فلسفة البحث عن حل بين الأرنب والسلحفاة

غالب الناس سمع بقصة الأرنب والسلحفاة اللذين تسابقا، وفازت السلحفاة بالسباق، على الرغم من أنها أبطأ بكثير من الأرنب، ذلك أن الأرنب اعتقد أنه يستطيع بسرعته تجاوز تقدم السلحفاة التي شقت طريقها ببطء ميزه الثبات والاستمرارية، بعكس الأرنب الذي اعتقد بغرور أنه مهما أتاح الفرصة للسلحفاة بالتقدم عليه بأشواط، فإنه قادر على اللحاق بها، لكن قليلا منا سمع بملهم هذه القصة وهو الفيلسوف اليوناني زينو.
زينو.. هو واضع معضلة العداء اليوناني الأسطورة اأخيلب والسلحفاة، التي فشلت كل محاولات الفلاسفة الذين لحقوه – مثل كانط وهيوم وهيغل- من وضع حل نهائي قاطع لها، وإن بدا نظريا أن بعضها يمثل حلا ممكنا، خصوصا عندما ظهرت مدرسة الفلسفة الرياضية في البحث عن الإجابات على أصعب مسائل الكون، من خلال منهج المعادلة القائمة على التفاضل والتكامل، وقياس اللامتناهيات الصغيرة جدا التي لايزال حسابها على الواقع مستحيلا، وإن بدا ممكنا رياضيا. ذلك أن الفلسفة أساسا، نشأت لإيجاد الإجابات على أكثر التساؤلات استعصاء على الحل، أو وسيلة لإيجاد الإجابات نظريا، يمكن اعتمادها عمليا في ما بعد حتى لو لم تكن بعد قابلة للتطبيق. هي تلك التساؤلات التي تمس جوهر الحياة الإنسانية في نواح عدة، ولم يكن بإمكان الإنسانية أن تتطور من دون بحث دؤوب عن حلول لها. كل العلوم تدين للفلسفة بالكثير والتكنولوجيا المتطورة التي نعاصرها اليوم أبلغ مثال على ذلك.
عندما وضع زينو معضلاته الفلسفية، كان له هدف محدد، وهو أن يؤيد طروحات سلفه وأستاذه بارمينيديس ضد من قاوموا معتقده بأن االجميع يمثل الواحد’، الذي يرى أن الاعتقاد بحدوث التغير في الكلية خاطئ وعبثي، ويقصد بذلك أن أي تحرك لا متناه في الحدوث في العالم الطبيعي لا يمكن أن يفضي إلا إلى وهم بوجود نتيجة حتمية. استدل زينو على ذلك بواقع أن اأخيلب ترك مسافة طويلة لتقدم السلحفاة عليه، وعندما بدأ في تحركه السريع فإنه أغفل حقيقة أن السلحفاة مستمرة في التقدم وإن كانت بشكل أبطأ، بحيث أنه كلما قطع مسافة الفارق وضيقه فإن السلحفاة تصنع في الوقت نفسه فارقا جديدا على العداء السريع تجاوزه، وهو ما جعل زينو يعتقد أن أخيل لن يستطيع تجاوز السلحفاة مهما فعل، مادامت الأخيرة مستمرة في الحركة. ببساطة يرى زينو أن التحدي الذي يواجه أخيل لم يعد في تجاوز السلحفاة، بل في تجاوز الفارق الذي صنعه بتخلفه المغرور المتعمد عنها. وأراد زينو بذلك أن يدلل على أن أي استنتاج لما يحدث في العالم لا يمكن أن يوصل لنتيجة حتمية، لأن للمعضلات امتدادات تتزايد بمتغيرات الأحداث، وهو ما يمكن تبسيطه في تزايد المسافة التي على أخيل تجاوزها في كل مرة، ولا يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية. وعلى الرغم من أن الرياضيين والمهندسين في عصر ما بعد الحداثة تمكنوا من وضع حلول رياضية لهذه المعضلة، إلا أن أحداً من فلاسفة هذا العصر لم يجرؤ على اعتبارها حلا حتميا. وأرى بتواضع أن معضلة السباق بين أخيل والسلحفاة لا تكمن في المسافة التي ركز عليها زينو، ولكنها تكمن في عامل الزمن الذي يتقدم للأمام بدوره، ويلعب دورا في وضع مسألة الحركة والمسافة في مشكلة استمرارية المعضلة الكامنة في محاولة أخيل تجاوز السلحفاة، ومن الأرجح أن الفلاسفة العظام حديثا عالجوا هذا العامل المتغير المشوب بالافتراضات وسبقوني إلى وضعه في الحسبان.
وسواء حلت المعضلة نظريا أم لم تحل، تبدو فلسفتها التي يمكن إسقاطها على أصعب تساؤلات الإنسان، حافزا لفلسفات جديدة لا حصر لها. وهذا يطرح نظرة يجب أن يتحلى بها كل إنسان، من أن البحث دافع للتطور، وأنه بدونه لا يمكن خلق حيز للحل أصلا. كما أن في معضلة زينو بالذات، عبرة لمن يعتقد أنه يمكن التحكم في النتيجة ما دامت المعطيات النظرية تؤدي إلى حل. المشكلة دائما في اعتقاد الإنسان المغرور أنه يمكن استبعاد المتغيرات التي لا يمكن حسابها أو اعتمادها عند القياس النظري للأمور، والقدر المجهول إحداها، وأصل الكون وحقيقة الخالق جزء من تداعيات الأسئلة في هذا الجانب، ويبدو اليقين الإيماني حلا وحيدا لها. التحرك خارج سياق الحسبة أيضا عامل آخر، فأنت تدخل في حساباتك ما تعتقد أنه يؤثر في النتيجة، وتهمل مهما كنت دقيقا أن هناك عوامل أخرى قد تكون فاعلة من دون أن تدركها. سيقول قائل إن القدر يبدو مجهولا لأننا لم نجد بعد وسيلة لتوقعه حتى يتسنى معرفته أساسا. لكن هذا القائل لا يستطيع الجزم لو أن العلم والتطور يمكنه أن يصل يوما لطريقة ما يمكنها تحديد وسيلة معتمدة لمعرفته، مهما حاول أن ينفي الجزم بأن معرفته مستحيلة، من منطلق أن المعرفة موجودة وإن لم نصل إليها بعد، وقد لا نصل.
هذا الموضوع برمته يصب في كثير من المعضلات والمشكلات التي نواجهها يوميا، ولكننا لا نفلسف أو نحذلق عواملها وافتراضاتها، فالفلسفة من العلوم النظرية التي تلزم من يخوض فيها بالنظر إلى المشكلات بتجرد خال من التأثر، وهو ما لا يحدث عندما نقوم بتحليل مشكلاتنا الخاصة والعامة. لكن ما يمكن الاستفادة به من فلسفة زينو وسباق أخيل والسلحفاة، هو أننا يجب أن نضع اعتبارا لذلك الغرور الذي يمنعنا من إيجاد حل للإجابة، أو يدفعنا للاعتقاد أننا نعرف حلا قاطعا لها، أو يقلل من احترام المتغيرات التي نجهلها ونضطر بإهمال أن نستبعدها من الحسبة، فقط لأننا نعتقد أننا نتحكم بكل الأسباب التي تقودنا إلى التغلب على السلحفاة.

‘ كاتب واعلامي إماراتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بن علوي:

    اظن ان الخلاصة هي في هذه العبارة: ( أننا يجب أن نضع اعتبارا لذلك الغرور الذي يمنعنا من إيجاد حل للإجابة، أو يدفعنا للاعتقاد أننا نعرف حلا قاطعا لها، أو يقلل من احترام المتغيرات التي نجهلها)
    لآن الحل يرجعه لأقرب شيء حولنا وهي أنفسنا … فمنها ننطلق

  2. يقول كمال التونسي ألمانيا:

    ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق

اشترك في قائمتنا البريدية