فليسقط «النيش»

الثورات الحقيقية هي ثورات تغيير الأفكار لا الأشخاص، هكذا قلت لأحمد الشاب اللطيف الذي رافقني إبان رحلتي القاهرية، موضوع مقالاتي السابقة، حيث ألقيت جملتي تلك إبان أحد مشاويرنا الكثيرة بجدية وهيبة لا تلتقيان وحديثنا اللاحق المبني على تلك الجملة، والذي ضحكنا بسببه وحوله أنا وأحمد، حتى «بانت نواجذنا». كنا نتحدث أنا وأحمد حول السياسة، وكيف أن معظم الثورات العربية عادت لمربع الصفر بعد مرور زمن عليها ونظراً لعدم مواكبة التغيير الفكري لتغيير الأشخاص إبانها، وهو ما يحدث في مسار كثير من الثورات الإنسانية، وأن الثورة المصرية ليست بمعزل عن ذلك. «حاضرت» كثيراً حول أهمية التفكير الحر والتجرد من فكرة الحق المطلق ونسبية الحقيقة، وهي أفكار صدمت أحمد، خريج كلية التجارة، الذي أخبرني أنه لم يفكر بالموضوع بهذا العمق من قبل. إبان الحديث، أخذتني الحماسة، وفجأة، قفزت أنا بفكرة تصورتها عظيمة: الثورة تبدأ من تحطيم النيش يا أحمد.
بعد أن ضحكنا مطولاً على أدائي الكوميدي، استأنس أحمد للفكرة، وبدأ يحكي لي صعوبات زواجه والتدخلات التي لا تنتهي للأهل، وكيف أن الأمهات عموماً ينحشرن في تفاصيل الزواجات حتى لا يبقى لزوجَي المستقبل خيار مستقل. حكى عن ثقل العادات والتقاليد التي لم تسمح له وزوجته أن يأخذا الحياة خطوة بخطوة، حيث كان لا بد للشقة أن تفرش بالكامل ولا بد للصيني، وهو طقم فاخر من الصحون والأكواب، الذي لن يكون مسموحاً أن يستخدمه أحد، من أن يستقر بأمان على أرفف النيش بجانب طقم أدوات الطعام الفضية التي لن تخرج إلا «للعزيز أوي» والذي لربما لن تراه الشقة وأهلها وطقمهم الصيني ومعالقهم الفضية في يوم. حكى لي عن «زيارة السبوع» التي اضطر خلالها لاستقبال أهله وأهل عروسه ليتفرج الجميع على الشقة ومحتوياتها ونيشها وصينيها ولينتهي اليوم بدمار شامل، حيث وصف الحدث قائلاً: «كانت شقتنا شقة عرسان لحد سابع يوم، بعدها أصبحت شقة عمرها خمسون سنة».
أخبرت أحمد أن التغيير قد لا يبدأ سياسياً ولكن اجتماعياً، حين تُعلن الثورة على التقاليد المرهقة التي تثقل كاهل الجميع والتي يرضخ لها الجميع كذلك. لا بد أن نكسر النيش ونحطم الصيني ونحرق الطقم الستيل، قلت لأحمد، لتصبح الشقة فعلياً ملكاً لأصحابها، ليتمتعوا بكل جزء منها وبكل محتوى من محتوياتها، لتكون لهم وعلى ذوقهم، مكاناً يعيشون فيه، لا متحفاً ينتظر زوار لن يأتوا أبداً. أخبرني أحمد أن الفكرة عظيمة وخطيرة، إلا أنها غير قابلة للتطبيق. أكدتُ أن الثورة الحقيقية الفاعلة ممكنة وأنها لن تبدأ سوى من تحطيم هذه التقاليد البالية، والتي عندنا مثلها في الخليج وشمال الشرق الأوسط وكل دولة من دول هذا الشرق القاتم، وأننا لن نرى التغيير السياسي حتى نحقق الانتصار الاجتماعي على ما لم يعد صالحاً لا لحياتنا ولا لأحمال الدنيا ومتطلباتها. ولأنني شريرة بعض الشيء، أخذت أتخيل هذا الحوار مع واحدة من «طنطاني» الحبيبات وأقلد ردودهن وهن يتكلمن عن الموضوع: «إنت اتخبطتي في نفوخك يا ابتهال، عايزة بنتي تدخل في شقة مفيهاش نيش وفي قلبه صيني محترم؟»، ورغم أن أحمد كان يغرق ضحكاً من تقليدي وإعجاباً بقدرة امرأة خليجية على اصطياد الجمل المصرية العريقة بحرفية، إلا أن كلينا كان يعرف أن الموضوع جدي، وأن سر التغيير الحقيقي، كما قررنا معاً، يكمن فيه.
أخبرته عن عاداتنا الخليجية الثقيلة، عن مدى تحكم امتدادات الدم في زواجات المستقل، ومدى إفساد موضوع الأصل والفصل لكثير من العلاقات والآمال، ومدى حرمانه للمحبة بين كثير من القلوب التي كانت لتكوِّن أسراً سعيدة ناجحة. أخبرته أن بعض المهور عندنا أسطورية والأعراس خرافية، وأنه حين نتخفف من هذه التقاليد المفجعة، بما فيها موضوع المهر، عندها يمكن أن نأخذ أول خطوة على طريق ثورة إصلاحية سياسية مؤثرة. أخبرني أحمد بقراره أنه لن يتدخل في زواج ابنته ولن يلزم زوجة ابنه بشراء صيني غالي الثمن، وأنه سيأخذ خطوة باتجاه التغيير، معترفاً أن الموضوع «حيقلب الدنيا». وأخبرتُه أن لي نوايا التغيير ذاتها، التي ستبدأ من تحطيم النيش الخليجي، بشكله المختلف ونتاجه المشابه، وأن «خالات» الخليج، اللواتي أصنف عمرياً ضمنهن، كما «طنطات» مصر كلهن، يحتجن لبدء الثورة هذه. فكما قوي حراك المطالبة بالحرية الاجتماعية على أيدي النساء وإبان حراكات بازغة مثل حراك حرق هدى شعراوي لليشمك، سيقوى ويتأصل حراك المطالبة بالحرية الحياتية والسياسية على أيدي النساء كذلك، بدءاً بتحطيم الصيني وكسر النيش.
إبان كتابة هذا المقال، بدأت أحداث الثورة النسائية الإيرانية، التي أصبحت الآن ثورة شعب بأكمله، بعد أن تسببت الشرطة الدينية في وفاة الشابة مهسا أميني إثر اعتقالها، نظراً لعدم التزامها بالحجاب الشرعي. تقوم النساء الإيرانيات اليوم بحركات ثورية عظيمة بدءاً من المظاهرات في الشوارع، ومروراً بقص شعورهن بقسوة وبأنفسهن علناً على وسائل التواصل احتجاجاً على هذه العقلية التي جعلت ظهور شعر فتاة يكلفها حياتها. إنها السلطة الثيولوجية، إنها الحكومة الدينية، إنها السياسية المتداخلة بالدين، هي كلها التي قتلت وستبقى تقتل البشر الأبرياء لآخر يوم من بقائها في مجتمعاتنا المسكينة. بانتظار تطورات الحراك في إيران ليكون موضوع المقال الـــقادم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكردي اسكندنافيا:

    (…حين تُعلن الثورة على التقاليد المرهقة التي تثقل كاهل الجميع والتي يرضخ لها الجميع كذلك. لا بد أن نكسر النيش ونحطم الصيني ونحرق الطقم الستيل…) إ هـ‍, ما جنيناه من الغلو والحلول الجذرية العنيفة غير الدمار, التغيير لا بد أن يكون بالتدرج والمرحلية, مفعول الصدمة غالبا ما يأتينا بعدم الاستقرار والتشرذم بدل الإصلاح والتغيير, لنا في التاريخ شواهد كثيرة فهل من متعظ؟

  2. يقول الكردي اسكندنافيا:

    التغيير ينبغي أن يتأسس على الإقناع وفتح حوار اجتماعي يشارك فيه الجميع لا أن تحاول نخب مثقفة أو سياسية معزولة فرض توجهاتها ورؤاها على الأغلبية, النخب التي تخفق في التواصل مع الفئات العريضة من مجتمعاتها وتعيش في بروج واهية لا يمكنها أن تحدث أي تغيير في مجتمعاتها, ستظل توجه الشكاوى يمينا وشمالا وتتنتقد العام والخاص دون إحداث أي أثر حولها.

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    متى ظهر “النيش” في حياة المصريين؟ وما أهمية تلك الكتلة الخشبية القابعة في غرفة طعام البيت؟

    يعرف “النيش” في القاموس المصري بأنه ثاني أضخم قطعة أثاث بالمنزل، والتي تلي خزانة ملابس غرفة النوم الرئيسية.

    لغوياً، لكلمة “نيش” أو “نيتش” Niche أصول فرنسية وتعني المكان اللائق والمناسب للشيء القيم، ولها معنى مماثل في الإنكليزية تقريباً كوضع الشيء أو الشخص المناسب في المكان المناسب، فضلاً عن معنى آخر وهو الشرفة، من هنا يمكن أن نستنتج تسمية تلك القطعة الخشبية بهذا الاسم، حيث تحتفظ فيه ربة المنزل بأثمن القطع الكريستالية والفضية وغيرها في دولاب عرض.

    تاريخياً، بالنظر إلى غرفة السفرة منذ عقود كانت تتألف قبل نحو 60 عاماً من طاولة طعام ومجموعة من المقاعد وقطعة خشبية بسيطة لحفظ أدوات المائدة تسمى بوفيه “Buffet”، ومازالت مستخدمة حتى اليوم في بعض الأحيان تلحق بمرآة مختلفة الأحجام.
    – يتبع –

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    وفي أحيانٍ أخرى كانت تسمى قطعة أقل حجماً من سابقتها بالـ “دلسوار” وهي خزانة مكونة من مجموعة أدراج بسيطة لحفظ نفس الأدوات، والتي لم يكن متعارفاً عرضها في خزانة زجاجية للملاعق والسكاكين والأطباق.

    أما “النيش”، فلم يكن – بتصميمه وهدفه الحاليين – موجوداً قبل 30 عاماً تقريباً، حيث كان مصغر “النيش” مجرد دولاب زجاجي يعرض فيه أصغر وأثمن قطع من الفضة أو الكريستال والمقتنيات القديمة والتراثية بشكل عام، وكان يسمى “دولاب الفضية” ولم تكن له علاقة بغرفة الطعام وإنما كان أكثر ارتباطاً بالصالون خاصة لأنه لم يكن يضم أدوات المطبخ.

    لم يكن “دولاب الفضية” أساسياً لدى الأسر المتوسطة التي لا تملك عادةً مقتنيات أثرية أو ثمينة، وإنما كان الشائع هو الـ “دلسوار” أو “البوفيه”، لكن بعض الأسر استحدثت استخدام “دولاب الفضية” كقطعة ديكور توضع فيها بعض القطع الخزفية البسيطة.
    – يتبع –

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    أما مرحلة السبعينيات فمثلت، مرحلةً تاريخيةً فارقة، حيث أحدثت طفرة في الديكورات والملابس فتراجعت التصميمات الكلاسيكية بشكل كبير وظهر مفهوم الـ “مودرن” في حياة المصريين، فاختفت الزخارف تدريجياً واختفى اهتمام الناس بالمقتنيات الأثرية وغير الأثرية وهو ما انعكس على تصميمات الأثاث المصري.

    ثم جاءت فترة الثمانينات، وهي الفترة التي يراها صناع الموضة والديكور بالأسوأ على الإطلاق، حيث ظهرت بلا ملامح مميزة. وفي هذه المرحلة – على ما يبدو – ظهر “النيش”، وتراجع دور البوفيه ودولاب الفضية، فبدأ البعض يتباهى بمقتنياته من أدوات المائدة كأطباق البورسلين “الصيني” وكؤوس زجاجية وأطقم الملاعق.

    باتت الأسر المصرية تضع “جهاز العروس” في “النيش”، ولأنه لم يعد يضم مقتنيات صغيرة، كان لا بد من زيادة حجمه بحيث يشمل بانوراما للعرض بالجزء الأعلى، وخزانة مغلقة بالجزء الأسفل، وكلما زاد حجم “النيش” وزخارفه كلما دلّ ذلك على ثراء الأسرة.
    – موقع عربي بوست –

    1. يقول متتبع:

      معلومات لم اكن احيط بها عن خصوصية هذا الاثاث *النيش* بالبيوت المصرية، شكرا للشيخ الكروي على هذا التدخل الذي يحمل إضاف لرصيد القارئ، هكذا اقتباس يكون أكثر إفادة وإثراء من تعليقات يتوسطها *إه‍* في سطرين.

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    ” تقوم النساء الإيرانيات اليوم بحركات ثورية عظيمة بدءاً من المظاهرات في الشوارع، ومروراً بقص شعورهن ” إهـ
    المتعارف عليه بأن معظم النساء الإيرانيات متسلطات على أزواجهن !
    فكيف لا يتسلطن على السلطة الدينية ببلادهن !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  7. يقول مشرق:

    لو سمحت ايران بالتاتو اؤ الفسق اؤ الفجور لرقصتم فرحا ولم تكتبوا هذه الملاحظات والأفكار التي تخالف الدين ولقلتم نعم انها دوله حضاريه.

  8. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الكلام عن تكسير النيش في هذا الخطاب هو رمز للغلوى في كل شيء والمبالغة في كل شيء واذا اردت التغير عليك بكسر النيش وهو تغير العادت والتقليد التي قتلت كل ما هو جميل في المجتمع الشرقي واذا تكلمنا عن تكليف الزواج في مصر بسبب العادات والتقليد وتدخل الجميع للانتصار علي العريس وحلبه كانه البقرة الحلوب نراء العجب ونسبة طلاق تدخل الاهل في حيات بنتهم او ابنهم اكثر من 30 % في مصر وانا اتكلم عن مصر فقط لاني مصري و على علم بما يودار في مصر من مشاكل المهم يجب وقف المبالغة في كل ما نفعل ونعمل المبالغة في الدين المبالغة في الزواج المبالغة في الطلاق المبالغة في الحوار و يجب ان نوقف الغيرة من امكنيات الاخر على سبيل المثال ماذا تقول الام لبنتها يجب الحصول على الشهادة مثل بنت عمك وكمان المجموع كمان اكبر من مجمعها وتخشي كلية الطب وبنتها اخرها ثانوية عامة او اعدادية . الله المستعان . وشكرا

  9. يقول عربي:

    الغريب ان المقال يتكلم عن النبش المصري ولايتكلم عن المطبخ الاوروبي الذي يجب ان لا يخلوا منه بيت حتى ولو كانت العروس تعيش لوحدها والعريس يأتي بالشهر مرة لانه يعمل في منطقة ثانية ويفضل ان يقضي المساء في مطعم راقي احتفالًا بهذه المناسبة النادرة ولكي يبقى المطبخ الذي كلف عشرات الالاف من الدولارات نظيفاً او انه يجب تغيير الكنبة كل سنة لانها لم تعد توافق العصر
    مالك شركة ايكيا السويدية اصبح مليارديرًا فقط لانه اخترع اثاث رخيص يمكن رميه من النافذة لان هناك تصميمًا جديدًا افضل منه انتجته معامل الصين لشركة ايكيا
    اول مرة وصلت الى بلد اوروبي بهرتني الاضواء الى درجة انني لعنت البلد الذي ولدت فيه اليوم العن اليوم الذي قررت فيه ترك بلادي ولو انني تركتها مجبرا وليس طواعية ولكن هناك من لاتزال تبهره اضواء الغرب ويتجاهل العيادات النفسية التي تنتشر في كل مدينة ويحتاج المريض الى واسطة لكي ياخذ موعد هناك
    احد السياح الغربيين تعجب من الطبيعة المرحة لسكان البلد الذي زاره رغم انهم فقراء ولايملكون شيئًا بينما هو يملك كل شيء ولكنه تعيس
    عندنا الفرنجي برنجي نفضل تعدد الصاحبات والصاحبين والعشاق والعشيقات لكي نصبح برنجي مثل الفرنجي

اشترك في قائمتنا البريدية