فلسفة الألوان في رواية «ظلال الأزرق الخائف»

حجم الخط
0

إن كشف الأسرار الخبيئة المندسة في كنف الوجود، ضمن أفق تجربة الكتابة؛ تستدعي في سياقها العام، عمليتي الإدراك والوعي، والحالة هذه، تتأتى في ظل انتشالها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، ونرصد رهانات هذه الفعالية في رسم معالم النص الأدبي، تحت نطاق المجالات التداولية، إذ يقود هذا الأمر، لا محالة، إلى أن يضع المؤلف في قلب الإشكالية، فالأسئلة التي تطال البنى الذهنية لكل كاتب أو مبدع؛ تتمظهر في الطرح الآتي: كيف يتم بناء المعنى أو صناعته في مختبر الكتابة؟ وكيف يتمثل الواقع المعيش سلبا أو إيجابا؟ هل بالعلامة اللسانية وغيرها، أو الصوت أو الإشارة المرئية، أو لغة الجسد، أم مجتمعة حسب المادة الحكائية أو العمل الفني؟ وهذا ما سيتجلى للمسرود له في رواية « ظلال الأزرق الخائف « للكاتبة الأردنية ريما إبراهيم حمود، وهي رواية تقع في 185 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن الآن ناشرون وموزعون في عمان/ الأردن، 2020.

رمزية اللون/ الدلالة التعبيرية

إن للون دلالة رمزية تختلف من ثقافة إلى أخرى؛ بفضل ما أكسبته التجربة الإنسانية على اختلاف مشاربها وتصوراتها ومعتقداتها، من معان في تاريخها المستوطن لصيرورة الأحداث المتعاقبة، كما أنه داخل الثقافة الواحدة يحمل اللون معانٍ متناقضة، حسب السياق الذي تولدت فيه، وبعبارة أخرى، تتغير دلالاته حسب الوضعية، أو الحالة النفسية والاجتماعية للذوات في خضم تلوينات الواقع المعيش، فضلا عن ذلك، قد نجد بعض الثقافات والمجتمعات ترسو على معنى واحد في إطار أو مجال معين، ونعاين هذه الفرادة، في القدرة على التعبير وربط جسور التواصل، ومن الأهمية بمكان الإشارة، ها هنا، إلى أن الروائية اتكأت في عملها السردي على تقنية فنية كانت عصارة ضاغطة لكل الأحداث المتدفقة داخل المتن الحكائي، ويتعلق الأمر، برمزية الألوان وفلسفتها الدالة، ونخص بالذكر، اللون الأزرق والأسود، في كل مفاصل القص أو الحكي.
وفي ضوء ما تقدم، فالشيء اللافت للنظر، أن الكاتبة جعلت اللون الأزرق يحمل دلالتين متناقضتين، وهو توظيف ساهم بشكل أو بآخر في إثراء العمل السردي بطاقاته التعبيرية المتنوعة، من خلال توالد المعاني والدلالات عبر صياغة جديدة، يتمثل الأول في التناص مع القرآن الكريم، وهو تناص حواري تنقلنا فيه الروائية من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، تحت سقف علاقة متعاكسة ومتضادة، بانفتاح النص على المرجعيات الخارجية أو المعنى أو الإحالة بطريقة واعية أو غير واعية، ويبرز هذا بجلاء، في تفكيك البنية الكبرى للنص السابق، كوسيلة للتفاعل والتداخل والانفتاح، في مجال الكتابة والتأليف عبر خاصية إنتاجية، تتموضع ضمن الإطار المتجاوز للعلاقات اللسانية والتركيبية والصوتية.. فالتناص أو تحت مسمى التعالق النصي « كل ما يضع النص في علاقة خفية أو جلية مع غيره من النصوص» بتعبير جيرار جينيت.

وتماشيا مع هذا الطرح، يتضح ذلك جليا، في أن هذه الزرقة تطال الجسد كله، والحواس الخمس، بمعنى أن الروائية شبهت الحرب بما تزرعه من رعب وخوف، بأهوال يوم القيامة، وما ينجم عنها من آثار سلبية مادية ومعنوية، كما جاء في القرآن الكريم « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا « سورة طه، ويشير المفسرون إلى زرقة العين وسواد الوجه من شدة ما هم فيه من أهوال، بسبب ما يعيشونه من خوف وقلق وعطش وخيبة، أما المعنى الثاني، فيتمظهر في اختراق الذاكرة الجمعية، بما تحمله من مخزون، ومن الإشارات المهمة كون اللون الأزرق؛ من خلال عملية الترميز داخل أسلوب الحكي، وتحت تأثير السرد أو الحبكة يتجلى التدليل على فحص التجارب الحسية بإبراز مضامينها ومحتوياتها؛ بنقلها من عوالم الماضي إلى عوالم الحاضر باستهداف الواقع المعيش، حسب ما يقتضيه الظرف الراهن من تناقضات وصراعات، كعملية استرجاعية، ويتمثل ذلك بذكر اللون الأزرق بما كان يحمله من معان إيجابية في ما مضى: الاستقرار، الصفاء، الحقيقة، الثقة، الولاء.. أما اليوم فقد تغيرت الأمور، وصارت في غير الوجهة التي ألفتها الحياة، تطالعنا في هذا الصدد، قصة علياء في علاقتها مع حسن، هذه العلاقة التي سادها الاضطراب، فماتت بسببه كل الأشياء الجميلة، تقول الساردة بضمير المتكلم على لسان علياء بنبرة حزينة «وحيدة كما لم أكن من قبل، متعبة، خائفة وقلقة، الهاتف الذي في يدي لا فائدة منه، طالما أن هاتف حسن خارج الخدمة، أراقب الشارع الذي يتقلب وجهه كل يوم، تثور القنابل فجأة فينفلت الجميع خارج أقبيتهم، أقفاصهم.. يركض الجميع في الاتجاه المعاكس لتحليق الحوامات، تدمر البراميل حارة بأكملها، تصيح سيارات الإسعاف راكضة إليها الجموع، ثم يعودون حاملين الجرحى والشهداء «.
فأضحى اللون الأزرق بصيغه المضمرة والمعلنة، علامة سيميائية تعكس واقعا يعيش البرودة على المستوى العاطفي والوجداني، مجانبا للمنطق والعمق الإنساني بأبعاده الروحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو شعور لا يبعث على الراحة والطمأنينة.. فالثقة أصبحت مهزوزة في عالم مهترئ قوض كل سلالم القيم والمبادئ، إذ أضحى يعيش انحدارا وانبطاحا؛ فكانت أكثر صوره هيمنة صور القتل والصراع والتخريب والتعذيب ببعده المادي والسيكولوجي. وهنا، تكمن قدرة السرد على صياغة تجربة القارئ أو المتلقي؛ انطلاقا من التفاعل الحاصل بينه وبين النص أو الخطاب، وهو انصهار، كما أشار الفيلسوف هانز جورج غادمير يجمع بين ماض ينادينا وحاضر ينصت إليه. نشير هنا أيضا إلى شخصية فاطمة؛عندما تحدثت عن ولادة أحمد «حين بدأ القصف لم أفكر إلا فيه، لا أستطيع أن أتحمل فكرة الحرب التي بدأت بعد ولادته بثلاثة أشهر، تركت الحرب كل السنوات العشرين الباردة التي نهشت من روحي الكثير واختارت سنة ولادته! احتل الذعر كل خلية في جسدي، عادت إلى رأسي حكايات جدتي عنها، الجسر والمنفى، الغربة، العربات التي حملتهم خارج البلاد، الغرفة التي حشرت فيها ثلاث عائلات وأخي الذي مات رضيعا».

ولا يختلف الأمر بصورة كبيرة مع فلسفة اللون الأسود، إذ يعبر بطريقة غير مباشرة عن مكنونات المتن الحكائي، من خلال علاقته بالقرائن اللفظية؛ لأن دلالة الأشياء لا تتحقق خارج التجربة الإنسانية، فهذا الربط الذكي من قبل الكاتبة ريما إبراهيم حمود، دفعنا دفعا إلى مواصلة السياحة الفنية أفقيا وعموديا، في استجلاء المضمر والضمني والمتواري والمتمنع، بالنبش والحفر في ما بين السطور، من خلال الغوص الذي يسمح لنا في تقريب المعاني البعيدة، وجعلها في مقام الحضور والبروز، عن طريق فهم الأحداث بتفكيك بنياتها وكشف مدلولاتها. تقول الروائية بلسان شخصية نور «كانت قريبة جدا، الهواء حولي صار أسود، عاصفة انفجرت، في لحظة عمياء اختفى كل شيء، هناك من أطفأ الشمس فجأة، وحبس عني كل العويل والصراخ الذي انفرج حولي، من فعل ذلك؟ أبي يقف عند قدمي، وجوه أخرى لا أعرفها، تتحرك شفاههم فأرى خلفها فجوات سوداء «، وتقول أيضا «سواد، سواد غريب، أتمشى فيه وحيدة، أمد يدي في الهواء.. أشعر بالسواد يطبق عليّ، أين أنتم؟ أتكور ضامة ركبتيّ إلى صدري، الجدران السوداء تضيق أكثر».

المقاطع السردية كلها تنبئ عن رؤية أنطولوجية نابعة من الغيرية، التي أفرزت سيناريوها تعززت من فضاءات الخراب، ومجّدت منطق التصحير المادي، وتضاعيف الجفاف الروحي، فيغدو حبل القطيعة محتملا بمرور الأيام، كمدخل ضروري لمظاهر الإبادة على تنوعها، كما نلمس ذلك، في الأسئلة القلقة المختلفة التي لها طابع خاص، من مثل: من فعل ذلك؟ ماذا حدث؟ هل هنا أحد؟ حيث فتحت دروبا للتفكير في المستقبل، ويتأكد هذا في المضامين والمقاصد المستلة منها، لكنها تنزاح إلى شعور يدلل على المجهول في خضم السياق الذي تولدت منه، إذ يدرك المتلقي خطورته نتيجة تعقيدات الوقائع اليومية بما تحمله من مفاجآت، لأن الضربة الموجعة لا تدرك الكينونة كنهها في ظل تلوينات الحياة، أي أن الواقع أضحى فضاء بلا معالم ولا خرائط واضحة، فكان مدعاة لرؤية ضبابية، فاللون الأسود يرمز للحزن، والمعاناة والموت الذي له علاقة وطيدة بالقبو، إذ يتم اللجوء إليه في الحالات الصعبة وأوقات الشدة، وهنا، القبو كعلامة لسانية يعكس الحرب الواقعة في العالم الخارجي، وهو شكل من أشكال الحصار، أدى بالأهالي إلى الهروب إليه، بولوجه واقتحامه كصمام أمان يضمن لهم الحياة والاستمرار، وهذا ما أشارت إليه علياء في حديثها عنه « في هذا القبو، المكان الذي لم أعرفه من قبل، أجلس في الزاوية، أريد أن أحتل هذه المساحة التي أجد فيها حائطا وراء ظهري، وحائطا آخر أسند كتفي إليه».

كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية