لودفيغ فيتغنشتاين
في عمق فلسفة القرن العشرين، تتلألأ شخصية لودفيغ فيتغنشتاين كنجمة في سماء التفكير البشري. إنه الفيلسوف النمساوي الذي عزز الفهم العميق للعلاقة المعقدة بين اللغة والعالم، راسما معالم فلسفية جديدة تحاكي طبيعة تلك العلاقة الغامضة.
ولد فيتغنشتاين في بدايات عام 1889 في مدينة فيينا، محمولا على أجنحة الثقافة الغنية والجو الإبداعي الذي عرفته آنذاك العاصمة النمساوية. لودفيغ فيتغنشتاين كانت علاقته متنوعة ومعقدة بعض الشيء، وهي تعكس تفرّد شخصيته وتأثير التجارب والعوامل المحيطة به على نموه الفكري. وُلد في عائلة ثقافية ثرية في مدينة فيينا بالنمسا، حيث ازدهرت الفنون والعلوم. والده كارل فيتغنشتاين كان موسيقيا وأستاذا للبيانو، في حين كانت والدته آنا شيكرل، تنحدر من عائلة إقطاعية وكانت تعشق الموسيقى، كان اهتمامه بالموسيقى كبيرا، إذ كان أبواه مولعين بالفن. وكان بيتهم يستقطب كبار موسيقيين عصره من أمثال براهمز (Brahms) وماهلر (Mahler) وكان مغرما بالموسيقى الى حد الهوس، لذا تعلقت أمثلته بالموسيقى، الترقيم الموسيقي وفهم المقاطع وتأويلها، عاش فيتغنشتاين ضمن هذه الأجواء المعرفية.
درس فيتغنشتاين في المدرسة الفنية الفيدرالية في زيوريخ، حيث تخصص في هندسة الميكانيكا. خلال هذه الفترة، كانت لديه اهتمامات في مجالات الفيزياء والرياضيات، استند فيتغنشتاين إلى أفكار فلاسفة مثل آرثر شوبنهاور وغيره، واهتم بمفهوم الوصف اللغوي للواقع. في مقالاته الأولى، تناول أهمية اللغة في التعبير عن الأفكار والمفاهيم ويبدو أنه جاء إلى الفلسفة بعد قراءته كتاب راسل «مبادئ الرياضيات» فقد كان يعد نفسه للتخصص في الميكانيكا، لكن بعد قراءة هذا الكتاب لفتت انتباهه مشاكل فلسفة الرياضيات، وجعلته بالتالي يقرأ الكثير من الأبحاث حول هذا الشأن.
تطور تفكيره الفلسفي
في عام 1921 نشر فيتغنشتاين مصنفا منطقيا فلسفيا وهو كتيب صغير، يحوي الكتاب سبع قضايا أساسية، كان كتابه الأول موجه في النقد، بنظرية راسل ووايتهاد كما ظهرت في كتابهما مبادئ الرياضيات، وهو ينقد الذرية المنطقية، لقد سعى راسل إلى حصر لغة المنطق في بضع رموز، لا يمكن تحليلها إلى عناصر أصغر تماما مثلما يتكون الكون من عناصر أولية يسميها راسل الأشياء التي لا يمكن تقسيمها.
يؤسس لودفيغ فتغنشتاين في نقده حول هذه النظرة، توضيح قضية مفادها، حينما نعلم بهذه العناصر علمنا هذا يرتبط بالأشياء التي تكونّها، إلا أن هذه الأشياء، ما هي إلا مجموعة علاقات، فيحول بهذا السؤال الفلسفي من الشيء إلى علاقة الشيء بالشيء، ويقترح الطريقة السليمة في معرفة هذه العلاقة، التي تمر بالضرورة عبر المنطق فهو الكفيل وحده بأن ينظم معرفتنا بالكون، ويقنّن تمثلنا له، وبهذا الحد يعتبرها فتغنشتاين شروطا مسبقة للغة وبالتالي للتجربة. فقد اعتبر وفق هذه الرؤية المنطقية أن الكون مبني في حيز منطقي يجعل من الأحداث عناصر مكوّنة لهذا الحيز على أنه نظام يضبط كل العلاقات المكوّنة، فما اختلاف شكل الأشياء في الكون، إلا لاختلاف إمكانيات التأليف بين العلاقات، لقد أثر هذا الرأي في أحد أهم أعضاء حلقة فيينّا ريدلوف كارناب، وكتابه حول البنية المنطقية للكون، الذي كان له تأثير عميق في الفلسفة الغربية، وما يمكن أن يوضح في المقام هو اعتبار فيتغنشاين أن الكون هو كل ما يحدث، وأن التحقيقات الأولية في فلسفة اللغة من حدود ومعنى، لا تتعدى هذه الأشياء المحدثة، بالتالي كان مؤلفه هذا مصنف منطقي يدعو إلى الصمت لا لعدم القدرة على الكلام، بل لوجوب الصمت، ومن ثمّ إلى التفرغ لأشياء أخرى، لكنه عاد من جديد حينما أعلن موقفا على طرف نقيض من موقفه الأول فيقر بأن عمل الفيلسوف لا نهاية له، إذ أن مهمته تتجدد بتجدد اللغة ذاتها
حدود المعنى
تصوّر فتغنشتاين يشبه فكرة أن اللغة عبارة عن لعبة معقدة، حيث يتعين علينا فهم قواعد هذه اللعبة وتطبيقها بشكل صحيح للتواصل بفعالية، وبالتالي، ينبغي لنا أن نتجنب تحديد معانٍ نهائية للكلمات والمصطلحات، وبدلا من ذلك نحاول فهمها ضمن سياقها الشامل وتفاعلاتها مع البيئة المحيطة، إن السؤال الذي يتضمنه فتغنشتاين في فهمه لحدود المعنى هو ما الذي يكون ذا معنى واللامعنى، ولكن كي نتبين حدود المعنى لا بد من تطبيق معيار أو وجود سمة، لنقل إن حدود اللغة ستكون حدود الكون، وما الكون إلا التفكير وما التفكير، إلا القضية ذات المعنى، وتتكون اللغة من مجمل القضايا التي يضبطها المنطق، بالتالي على القضية أن تشير إلى ما تقوله، لأن القضية صورة، أو كما يصفها أنها حدود لغتي، وهي حدود كوني، وإذا لم تطابق الواقع كانت هذه القضية كاذبة، فمطابقة الواقع هو ظرف الحقيقة، بينما تمثل ظروف الحقيقة محتوى القضية، في الفقرة 510 من كتابه تحقيقات فلسفية يقول: قم بهذا البحث قُل «هذا المكان بارد وأقصد به هذا المكان ساخن»، هل تستطيع ذلك وما الذي تفعله عندما تفعل ذلك هنا يعلق فيتغنشتاين يقول، ماذا يعني أن تكتشف أن عبارة ما ليس لها معنى، وماذا يعني هذا بما أنني أقصد به شيئا، فلا بد أن يكون له معنى، وهذا يوضح أنه يؤكد على أن القضية التي لها معنى ليس أن نقولها فحسب، وإنما تلك التي يمكن أن نفكر فيها.
يعتبر لودفيغ فيتغنشتاين أن وجود الإنسان ليس مجرد وجود جسدي، بل يتعدى ذلك إلى الجانب الفكري والعقلي. يعني ذلك أن الإنسان ليس مجرد كائن حي يعيش ويتنقل في العالم، بل هو كائن يمتلك القدرة على التفكير والتأمل في وجوده وفي العالم من حوله.
اللغة وصف وأداة
يذكر لودفيغ فتغنشتاين، في مقدمة كتابه تحقيقات فلسفية، قول القديس أوغسطين الذي يعترف فيه بأنه كان يحفظ الأشياء من خلال تسميتها، والأصوات التي نطقوا بها عندما يسمّون الشيء، لذا يتابع فيتغنشتاين هذا الرأي ويسلم بأن هذا التعالق له جذور الفكرة القائلة، إن لكل لفظ مدلولا وهذا المدلول مقترن باللفظة، بالتالي يصور لك هذا أن كل كلمة لها معنى محدد، لكن فتغنشتاين يؤكد من خلال المثال، حينما يقول أحدهم خمس تفاحات حمراء، فما معنى عدد خمسة؟ هذه لا وجود لها كما وصف علاقة الأشياء في ما بينها، أوغسطين فليس هناك علاقة حقيقية بين اللون الأحمر والعدد خمسة، بالتالي يتم تعريف اللغة بوصفها طريقة افتراض مسبق لوصف ومعرفة الأشياء، هذه اللعبة اللغوية تعتمد على مقاربة الأشياء التي يتم وصفها في اللغة، لذا يؤكد لودفيغ فيتغنشتاين على توضيح وصف الكلمة بالمعنى الدقيق لاحتمال للفظة معان متعددة، إذ لا يمكن معرفة المخاطب، إلا من خلال ما يقصده من هذه الكلمة أو تلك، هذه الأقسام المختلفة من الكلام المتشابه مثل بلاطة وكتلة متشابهتين، وهذا الشبه بين الألفاظ هو الذي يوقع الفلاسفة في الخطأ ويمنعه من رؤية استعمالاتها المختلفة، فمن المهم عند لودفيغ هو الغرض من التصنيف وكذلك بميولنا في المخاطبة.
اللغة المفكرة بالوجود
يرى فيتغنشتاين في أن كثرة الجمل بتفاصيلها، الأمر والنهي والسؤال، وأعداد لا تحصى ولا حصر لها من أصناف الاستعمالات المختلفة لكل ما نسميه علامات وألفاظا، يجعل من اللغة نفسها أداة ليست ثابتة، أو معطى، بل هي أصناف جديدة وألعاب لغوية جديدة تظهر للوجود، فحينما تتأكد حياة جملة ما، فهذا يعني أن هذه اللفظة والجملة لها وجود متجدد في الحياة، بالتالي يمكن فهم الظواهر الوجودية على أساس حدود الدلالة اللفظية، لذا يتأكد هذا الأمر بتأكد استمرارية اللغة، فحينما نقول لفظة ومفهوم الحرية بوصفها دلالة، لكن هذا الوصف لم يحدد لنا معنى واحدا ودقيقا، بل يأخذ أشكالا متعددة بتعدد تغير استعمالات الشعوب، وفهما لها بالتالي يصبح هذا المفهوم ضربا من اللعب اللغوي كما يصفها فيتغنشتاين في بحثه.
العيش وفق منطق اللغة
يعتبر لودفيغ فيتغنشتاين أن وجود الإنسان ليس مجرد وجود جسدي، بل يتعدى ذلك إلى الجانب الفكري والعقلي. يعني ذلك أن الإنسان ليس مجرد كائن حي يعيش ويتنقل في العالم، بل هو كائن يمتلك القدرة على التفكير والتأمل في وجوده وفي العالم من حوله. تعتبر اللغة وسيلة رئيسية لفيتغنشتاين لفهم وجود الإنسان. يرى أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل بين البشر، بل هي الوسيلة التي يمكن بها للإنسان أن يعبر عن أفكاره، ويشكل مفاهيمه حول العالم. بمعنى آخر، اللغة تساعد الإنسان في بناء معانيه ومفاهيمه حول وجوده ووجود الأشياء من حوله، يصور هذا على سبيل المثال، أن هناك شخصا يفكر في مفهوم الحب. عندما يستخدم اللغة للتعبير عن مفهوم الحب، يبدأ بإطلاق كلمات وعبارات مثل «الحب هو شعور عميق بالارتباط والاهتمام بشخص آخر»، ثم يبني على ذلك، بإضافة تفاصيل أخرى. هذا الشخص يستخدم اللغة لبناء مفهومه الخاص للحب وللتعبير عنه. عندما يشارك هذا المفهوم مع الآخرين، يتم تبادل الأفكار والتفاهم عن مفهوم الحب بين الأفراد باستخدام اللغة. هذه العملية تجعل اللغة وسيلة حاسمة لفهم الواقع وتبادل المعرفة والمفاهيم بين البشر، إن ما يجعل الأحاسيس والمعاني الوجودية معقولة على نحو الفهم، هو فهمنا لحدود اللغة ثم إنه ثمة معرفة ترتبط في شعور الإنسان مع نفسه مثل الألم والفرح والشعور كل هذه تتم من خلال مقاربة اللغة في التعبير يعتبر لودفيغ فيتغنشتاين، أن الأحاسيس والشعور الفردي وجود يتم التوصيف له بواسطة اللغة التي يفهمها المخاطب بطريقة ذهنية مجردة فقط، لا على نحو المباشرة من هنا تدخل اللعبة اللغوية في هذا الوصف في الفقرة 293 في التحقيقات يقول، إذا قلت عن نفسي إنني لا أعرف ما معنى « ألم» إلا انطلاقا من حالتي الخاصة، أفلا ينبغي أن اقول الشيء نفسه كذلك عن الآخرين، وكيف يمكنني إذن أن أعمم حالة فريدة بهذه الطريقة غير المسؤولة؟
كاتب عراقي
فقط ملاحظة نقدية بسيطة،
ورد في متن النص عنوان كتاب ڤِتْغِنْشْتَايْن، «تحقيقات فلسفية»، في حين أن العنوان المفضَّل في القرينة هو، «تحرِّيات فلسفية»، وذلك لاجتناب الالتباس الوارد بين معنيي دال «التحقيق» ودال «التحرِّي»، من طرف أول، ولاجتناب الخلط العارض كذلك بين العنوان الأول وغيره من عناوين كتب ومقالات مشابهة، من طرف آخر !!؟
تحية للأخ حسين خير الله
«يرى [ڤتغنشتاين] أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل بين البشر، بل هي الوسيلة التي يمكن بها للإنسان أن يعبِّر عن أفكاره، ويشكِّل مفاهيمه حول العالم» انتهى الاقتباس
قبل كل شيء، لندع جانبا هنا مسألة «تشكيل الإنسان مفاهيمَه حول العالم» لأن إشكاليتها أو إشكالياتها تقتضي شرحا طويلا وشائكا ليس هذا المكان مناسبا للخوض في غماره –
فمن منظور ذهني أو حتى «استبطاني» يكاد أن يكون محضا، لقد حاول المحلل النفساني الفرنسي جاك لاكان أن يدحض رأي ڤِتْغِنْشْتَايْن هذا من خلال القول العسير بما معناه بأن الهدف الرئيسي والشاقَّ للتحليل النفسي إنما هو «التحرِّي» الملحاح في رأي ذلك الفيلسوف الفذ القائل بأن «الإنسان قد وُهِبَ اللغةَ لا لشيءٍ إلا لكي يُخْفِي أفكارَه عن أنظار البشر» !!؟
تحية تقدير للكاتب وللناقد الفلسفي !!
رائع بكل معنى الكلمة الأخ الرائي والأخ الناقد الفلسفي
والشكر موصول أيضا للسيد الكاتب
تحية للفيلسوف العراقي حسين خير الله..نعم اللغة ليست ثابتة لأنها تتطور بتطور الإنسان..
وللغة وظيفة فكرية تتجسد ببلورة الأفكار إلى
صور مرءية في الحياة.ولا اتفق مع الراءي فيما
ذهب إليه عن ترك تشكيل مفاهيم الإنسان
حول العالم..لان اللغة جديرة بهذا التشكيل
تلقائيا.
«تشكيل الإنسان مفاهيمَه حول العالم» شيء
و«تشكيل مفاهيم الإنسان حول العالم» شيء آخر
الأخير مغالطة منطقية وليس له علاقة باللغة
سلام للكاتب والناقد والرائي