يذكر التاريخ أن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل طلب من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني التنازل عن فلسطين للشعب اليهودي، مقابل تسديد كل الديون الخارجية للدولة العثمانية، فرد عليه السلطان بقوله: «لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملكاً لي، بل ملك الأمة الإسلامية». وبين تلك العبارة والعبارة التي يتم الترويج لها اليوم: «فلسطين ليست قضيتي» بين العبارتين تُختصر فترات زمنية من تقلبات الأفكار والتوجهات والقيم والسياسات التي مرت على فلسطين والمنطقة والعالم، والتي انزاحت بموجبها فلسطين عن آفاقها الدولية والإسلامية، لتختصر في بعدها العربي، ثم تنتقل ـ بعد ذلك ـ إلى حدودها الجغرافية وبُعدها الوطني، لتختصر أخيراً في حدود قطاع غزة، بمعزل عن الضفة والقدس، بكل ما لها من إحالات دينية عميقة.
ما الذي جرى؟ لماذا اختصرت القضية الفلسطينية من حدود العالم – بوصفها قضية إنسانية – إلى حدود قطاع غزة، على اعتبار أنها معركة بين «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» و«المنظمات الإرهابية الفلسطينية»؟! وإذا جاز صدور مثل هذا التنميط لفلسطين ومعركتها من قبل الدعاية الإسرائيلية فكيف يجوز تصديره في بعض الكتابات العربية؟! وإذا كانت المستويات الرسمية العربية مكبلة بقيود كثيرة في مقدمتها موازين القوى التي تميل لصالح إسرائيل، فما الذي جرى للوجدان الشعبي الذي لم يعد كما كان في تفاعله مع فلسطين؟!
وبغض النظر عن الدعاية الإسرائيلية التي دأبت على تشويه القضية الفلسطينية، وعن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، والعربية ـ العربية التي تحولت بموجبها القضية الفلسطينية إلى ملفات مكدسة في أرشيف تلك الخلافات، بغض النظر عن كل ذلك تبقى عوامل أخرى كثيرة كان لها دور في انزياح القضية الفلسطينية عن مركزيتها، في بعض الكتابات العربية.
يأتي تسييس القضية الفلسطينية في مقدمة العوامل التي أثرت على مركزيتها ومكانتها لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، حيث تاجر كثيرون بالقضية لأهداف مختلفة، وعلى مستوى الأنظمة والأفراد والميليشيات.
وفي العقد الأخير، ومع تفجر الحروب الأهلية في عدد من البلدان العربية، ومع دخول إيران وميليشياتها عنصراً رئيسياً في تلك الحروب التي خلفت ملايين القتلى والجرحى والمهجرين في كل من العراق وسوريا واليمن، ومع استمرار دخول النظام الإيراني على خط القضية الفلسطينية، ومحاولاته المستمرة منذ عقود الاستثمار فيها، كل ذلك أدى إلى تشويش الصورة لدى بعض الذين رأوا إسهامات إيران في قتل وتشريد ملايين العرب من جهة، ورفعها لشعارات المقاومة والممانعة وفلسطين، من جهة أخرى، وهو ما دفع بعض أبناء البلدان المنكوبة بالتدخلات الإيرانية، تحت ضغط اللحظة الدموية الراهنة إلى الانكفاء على قضيتهم الوطنية، بعد أن رأوا اليد التي عليها دماء عربية غزيرة تظهر بمظهر من يدافع عن فلسطين، لأهداف معروفة، وبعد أن أصبح في كل بلد «فلسطين دامية» أخرى شغلت بعض أبنائه عن «فلسطين المحتلة» في وقت وجدت فيه إيران فراغاً عربياً كبيراً ملأته بكل سهولة.
ظهرت دعوات انعزالية تكرس صورة سلبية عن العرب في عيون بعضهم، وأصوات قديمة تدعو إلى نوع من «القومية القطرية» على اعتبار أن كل شعب عربي له قوميته الخاصة التي لا تربطه بالشعوب العربية الأخرى
كما أن الحروب الأهلية في بعض البلدان العربية لم تؤدِ إلى تمزيق الروابط الاجتماعية والإخاء الوطني والسلم الأهلي وحسب، بل إنها أثرت كذلك على «صورة العرب» حيث ظهرت دعوات انعزالية تكرس صورة سلبية عن العرب في عيون بعضهم، وعادت للظهور أصوات قديمة كانت تدعو إلى نوع من «القومية القطرية» على اعتبار أن كل شعب عربي له قوميته الخاصة التي لا تربطه بالشعوب العربية الأخرى، وهو الأمر الذي ساعد في انتشار بعض الأفكار المشوهة التي تنتج عبارات من مثل: «فلسطين ليست قضيتي» في تفكير طفولي ساذج ينم عن جهل كبير بعمق الوشائج العربية، لغة وثقافة وحضارة وفكراً وروحاً وتاريخاً وجغرافيا وهوية.
وقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في ضخ كم هائل من تلك الأفكار العدمية، وما من شك بأن الذباب الإلكتروني الاستخباراتي، وعن طريق تكتيكات الأسماء المستعارة، قد عمل على ضخ المزيد من تلك «الصيحات» المشوهة و«التقليعات الموسمية» كما كان له دور في تهييج حفلات «الشطح والردح» التي تتناوب على تسخينها حسابات إلكترونية لا تحصى، بالهجوم والهجوم المضاد على هذا الشعب العربي أو ذاك، في معارك افتراضية ـ على طريقة داحس والغبراء ـ لا تنتهي إلا لتبدأ، في جو يبعث على المزيد من الكراهية والأحقاد، وتقطيع أواصر القربى.
ولا يمكن ـ بالطبع ـ المرور على العوامل التي أدت إلى تراجع «مركزية القضية» دون ذكر موجة التطبيع التي هيأت لها دوائر إسرائيلية وغربية كان لها أثر ملحوظ في تجريد إسرائيل من صورتها النمطية لدى البعض، حيث بدا أن الحاجز الذي أقيم بين العرب والمسلمين من جهة و«العدو الإسرائيلي» من جهة أخرى يتهاوى شيئاً فشيئاً، بالتخلي عن السرديات السلبية لـ«الصراع العربي الإسرائيلي» والاستعاضة عنها بسرديات إيجابية تتحدث عن «الأخوّة الإبراهيمية» و«الشرق الأوسط الجديد» وهو الشرق الأوسط المأمول أن ينتج عن تلك «الفوضى الخلاقة» التي تضرب المنطقة العربية.
واليوم يقف أصحاب شعار «فلسطين ليست قضيتي» مشدوهين وهم يشاهدون مئات الآلاف حول العالم يتظاهرون احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكان الحرج بالغاً عندما وقف طلبة الجامعات في أمريكا وأوروبا وآسيا وأستراليا يهتفون لغزة، رغم كل القمع الذي واجهوه من قبل الأجهزة الأمنية، حيث تعرض الكثير منهم للاعتقال والاعتداءات اللفظية والجسدية، ورغم التعسفات الإدارية التي أفضت إلى طرد الكثير من الطلبة من مقاعدهم في مشهد طغى فيه البُعد الإنساني للقضية الفلسطينية على البُعد القومي والإسلامي لها، وهو وإن كان مشهداً يؤكد على عمق جذور هذه القضية في الوجدان والضمير العالمي، من جهة، إلا أنه يشير ـ مع الأسف ـ إلى تراجع الأبعاد القومية والإسلامية لهذه القضية، بفعل العوامل المذكرة.
ومع كل ذلك فإن دعوات من مثل «فلسطين ليست قضيتي» لن يكتب لها الاستمرار، لأنها ناتجة عن لحظة عاطفية انفعالية نتجت ـ بدورها ـ عن حالة انهزامية، في تلك اللحظة التي يظهر فيها العدو صديقاً، والصديق عدواً، حيث تتشوش الرؤية وتختلط الأمور على كثير ممن لا يدركون أن ما نعيشه رغم ضراوته مجرد لحظة في مقاييس التاريخ، وأن تلك اللحظة الزائلة لا ينبغي لها أن تهز الثوابت الدينية والقومية والإنسانية للأمم والشعوب.
كاتب يمني
{وإذا كانت المستويات الرسمية العربية مكبلة بقيود كثيرة في مقدمتها موازين القوى التي تميل لصالح إسرائيل، فما الذي جرى للوجدان الشعبي الذي لم يعد كما كان في تفاعله مع فلسطين؟!} … اهـــــ
سيد كاتب.. أنت هنا تفترض مسبقا بأن الوجدان الشعبي لم يعد كما كان في تفاعله مع فلسطين حتى تفسح المجال التصوري لإكمال كتابة تقريرك الصحفي – وهذا غير صحيح أن هذا الوجدان الشعبي مع حرب الإبادة الصهيونية الهمجية والبربرية ضد غزة قد ازداد أكثر فأكثر ليس فقط في الداخل بل كذلك في الخارج – والمظاهرات والاحتجاجات التي يقوم العرب المقيمون في أوروبا وأمريكا كانت وما زالت تشهد على ذلك
أخت نائلة بارك الله وحيّا وسدّد الخطى على الملاحظات الحاذقة
مقال في الصميم.
(في رؤية متكاملة تضع يسوع الناصري في تاريخه الفلسطيني، وتعيد قراءته في ضوء مآسي النكبة المستمرة، صاغ جورج خضر فلسطينه ليس كاستعارة بل كحقيقة مصبوغة بالألم والدم، فقراءته تتميز في كونها تضع المسيح في قلب التجربة الفلسطينية، وتحرره من الأطر الجاهزة، وتراه في أعين الرعاة وليس في أعين الملوك، وتبني له عرشاً في قلوب اللاجئين والمضطهدين.) …
مقتبس عن مقال إلياس خوري الأخير (عن جورج خضر) وذلك لدحض فكرة محمد جميح بأن القضية الفلسطينية قد فقدت بريقها في الوجدان الشعبي العربي عامة … نقول هنا بأن القضية الفلسطينية ما زالت حية ليس فقط في وجدان العرب المسلمين بل أيضا في وجدان العرب المسيحيين كذلك … نحيي أيضا الأخت نائلة على ملاحظاتها الثاقبة رغم البتر الذي تعرضت له من قبل التحرير …
الذي حيرني هو كيف عرفت الأخت الخنساء أن الصحيفة بترت تعليق الأخت نائلة، إلا إذا كانت الخنساء هي نائلة!
أحسنت أيتها الأخت الخنساء – اقتباس جاء في محله بالفعل !!
من دروس الماضي القريب.. يمكن ان تستخلص انه على السلطة الفلسطينية وباقي الفصائل
الحياد.. وأكرر.. الحياد.. التام في ما يخص الشؤون العربية الداخلية للبلدان العربية..ولا شؤون
النزاعات بينهم..
.
كانت ولا زالت مواقف غير موفقة وغير محايدة.. كانت ولا زالت سببا في “فلسطين ليست قضيتي”..
.
ووجب فرملة النزيف.. بالتوقف عن اصدار مواقف غير محايدة.. وان يتحمل من يصدرها النتائج كما هي..
.
لا يوجد حل آخر سوى الحياد.. الحياد المطلق.. وهوايضا مكلف.. لكنه أقل ضررا بكثير… وبكثير…
لم نرى يومًا تدخُّل الفصائل الفلسطينية في الشؤون الدَّاخلية للدُّول العربية ، كلُّ ما في الأمر أنَّ بعض الفصائل علَّقت على مواقف و تعاون دوَّل عربية مع الكيان المحتل و هذا يعتبر انحيازًا له .
لله درك يا ابن الوليد، هذا هو عين الصواب.
@مكبر الصوت.. انتا لسا ورايا بلقب جديد
.
لا تنفع القضية في شيئ ان انكرت مطبات مواقف لفصائل فلسطينية مما تتحدث عنه اعلاه..
.
واللبيب بالاشارة يفهم.. وساذكر لك ايها اللبيب (ان كنت لبيبا) كلمة سوريا مثلا.. ولك أن تكمل ماذا حدث..
شكرا لك سي وليد..
كلام مكبر الصوت مضبوط مئة بالمئة – لا فض فوك
كان الأحرى بك أن تطالب نظام بلدك أن يلتزم الحياد في الحرب على غزَّة
انتا لسا ورايا.. اختصاصك ابن الولبد ..
.
المغرب غير محايد.. هو مع غزة قلبا وقالبا..
.اكراهات السياسة والدفاع عن البلاد شيئ آخر..
.
وجب علبك أن تركز على حياد الفصائل في شؤون
الدول العربية… إن أردت لقضية فلسطين خيرا..
انت تحاول أن ترجع الموضوع إلى المغرب.. وهو
غير مؤثر في القضية.. وفي أقصى الغرب… وبسبب
البوليساريو تلبسونه تأثيرا قوبا في القضية.. 😀
وجغرافيا لا يستقيم الأمر..
.
اعيد قراءة ما كتبته عن الحياد المطلق.. وسوف ترى
أنه الحل الأمثل لقادة فلسطين بفصائلهم.. من
أجل القضية..
يعجبني في الكاتب جميح لغته الكثيفة وأسلوبه الجذاب والتزامه الفكري والأخلاقي.
شكراً لهذا المقال الهادف
اختيار موضوعاتك متميز وأسلوبك السهل الممتنع..والمضمون يدل على الكاتب الجيد.