«فلسطين ليست قضيتي»!

حجم الخط
62

يذكر التاريخ أن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل طلب من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني التنازل عن فلسطين للشعب اليهودي، مقابل تسديد كل الديون الخارجية للدولة العثمانية، فرد عليه السلطان بقوله: «لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملكاً لي، بل ملك الأمة الإسلامية». وبين تلك العبارة والعبارة التي يتم الترويج لها اليوم: «فلسطين ليست قضيتي» بين العبارتين تُختصر فترات زمنية من تقلبات الأفكار والتوجهات والقيم والسياسات التي مرت على فلسطين والمنطقة والعالم، والتي انزاحت بموجبها فلسطين عن آفاقها الدولية والإسلامية، لتختصر في بعدها العربي، ثم تنتقل ـ بعد ذلك ـ إلى حدودها الجغرافية وبُعدها الوطني، لتختصر أخيراً في حدود قطاع غزة، بمعزل عن الضفة والقدس، بكل ما لها من إحالات دينية عميقة.
ما الذي جرى؟ لماذا اختصرت القضية الفلسطينية من حدود العالم – بوصفها قضية إنسانية – إلى حدود قطاع غزة، على اعتبار أنها معركة بين «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» و«المنظمات الإرهابية الفلسطينية»؟! وإذا جاز صدور مثل هذا التنميط لفلسطين ومعركتها من قبل الدعاية الإسرائيلية فكيف يجوز تصديره في بعض الكتابات العربية؟! وإذا كانت المستويات الرسمية العربية مكبلة بقيود كثيرة في مقدمتها موازين القوى التي تميل لصالح إسرائيل، فما الذي جرى للوجدان الشعبي الذي لم يعد كما كان في تفاعله مع فلسطين؟!
وبغض النظر عن الدعاية الإسرائيلية التي دأبت على تشويه القضية الفلسطينية، وعن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، والعربية ـ العربية التي تحولت بموجبها القضية الفلسطينية إلى ملفات مكدسة في أرشيف تلك الخلافات، بغض النظر عن كل ذلك تبقى عوامل أخرى كثيرة كان لها دور في انزياح القضية الفلسطينية عن مركزيتها، في بعض الكتابات العربية.
يأتي تسييس القضية الفلسطينية في مقدمة العوامل التي أثرت على مركزيتها ومكانتها لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، حيث تاجر كثيرون بالقضية لأهداف مختلفة، وعلى مستوى الأنظمة والأفراد والميليشيات.
وفي العقد الأخير، ومع تفجر الحروب الأهلية في عدد من البلدان العربية، ومع دخول إيران وميليشياتها عنصراً رئيسياً في تلك الحروب التي خلفت ملايين القتلى والجرحى والمهجرين في كل من العراق وسوريا واليمن، ومع استمرار دخول النظام الإيراني على خط القضية الفلسطينية، ومحاولاته المستمرة منذ عقود الاستثمار فيها، كل ذلك أدى إلى تشويش الصورة لدى بعض الذين رأوا إسهامات إيران في قتل وتشريد ملايين العرب من جهة، ورفعها لشعارات المقاومة والممانعة وفلسطين، من جهة أخرى، وهو ما دفع بعض أبناء البلدان المنكوبة بالتدخلات الإيرانية، تحت ضغط اللحظة الدموية الراهنة إلى الانكفاء على قضيتهم الوطنية، بعد أن رأوا اليد التي عليها دماء عربية غزيرة تظهر بمظهر من يدافع عن فلسطين، لأهداف معروفة، وبعد أن أصبح في كل بلد «فلسطين دامية» أخرى شغلت بعض أبنائه عن «فلسطين المحتلة» في وقت وجدت فيه إيران فراغاً عربياً كبيراً ملأته بكل سهولة.

ظهرت دعوات انعزالية تكرس صورة سلبية عن العرب في عيون بعضهم، وأصوات قديمة تدعو إلى نوع من «القومية القطرية» على اعتبار أن كل شعب عربي له قوميته الخاصة التي لا تربطه بالشعوب العربية الأخرى

كما أن الحروب الأهلية في بعض البلدان العربية لم تؤدِ إلى تمزيق الروابط الاجتماعية والإخاء الوطني والسلم الأهلي وحسب، بل إنها أثرت كذلك على «صورة العرب» حيث ظهرت دعوات انعزالية تكرس صورة سلبية عن العرب في عيون بعضهم، وعادت للظهور أصوات قديمة كانت تدعو إلى نوع من «القومية القطرية» على اعتبار أن كل شعب عربي له قوميته الخاصة التي لا تربطه بالشعوب العربية الأخرى، وهو الأمر الذي ساعد في انتشار بعض الأفكار المشوهة التي تنتج عبارات من مثل: «فلسطين ليست قضيتي» في تفكير طفولي ساذج ينم عن جهل كبير بعمق الوشائج العربية، لغة وثقافة وحضارة وفكراً وروحاً وتاريخاً وجغرافيا وهوية.
وقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في ضخ كم هائل من تلك الأفكار العدمية، وما من شك بأن الذباب الإلكتروني الاستخباراتي، وعن طريق تكتيكات الأسماء المستعارة، قد عمل على ضخ المزيد من تلك «الصيحات» المشوهة و«التقليعات الموسمية» كما كان له دور في تهييج حفلات «الشطح والردح» التي تتناوب على تسخينها حسابات إلكترونية لا تحصى، بالهجوم والهجوم المضاد على هذا الشعب العربي أو ذاك، في معارك افتراضية ـ على طريقة داحس والغبراء ـ لا تنتهي إلا لتبدأ، في جو يبعث على المزيد من الكراهية والأحقاد، وتقطيع أواصر القربى.
ولا يمكن ـ بالطبع ـ المرور على العوامل التي أدت إلى تراجع «مركزية القضية» دون ذكر موجة التطبيع التي هيأت لها دوائر إسرائيلية وغربية كان لها أثر ملحوظ في تجريد إسرائيل من صورتها النمطية لدى البعض، حيث بدا أن الحاجز الذي أقيم بين العرب والمسلمين من جهة و«العدو الإسرائيلي» من جهة أخرى يتهاوى شيئاً فشيئاً، بالتخلي عن السرديات السلبية لـ«الصراع العربي الإسرائيلي» والاستعاضة عنها بسرديات إيجابية تتحدث عن «الأخوّة الإبراهيمية» و«الشرق الأوسط الجديد» وهو الشرق الأوسط المأمول أن ينتج عن تلك «الفوضى الخلاقة» التي تضرب المنطقة العربية.
واليوم يقف أصحاب شعار «فلسطين ليست قضيتي» مشدوهين وهم يشاهدون مئات الآلاف حول العالم يتظاهرون احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكان الحرج بالغاً عندما وقف طلبة الجامعات في أمريكا وأوروبا وآسيا وأستراليا يهتفون لغزة، رغم كل القمع الذي واجهوه من قبل الأجهزة الأمنية، حيث تعرض الكثير منهم للاعتقال والاعتداءات اللفظية والجسدية، ورغم التعسفات الإدارية التي أفضت إلى طرد الكثير من الطلبة من مقاعدهم في مشهد طغى فيه البُعد الإنساني للقضية الفلسطينية على البُعد القومي والإسلامي لها، وهو وإن كان مشهداً يؤكد على عمق جذور هذه القضية في الوجدان والضمير العالمي، من جهة، إلا أنه يشير ـ مع الأسف ـ إلى تراجع الأبعاد القومية والإسلامية لهذه القضية، بفعل العوامل المذكرة.
ومع كل ذلك فإن دعوات من مثل «فلسطين ليست قضيتي» لن يكتب لها الاستمرار، لأنها ناتجة عن لحظة عاطفية انفعالية نتجت ـ بدورها ـ عن حالة انهزامية، في تلك اللحظة التي يظهر فيها العدو صديقاً، والصديق عدواً، حيث تتشوش الرؤية وتختلط الأمور على كثير ممن لا يدركون أن ما نعيشه رغم ضراوته مجرد لحظة في مقاييس التاريخ، وأن تلك اللحظة الزائلة لا ينبغي لها أن تهز الثوابت الدينية والقومية والإنسانية للأمم والشعوب.

كاتب يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير:

    اسمح لي سيدي الكاتب، لكن البحث عن الاجماع حول أي قضية في عصرنا الحالي هو ضرب من العبث، والفلسطينيون يحققون النقاط الآن أمام عالم لا حول له ولا قوة عكس إسرائيل التي تغرق، كما أن الإدعاء بأن الفلسطينيين لا يهنؤون إلا إذا لعب معهم الآخرون دور الضحية و اندمجوا معهم في مأثم هو أكثر ما يخدم الآن الدعاية الإسرائيلية التي تسعى إلى تصوير الفلسطيني كضحية لا أمل له. إن الفلسطينيين ليسوا ضحايا مستسلمين، بل هم شعب يناضل من أجل حقوقه بكل شجاعة وإصرار. علينا أن نكون سنداً لهم، لا أن نروج للأساطير التي تستهدف إضعافهم وإضعافنا كعرب.

  2. يقول فؤاد:

    لربما نحن المتفرجون عن بعد من يستحق أن يتضامن معنا الأخرون، عكس أهل غزة الذين يحتاجون لمزيد من المساعي لإنهاء الحرب بالاضافة إلى تقديم المساعدات العاجلة لهم وليس التضامن بدرجة أولى،

    1. يقول فؤاد:

      تتمة…فالغزاويون ككل مجموعة تتعرض لأوقات عصيبة، يدركون أنهم يواجهون تحديات مشتركة تتطلب تعاون الجميع للتغلب عليها، و الأزمات والمصائب تعزز الروابط الاجتماعية بين الأفراد، حيث يصبح الدعم المتبادل أمراً ضرورياً للبقاء والصمود، بالاضافة إلى أن التكاتف يعزز من قوتهم ويزيد من فرصهم في التغلب على الصعاب. عكس الأفراد الذين يعيشون في ظل أحوال عادية، حيث يكون هناك تباعد بين الأفراد نتيجة لانشغال كل شخص بأموره الخاصة.

  3. يقول سعادة فلسطين الصين:

    ‏الكاتب الكريم جميح كاتب جيد خاصة في ‏ ‏ملف ‏السنة والشيعة والمذهب الديني بشكل عام . ‏في هذا الأمر موضوع هذا المقال ‏يمكن قول أن تشخيص المشكلة جيد لكن التحليل غير مقنع ووصفة العلاج سيئة . ‏على سبيل المثال، ‏لا يوجد شيء اسمه ضمير عالمي ، ‏يوجد مواطنون لديهم ضمير ‏مدني حضري. ‏هذا هو المحرك الرئيسي ‏تلك الفئات الاجتماعية ومجموعات الطلاب في الدول الغربية التي تفاعلت مع الضحايا في غزة . ‏ ‏عموما، الأسئلة والتشخيص جيد لكن أرى أن إجاباتها وتحليلها الوافي والعميق قد نجد منه الكثير في كتابات الكاتب الباحث السوري ، أيضا في هذه الصحيفة ، محمد سامي الكيال .

  4. يقول علاء:

    فلسطين من نصرها كان على الجانب الصح من التاريخ ومن خذلها عاش ذليلا

  5. يقول هدهد سليمان:

    الدعم العربي المزعوم الذي انكفاء بحجة مساندة ايران الشيعية ومليشياتها كما تسميها لا قيمة له ولينكفيء إلى غير رجعة.
    ها نحن نقف هنا بعد ثمانين عاما من انتظار الدعم العربي فأين نحن الان وماذا فعل العرب لنا جيوشا وشعوبا وقباءل؟

    ختاما لا أملك إلا ان اقول لا نامت أعين الجبناء ولا أريد ان أزيد من اجل ان تقرءوا هذه الكلمات او التجاوز عنها لمن اصابه مغص.

  6. يقول ابن عربي:

    يا اخي الكريم كوني عربي ومسلم وفلسطيني وممن عايش الكثير من الوقائع اقولها وبكل صراحه انا لا اعاتب اي شخص في العالم لاقول له لما انت تخذلني مع العلم باننا نحن الفلسطينيون كافحنا كثيرا لكي يكون لنا التمثيل الوحيد لفلسطين وقضيتها وسلخها عن محيطها وثالثة الاثافي ان يكون في فلسطين مئات الاحزاب التي تتناحر فيما بينها لتعيش واقع الجلوس على كرسي الحكم والحرب الاهليه ما زالت ماثلة في الاذهان نحن لم ننصر بعضنا بعضنا في فلسطين فلماذا نعاتب العالم لخذلانة لنا

  7. يقول على:

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم “.
    القضية الفلسطينية قضية رجال وليست قضية نعاج, قضية الاحرار وليس العبيد.

  8. يقول شبيك لبيك:

    سعادة فلسطين الصين..مع احترامي لتعليقك.هناك مصطلح ضمير عالمي وليس مدنيا كما تقول.لكن في السياسة لايعمل الضمير..بل الذي تعمل المصالح وتوازن القوى.فما ذكره الدكتور في المقال صحيح.

  9. يقول محمد الحسنات:

    شكرا أخي محمد جمي. على العرض الموضوعي والتحليل التاريخي من عهد،
    السلطان العثماني التركي إلى بني يعرب والمسلمين في مشارق الارض ومغاربها،
    أن شعار،، فلسطين وشعبها ليست قضيتي،، هي محصلة تشويش وخداع وتضليل،
    في صراع القرن وما يجري منذ أوسلو مثال صارخ وفاضح وقاتل يمارس بلا خجل
    ولا حياء على مشهد من العالم، وتجريم الضحايا والهرولة لإحتضان المحتل والمستوطن المختل بالعنصرية، الذي تم إختلاقه بالوعد وبالقرار بإسم التطبيع، يعتبر تزييف. وقلي
    الحقائق العلمية ونقيضها، من قضية إنسانية إلى قضية إرهاب دولية .

  10. يقول سيما:

    مليشيات إيران التي دمرت أربع دول عربية، ثم تبنت القول بدعم فلسطين، كان لها الدور الأكبر في عدم المبالاة التي أصيبت بها الشعوب العربية تجاه فلسطين.
    والتطبيع كان له دور كبير في ترديد عبارة فلسطين ليست قضيتي

1 2 3 5

اشترك في قائمتنا البريدية