ثمة جملة من التصورات المتصلة بفلسفة الصراع؛ مفادها أن الحياة الاجتماعية تولد بطبيعتها الصراع لكونها تتكون من جماعات ذات مصالح مختلفة ومتداخلة، فالنظم الاجتماعية ليست متحدة ومنسجمة فهي تتضمن أشكالا متباينة من القوة وتميل إلى التغيير سعيا لتأكيد ذاتها وضمان حقوقها والتخلص من الطبقة المسيطرة عليها، كل ذلك لن يتأتى إلا عن طريق الصراع. وتتجلى نظرية الصراع Conflict Theory في مستويات: بين الأفراد، والجماعات، وفي دائرة الأفكار، والصراع الطبقي على نحو روّجت له الماركسية، وصولا إلى الصراع الحضاري.
وبالطبع فإن نظرية الصراع التي يمكن إسقاطها على العديد من الوقائع التي يشهدها عالمنا العربي، في غياب الانسجام والتوازن، أو وجود حالات عدم الرضا عن السلطة والدخل المادي، والملكية الخاصة والصراعات بين العشائر والفئات الاجتماعية والأقليات والأفكار. فهناك انتقادات موجهة لنظرية الصراع، خاصة في منظور الصراع الطبقي الذي روّج له كثير من الروائيين العرب المؤمنين بالاشتراكية العلمية، حيث إن مفهوم الصراع نفسه مأخوذ من العلوم الطبيعية، ولا ينطبق في كثير من الحالات على المجتمع الإنساني، فقد يكون هناك صراع، أو توافق، أو إجماع أو مركبات بينية. فالعنصران المتضادان (الموضوع ونقيضه) قد يتحدان لإنتاج ظاهرة جديدة، يمكن أن تسمى مركب الموضوع، بمعنى أن الصراع يجب أن لا ينتهي نهاية صفرية، بانتصار طرف على آخر، وإنما قد يصل الطرفان إلى توافق ما، مثل المركبات الكيميائية، فقد يؤدي تضاد بعض العناصر إلى إنتاج مزيج جديد، فمن الممكن أن يسعى الناس بوعي وذكاء إلى تحقيق قدر من الإجماع.
والتوافق بينها حول أمور مشتركة، والتباحث في الأمور الخلافية. فالصراع سيكون محدودا لفترة، تعقبه عملية تقارب، ثم توافق جزئي أو كلي، وقد يكون اللاتوافق، لكن يعقبه تأثيرات ما، تتضح بعد ذلك، فالحياة الإنسانية لا يمكن حصرها في الصراع فقط، أسوة بمنطق الغابة، حيث الحيوانات تتصارع من أجل تأمين طعامها، فيسود منطق القوي يأكل الضعيف، وأن الصراع نهايته هزيمة طرف، ومحوه.
وقد أفرز الفكر الأمريكي مفهوما مخالفا للصراع، وهو الإدماج والإجماع، وهو ناتج عن طبيعة المجتمع الأمريكي، حيث تتعدد العرقيات والأصول فيه، مما أنتج فلسفة التعايش، في ضوء حقيقة التنوع، وتدعمت قيم التسامح والتعايش، وفرضت الاهتمامات الواقعية، وسادت فكرة الدولة المحايدة، التي يتحقق فيها إجماع سياسي حول قضايا تهم مصلحة مواطنيها، ونادى المفكرون الأمريكيون بأهمية تبني نظرية أخلاقية أكثر شمولا، تتخطى الصراعات في المجتمع، وتُثبِت التسامح الذي يعني إدماجا لجميع المواطنين والمقيمين في الوطن، ويجعل من التنافس سبيلا شريفا.
وإذا طبقنا هذه الرؤية على الرواية العربية، فإننا سنعي أن الصراع لا يشترط أن يكون قائما في الرواية بشكل كامل، أي يكون محوريا فيها، كما يفترض البعض، فلا بد أن تكون للروائي نظرة إلى الواقع المعيش، وكما قال عبد المحسن طه بدر: إن الإنسان العبقري والأديب المبدع يتمتع بحساسية شديدة، يحكمها ذكاء حاد، ولديه القدرة على تركيب الأبنية الخيالية، وبذلك يستطيع أن يستكشف القوى الفاعلة في مجتمعه، والتمييز بين القوى التي تشده إلى الخلف، والقوى التي تدفعه إلى الأمام. والعمل الأدبي يأتي معبرا عن هذه الرؤية النابعة من حساسية الأديب. وعلى الأديب الطامح إلى التغيير والمتطلع إلى المستقبل معرفة القوى المتصارعة من أجل المستقبل، وعليه الانحياز إلى قوى التقدم، وعليه أيضا الحذر من أن يزيف رؤيته وينحاز لأيديولوجية ما، أو يتخذها للدعاية. وبذلك لا يكون الروائي ناقلا للأيديولوجيا والفكر في سردياته، وإنما ينظر إلى المجتمع، وينفعل بقضاياه، وما يراه في شخصياته، وما يعاصره من أحداث، ويكون شاهدا على التاريخ الفردي والجمعي، لكن عليه أن تكون قراءته فاعلة، عميقة، لا تتجمد في الترويج لأيديولوجيا بعينها، وإنما تسعى إلى تقديم قراءة لواقع المجتمعات، وقوى التغيير فيه، والقيم الإنسانية التي يلزم ترسيخها، وأهمية نشر مبادئ إنسانية، قوامها التسامح والتعايش والاندماج، وهذا لا ينفي وجود الصراع، لكنه صراع من أجل الأفضل، وفي سبيل المزيد من التأثير. وهذا التأثير لن يتحقق إلا بتبني رؤى عديدة، والانفتاح على أفكار جديدة، قد تأتي من الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو مراكز الفكر، أو من الشعب نفسه: البسطاء والنخبة، وهذا ما يشير إليه عبد المنعم تليمة عندما يتساءل: ما الذي يحول بين خصوبة المجتمع وتعدده الفكري والظهور؟ ويجيب بأنها الهيمنة والاحتكار بديلا عن المحاورة. فالحل يكون في المحاورة بين التيارات والاتجاهات والمدارس المنتجة للأدب والثقافة بلا تفرقة، وسيتضح لنا عندئذ أن القبلية والطائفية والعشائرية والسلفية قوى موضوعية في مجتمعنا العربي، تشارك في الإنتاج الثقافي. فليكن النص الروائي سببا للكشف عن وجهات النظر، وتنوع الرؤى، وثراء الفكر، حتى لو كُتِب من منظور أحادي؛ هو منظور الروائي، فلا بد أن هناك مناظير لروائيين آخرين، يختلفون في الفكر والأيديولوجيا، وبذلك تتوافر في الروايات تعدديات، تعبر عن حالة الحريات والتعددية في المجتمع وبين الأفراد.
فعلاقة الرواية بقضايا الإنسان ليست علاقة جزئية، فالإنسان ليس جزءاً من السرد الروائي فقط، بل إن العلاقة بينهما أساسها الوحدة والتوحّد، فالإنسان موضوع الرواية، والرواية تحكي عن الإنسان، حتى لو كان سردها خياليا أو تاريخيا أو أسطوريا، بجانب السرد الواقعي والاجتماعي، فالإنسان حاضر في كل هذا: في الموضوع والطرح؛ وفي الخطاب والرؤية، وفي تصوير الشخصيات، وسرد الأحداث؛ بما يجعلنا نجزم، أن الرواية هي انعكاس للإنسان في حركاته وسكناته، ومشكلاته وأحلامه. ونقصد بالإنسان الفرد: ذهنه وفؤاده، وسلوكه ونشاطه، وعلاقاته وأفكاره؛ كما نقصد به أيضا الإنسان الجمعي، في علاقته مع: المجتمع والقوم والعشيرة والأسرة، فلا يوجد إنسان يعيش دون محيط اجتماعي، إلا إذا اختار النأي بنفسه، والعيش بمفرده، تمزقه الوحدة، وتعصف به الهموم، منبوذا من جماعته، مرفوضا من أقربائه.
وهناك أيضا أبعاد تتصل بالإنسان، مثل البعد القومي والوطني والقطري والجهوي، أي أننا نريد قراءة الإنسان بوصفه ذاتا مفردة، وقراءة علاقته مع الناس بوصفهم مجتمعا وجماعة ودولة وشعبا، وما يتعلق بهم من ثقافة وهوية ومشاعر وأفكار، وهي علاقة فيها الكثير من أوجه الاختلاف.
فعندما ننعت الرواية بأنها عربية، فإننا نكسبها هوية عنوانها العروبة: الإنسان والثقافة والتاريخ والجغرافيا والهوية والحاضر والمستقبل. فليس النعت من باب التمييز لها على مستوى خريطة الرواية العالمية، وإنما هو انتماء متجذر، وإبداع رصين صيغ باللسان العربي، وصار علامة على الرواية العربية الحديثة، على عكس الرواية الغربية التي كُتِبت بلغات عديدة، وحملت ثقافات ظاهرها أنها أوروبية غربية أو أمريكية غربية، إلا أن باطنها ومكوناتها يحوي اختلافات عرقية ولسانية وفكرية وحدودية، بالإضافة إلى كل ما ينبئنا به التاريخ الأوروبي من حروب دموية، وصراعات على النفوذ الاستعماري قديما، والتمدد العالمي حديثا.
من أجل هذا، لا يمكن فهم القضايا الإنسانية في الرواية، دون العودة إلى الواقع السياسي والثقافي والمعرفي والحضاري، ودون التعرض إلى المشكلات الاجتماعية والمجتمعية، ودراسة خصوصية المكان، وما حملته الحقب الزمنية من تغييرات.
كاتب مصري