هو السودان كما عرفناه دائما، فمنذ أن بدأت الانتفاضة السودانية في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018 في مدينة الدمازين، مروراً بكل المدن السودانية، بلغ عدد حالات القتل ما يربو على العشرات من مختلف الأعمار، ومئات المُصابين بإصابات خطيرة، ومئات المعتقلين والمعتقلات. وسط تجاهل الحكومة السودانية لمطالب المتظاهرين سلمياً وإصرار أجهزتها على الردّ عليهم بالاستخدام المُفرط للقوّة، وإطلاق الرصاص الحيّ، وكذلك تجاهلها لكل الدعوات الداخلية والاقليمية والعالمية التي تطالب بأن تكفّ يد قواتها عن البطش العنيف، وأن توقف على الفور استخدام الرصاص ضد المتظاهرين، وتلقي القبض على المتورّطين في مثل هذه الانتهاكات وتقدّمهم للمحاكمة، وهذا دليل كافٍ على النيّة المعقودة للتربّص بالمتظاهرين السلميين في محاولة لردعهم عن التظاهر.
نعم حدث ذلك أبان المجزرة التي ارتكبتها الأجهزة الحكومية المسلّحة في سبتمبر/أيلول 2013 التي راح ضحيّتها ما يزيد على 200 شهيد، حيث ختمت لجنة التحقيق الحكومية عملها، بأن دوّنت هذه الجرائم ضد مجهول، وشرعت في تعويض أولياء الدم للتستّر على مرتكبي الجريمة، لذلك فإن الشعب السوداني قد لا يثق في مثل هذه اللجان الحكومية أو في نزاهة القضاء أو الإدّعاء العام.
لقد وجه تجمع المهنيين السودانيين المعارض، عقب البيان الانقلابي، نداء إلى ضباط وجنود الجيش، لمواجهة «الانقلاب العسكري»، بعد إعلان وزير الدفاع عوض بن عوف «اقتلاع النظام ورأسه»، وتشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون البلاد لمدة عامين. وقال تجمع المهنيين السودانيين، في بيانه: «نداء إلى جميع ضباط وضباط صف وجنود قوات شعبنا المسلحة الشرفاء، وإلى الذين انحازوا إلى الشعب وتصدوا ببسالة تاريخية لمحاولات النيل من المعتصمين في القيادة العامة، وقدموا شهداء سطر التاريخ اسماءهم بالذهب». «تابعتم محاولة سرقة ثورة شعبكم الباسلة من قبل سدنة النظام، لإعادة إنتاج حواضن الفساد والقهر والظلم نفسها. نثق في وقوفكم صفاً واحداً مع الشعب من أجل الوطن، ومن أجل أن تعود القوات المسلحة المختطفة إلى وضعها الطبيعي والرائد، قوات الشعب المسلحة».
وكان تجمع المهنيين السودانيين قد أعلن رفضه لما وصفه بـ»الانقلاب» العسكري، داعياً إلى تواصل الاحتجاجات حتى تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية. وقال تجمع المهنيين السودانيين إن «سلطات النظام نفذت انقلاباً عسكرياً تعيد به إنتاج الوجوه والمؤسسات ذاتها التي ثار شعبنا العظيم عليها». «يسعى من دمروا البلاد وقتلوا شعبها أن يسرقوا كل قطرة دم وعرق سكبها الشعب السوداني العظيم في ثورته التي زلزلت عرش الطغيان». نعم المتظاهرون السودانيون يرفضون «الانقلاب العسكري» ويطالبون بتسليم السلطة للمدنيين وتابع البيان: «إننا في قوى إعلان الحرية والتغيير، نرفض ما ورد في بيان انقلابيي النظام هذا، وندعو شعبنا العظيم للمحافظة على اعتصامه الباسل أمام مباني القيادة العامة للقوات المسلحة وفي بقية الأقاليم وللبقاء في الشوارع في كل مدن السودان، متمسكين بالميادين والطرقات التي حررناها عنوة واقتداراً، حتى تسليم السلطة لحكومة انتقالية مدنية، تعبر عن قوى الثورة. هذا هو القول الفصل وموعدنا الشوارع التي لا تخون». بالفعل تمت الاستجابة وتنحى عوض بن عوف، لكنها ليست النهاية.
سوء إدارة الاقتصاد جزء من الأسباب الحقيقية لخروج السودانيين إلى الشارع والمطالبة برحيل النظام
وفقاً لموقع «غلوبال فاير باور» المتخصص بتصنيف الجيوش والأسلحة، يحتل الجيش السوداني المرتبة رقم 69 بين أقوى جيوش العالم، والمرتبة 8 على مستوى إفريقيا، وتتكون قواته الجوية من 191 طائرة حربية. سبق أن جاءت دعوة من المنظمات السودانية، للمنظمات التابعة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان واللجنة الدولية لحقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الإقليمية والعالمية، وكل مُحبّي السلام والحرية والديمقراطية، لممارسة أعلى الضغوط على الحركة الانقلابية السودانية للقبول والسماح للجان تحقيق مستقلة عالمية، وبالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان وروابط المحامين والقضاة ومنظمات المجتمع المدني السودانية الديمقراطية والمستقلة، لإجراء تحقيق نزيه وشفّاف حول المجازر والإنتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة الحكومية المسلّحة ضد المواطنين السلميين، وهم يمارسون حقّهم الدستوري في التظاهر، وإعلان نتائج التحقيق وتقديم مَن تثبت إدانتهم إلى المحاكمة العلنية والشفافة. قد تكون هناك محاولات حثيثة من إعلام ومسؤولي الحكومة السودانية، وعدد من وسائط الإعلام العالمي والاقليمي ودوائر صنع القرار في بعض الدول، لإرجاع أسباب أحداث ديسمبر 2018 إلى السياسات الاقتصادية التي نفّذتها الحكومة في الربع الأخير من العام الماضي، والتي أدّت إلى ارتفاع سعر وندرة الخبز والوقود، ورغم أن مظاهر سوء إدارة الاقتصاد قد ساهمت بالفعل في ثورة السودانيين وتسببّت في إشعال فتيلها، إلا أن ذلك لا يمثل سوى جزء من الأسباب الحقيقية لخروج السودانيين إلى الشارع والمطالبة برحيل النظام. نعم تضاعفت أسعار الخبز في السودان، بعد أن رفعت المطاحن سعر دقيق القمح، بسبب قرار الحكومة وقف استيراد القمح، وترك ذلك للقطاع الخاص. وبسبب قرار الحكومة عدم استيراد القمح، رفعت المطاحن سعر كيس الدقيق زنة 50 كيلوغرام من 167 إلى 450 جنيهاً سودانياً (65 دولاراً)، وفي حين ارتفع سعر الطحين بنسبة 270 في المئة فإن سعر الخبز تضاعف. ومن المعروف أن السودان قد شهد تظاهرات مُشابهة عام 2016 بعد أن رفعت الحكومة الدعم عن الوقود، وقمعت الحكومة التظاهرات، كما فعلت عام 2013 عندما تصدّت لاحتجاجات ضد رفع الدعم عن المشتقات النفطية.
قد يكون الاقتصاد السوداني يعاني منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، ومعه 75 في المئة من إنتاج النفط الذي كان حجمه 470 ألف برميل يومياً، إضافة إلى سنوات من العقوبات الاقتصادية الأمريكية بصورة فعلية، وعلى الرغم من أن واشنطن رفعت في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي العقوبات التي فرضتها عام 1997، إلا أن مسؤولين سودانيين يؤكّدون أن البنوك العالمية لديها تحفّظات حيال التعامل مع نظيراتها السودانية. وهنا قد لا نستطيع يقيناً أن نقول للذين يريدون اختزال ثورة الملايين السودانية في الخبز، لكن هناك دوافع كثيرة، ويبقى أنه مَن يُعطِ الخبز يُعطِ الشرعية.. فإلى أين يسير السودان مع عسكره قبل ثواره؟
*كاتبة مصرية