نوفمبر 54، لم تهمل البعد السياسي الذي استمر حاضرا طول فترة ثورة التحرير لدرجة يمكن القول معها، إن الجزائريين انتصروا في ثورتهم اعتمادا على نتائج العمل السياسي وليس العسكري، الذي لم يكن لصالحهم أمام قوة الجيش الفرنسي. كما ظهر بشكل جلي في السنوات الأخيرة لحرب التحرير، بعد وصول الجنرال ديغول للسلطة في فرنسا، تمكن خلالها الطرف الجزائري، على العكس، من كسب معركة الرأي العام داخل فرنسا والعالم، استطاع فيها عزل فرنسا الاستعمارية دوليا.
حالة يأس عبر عنها جزء من النخب السياسية الجزائرية، كما كان حال الصيدلي عباس فرحات، الذي بحث عن الأمة الجزائرية في كل مكان ولم يجدها.. بحثت في التاريخ وسألت الأحياء والأموات وزرت القبور، فلم يحدثني أحد عن هذا الوطن، ليترأس الرجل اول حكومة مؤقتة للجزائر ويصبح رئيس أول برلمان لها بعد الاستقلال. حالة يأس تم التعبير عنها كذلك لدى أجزاء مهمة من الشعب ومؤسسات المجتمع الثقافية، كما كان حال أبناء الزوايا، الذين استكانوا للظاهرة الاستعمارية، بل برروا وجودها هم الذين كان على رأس المقاومين لها في بداية الغزو. حالة يأس وتشكيك أشم رائحتها في بعض الكتابات التي تتطرق هذه الأيام إلى الحالتين الفلسطينية واللبنانية جزئيا، بعد النتائج التي حققها الجيش الإسرائيلي في غزة وجنوب لبنان ضد حزب الله وحماس. وهي تنطلق من المدى القصير، متناسية أن أول درس في الحالة الاستعمارية الاستيطانية هو التعامل معها على المدى الطويل وليس القصير ولا حتى المتوسط. وأن الصراع لن يحسمه جيل واحد، مهما بذل من جهود، ومهما كانت تضحياته. صراع لا يقتصر على البعد العسكري مهما كانت أهميته، بل يشمل المستويات السياسية والثقافية والروحية وغيرها من المستويات التي يمكن تجنيدها في هذا الصراع المصيري.
فالحالة الجزائرية تخبرنا أن الاستعمار الفرنسي بطابعه الاستيطاني، فشل قبل الأول من نوفمبر 54، تاريخ اندلاع ثورة التحرير التي يحتفل الشعب الجزائري بذكراها السبعين هذا الأسبوع. فقد فشل في حقيقة الأمر عندما غادر المستوطنون الفرنسيون الريف الجزائري، بعد أن تيقنوا من أنهم لا يستطيعون العيش في هذا المحيط المعادي لهم بين الجزائريين أصحاب الأرض، الذين يتعايشون معهم يوميا كعمال أرض و»خماسين» ومواطنين عاديين في الأراضي التي اغتصبوها منهم. لتكون النتيجة كما يخبرنا بذلك عديد الدراسات التاريخية، مغادرة المعمرين للريف الجزائري للتوجه نحو المدن التي تكدسوا داخلها على غرار العاصمة ووهران. وضع سمح لبعض الجزائريين «الشاطرين « من استرجاع مساحات من الأراضي أوسع – عن طريق الشراء – مما اغتصبه المستوطنون الفرنسيون منذ دخولهم الجزائر في الشرق الجزائري تحديدا، الذي عرف أكثر حالة انعدام الأمن هذه، التي فرضها الشعب الجزائري على المعمرين، كما بينته أحداث الشمال القسنطيني تحت قيادة، الحداد زيغوت يوسف في 1955 التي تشبه في الكثير من خصائصها الميدانية وسياقها السياسي معركة طوفان الأقصى التي قادها المجاهد يحيى السنوار.
هجوم الشمال القسنطيني الذي لم يحظ في وقته ـ وربما حتى الآن – بالقبول من بعض قيادات جيش وجبهة التحرير التي لم تستسغ كيف يُزج بمناضلين من دون سلاح، في منتصف النهار من شهر أغسطس الحار، للهجوم على مدينة كبيرة مثل سكيكدة، بكل النتائج الكارثية التي أعقبت الهجوم على مستوى الأرواح التي تكبدها المواطنون من قبل ميليشيات المعمرين المسلحة والجيش الفرنسي. تجربة تكون وراء القراءة التي نظّر لها فرانز فانون وهو يتكلم عن الطابع الثوري للقوى الريفية ودور العنف الثوري في تحرير الشعوب.
كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Azzouz Dekali:

    “الاستراتيجية المسلحة في نوفمبر 54، لم تهمل البعد السياسي الذي استمر حاضرا طول فترة ثورة التحرير لدرجة يمكن القول معها، إن الجزائريين انتصروا في ثورتهم اعتمادا على نتائج العمل السياسي وليس العسكري، الذي لم يكن لصالحهم أمام قوة الجيش الفرنسي. كما ظهر بشكل جلي في السنوات الأخيرة لحرب التحرير، بعد وصول الجنرال ديغول للسلطة في فرنسا، تمكن خلالها الطرف الجزائري، على العكس، من كسب معركة الرأي العام داخل فرنسا والعالم، استطاع فيها عزل فرنسا الاستعمارية دوليا” تحليل صاحب و مهم لانارة المقاومة الفلسطينية في معركتها المستميتة ضد الاحتلال الاستطاني.يبقى العنف الثوري بمختلف اشكاله و رقة فاعلة لا بديل عنها من اجل حرمان الكيان المغتصب التوسعي من الامان بالاستقرار و من اجل استنزافه بقرد المستطاع مثل ما هو الشان مع. يفعله طوفان الاقصى المجيد .

  2. يقول عبدو:

    الثورة الجزائرية انطلقت من الجبال لان مجاهدوها في تلك الفترة تركوا المدن وتوجهوا الى الجبال اما طوفان الأقصى يدل على تلاحم المقاومة مع جيش الاحتلال في النقطة صفر داخل المدن وفي كل محيط غزة.

  3. يقول صالح/ الجزائر:

    1)- صحيح أن البعد السياسي كان حاضرا طول فترة ثورة التحرير (العسكري والإخباري والسياسي) ، وليس من العدل مقارنة قوة الجيش الفرنسي بقوة “جيش التحرير الوطني” ، إلا إن الجزائريين انتصروا في ثورتهم اعتمادا على العمل العسكري (حرب العصابات) قيل السياسي . والدليل على ذلك أن فرنسا الاستعمارية لم تكتف ب 850 ألف جندي في أواخر أيامها في الجزائر بل استعانت بقوة “الحلف الأطلسي” . لو كان العمل السياسي مجديا لكان فرحات عباس تمكن من الإدماج ولكان الجزائريون المسلمون “الإنديجينيون” يقولون مثله : “فرنسا هي أنا” . أزيد من 30 سنة مرت منذ “اتفاق أسلو” والفلسطينيون الحالمون مازالوا ينتظرون ” نتائج العمل السياسي” .
    من المؤسف أن تغيب الحقائق التاريخية عن الجامعي والسياسي والصيدلي ، فرحات عباس المحترم ، ويكتب في جريدة الوفاق الفرنسية ، في 23 أفريل1936 ، مقالا شهيرا تحت عنوان ‘فرنسا هي أنا’، أكد فيه جلد الذات والدعوة إلى الاندماج مع فرنسا، حيث قال: «لو كنت قد اكتشفت أمة جزائرية لكنت وطنيا ولم أخجل من جريمتي، فلن أموت من أجل الوطن الجزائري، لأن هذا الوطن غير موجود، لقد بحثت عنه في التاريخ فلم أجده وسألت عنه الأحياء والأمواتة وزرت المقابر دون جدوى» .

  4. يقول صالح/ الجزائر:

    2)- لكن الجزائر “الإنديجينية” صدحت ، على لسان عبد الحميد بن باديس ، رائد النهضة الإسلامية ومؤسس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” ، بمناسبة إحياء ليلة القدر ، في 30 نوفمبر 1937، بقصيدة من 15 بيتا شعريا مطلعها:
    شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُــسْــلِــمٌ ….. وَإِلىَ الْـعُـرُوبَةِ يَـنْتَـسِـبْ
    مَنْ قَــالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ ….. أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ
    أَوْ رَامَ إِدْمَــــــاجًـــــا لَــــهُ ….. رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
    …الصيدلي فرحات عباس ، استمر مع الأسف في نفس “اليأس” (الانحراف الاندماجي) . فبعد 12 يوما من اندلاع الثورة ، في 1 نوفمبر 1954، كتب في صحيفة الجمهورية : «إن موقفنا واضح ومن دون أي التباس. إننا سنبقي مقتنعين بأن العنف لا يساوي شيئا». لكنه بعد نجاح الثورة غير أسلوبه ، ففي أبريل1956 قام بحل حزبه وانضم إلى صفوف حزب “جبهة التحرير الوطني” ، ثم في 19 سبتمبر 1958 ، قبل منصب رئيس الحكومة المؤقتة ، وبعد الاستقلال ، في 5 جويلية 1962 ، وانتخاب المجلس الوطني، في 26 سبتمبر قبل أن يترأس المجلس . لكل واحد رأيه الخاص في التلون السياسي .

اشترك في قائمتنا البريدية