مظاهرة طلابية في الستينيات لأجل حرية التعبير في الولايات المتحدة
صارت «قيم الأسرة» في الآونة الأخيرة تكثيفاً لمعظم السلطات الرقابية في العالم العربي، ففيها على ما يبدو تتقاطع كل المحظورات الدينية والأخلاقية والسياسية. وبعد عقود من شكوى المثقفين العرب، بسبب الرقابة السياسة على أعمالهم، يبدو أن المشكلة لم يعد يمكن اختزالها اليوم بالمحظورات التي تفرضها السلطات الأمنية بشكل مباشر حول النظام السياسي القائم، بقدر ما تكمن في ما يمكن تسميته «مجتمع الأغلبية» ومتطلباته. وهو بناء سياسي- أيديولوجي، مدعوم بالسلطة السياسية والأنظمة القانونية وأجهزة الدولة المختلفة، أكثر من كونه «ثقافة موروثة»، أو تعبيراً عن مجتمع «محافظ»، أو «شعب متديّن بطبعه».
وحسب دراسات عديدة، تتناول الموضوع من منظور علاقات القوة والهيمنة، فإن «مجتمع الأغلبية» يقوم دائماً على سلسلة متشابكة ومعقدة من الإقصاءات: كي تنشأ أغلبية ما، لا بد من تهميش فئات عديدة، وتحويلها إلى أقليات، غالباً ما يكون أسلوب حياتها مداناً، وكذلك طرق تعبيرها وخياراتها. هنا يصبح تفكيك «الأغلبية» مقدمة لمواجهة الهيمنة الأيديولوجية، وتغيير علاقات القوة في المجتمع والمؤسسات القائمة.
وبغض النظر عن مدى تبني كثير من نقّاد «قيم الأسرة» لهذا المنظور، فإن الدارج بينهم هو السخرية من تلك القيم، واعتبارها نوعاً من النفاق والتدليس. فالمجتمعات العربية، رغم كل ادعاءاتها عن الفضيلة، مليئة بكل أشكال الانحرافات عما تعتبره صواباً، حتى داخل الأسر الأكثر استقراراً، وبالتالي فلا معنى لفرض الرقابة على التعبير، وعلى تصوير الحالات والميول الإنسانية المختلفة في الأعمال الفنية، بحجة أخلاق وقيم ليست موجودة، إلا أن هذا النقد قد يغفل الطرح الأساسي لأنصار «قيم الأسرة»، فهؤلاء لا ينكرون حضور مختلف أنواع المفاسد في مجتمعهم، ولكنهم يرون أن الفن، والخطاب الموجه للعموم، يجب أن لا يشرعنها أو يطبّع مع وجودها، بل عليه أن يلعب دوراً إيجابياً في ترسيخ القيم المقبولة، ومواجهة ما يعتبر شذوذاً.
قد يبدو هذا التصوّر لوظيفة الفن، للوهلة الأولى، متجاوزاً تماماً، إلا أن نقّاد «قيم الأسرة» أنفسهم، خصوصاً الأكثر ليبرالية منهم، يحملون نظيراً له، إذ من الصعب مثلاً أن يقبلوا بأعمال فنية يرون أنها تطبّع مع التحرّش أو العنصرية، أو حتى لا تدينهما بشكل واضح. وبالتالي يبقى من وظيفة الفن والخطاب العام، بالنسبة لهم، أن يؤسس لقيم وينفي أخرى. ما يعني أن المسألة تبدو أقرب لصراع بين منظومتين قيميتين تسعيان لفرض هيمنتهما، أكثر من كونها محاولة مجرّدة للدفاع عن حرية التعبير. وهنا تبرز عدة أسئلة: هل قدر الفنون والأعمال الثقافية، خاصة الموجهة للجمهور العام، أن تبقى أسيرة هذا النمط من صراعات الهيمنة؟ وهل هنالك معنى أصلاً لنقد مبدأ الرقابة على الأعمال الفنية؟ وإذا كان الجواب، النفي، فعلى أي أساس يتم تفضيل رقابة على أخرى؟
تأسيس «النظافة»
من الصعب فصل تاريخ نشأة وتطور الفنون الجماهيرية، أي الأعمال الثقافية المعدة للنشر، وإعادة الاستنساخ الواسع بين أكبر قدر ممكن من البشر، عن نشأة الدول والسياسة الحديثة نفسها، فهي تفترض أساساً وجود «جماهير» متلقية، أي جماعة سياسية، ذات لغة أو لغات مشتركة، تعيش في إقليم محدد، تحت سلطة معترف بها، ولذلك دائماً ما اختلطت تلك الفنون بمختلف أنواع الدعاية السياسية، المباشرة وغير المباشرة. كما أن مؤسسات إنتاجها تعتبر من أهم الأجهزة الأيديولوجية لأي دولة. وفق هذا الشرط من المتوقع للغاية أن يصبح ذلك النوع من المنتجات الثقافية، التي فقدت «هالتها»، ولم تعد مرتبطة بمكان وزمان أدائها الأولين، مثاراً لنزاع سياسي شديد، وأكثر المواد تعرّضاً للرقابة.
في هذا المعنى فإن وجود فنون «نظيفة» لا يرتبط فقط بموجات الأدب والسينما النظيفة، التي شهدها العالم العربي في نهايات القرن الماضي، فمعظم أعمال الثقافة الجماهيرية «نظيفة» بشكل أو بآخر، أي أن هنالك جهات تحاول تحديد ما لا يمكن قبوله في عمل فني جماهيري. والصراع على صناعة منظومة «النظافة» هذه في قلب علاقات القوة في أي مجتمع، إلا أن هنالك اختلافاً بين منظورين لـ«النظافة» في عصرنا: الأول ما يزال كلاسيكياً، ومرتبطاً بالكيان الأساسي للدولة نفسها، وطريقتها في فرض الهيمنة الأيديولوجية، لبناء «شعبها» الخاص. ويمكن اعتبار «قيم الأسرة» والقوانين ضد «ازدراء الأديان» و»إهانة الرموز الوطنية» نموذجاً عربياً واضحاً لذلك؛ أما الثاني فهو أشد تعقيداً وإشكالية، وأكثر «حداثة»: لم يعد الإنتاج الثقافي معنياً بصياغة «شعب» للدولة، بقدر ما هو مهتم بضمان راحة الأفراد/المستهلكين.. هؤلاء يجب أن يستهلكوا مواد ثقافية لا تشعرهم بالتهديد، أو تستثير «حساسياتهم». وأن تبقى قادرة، في الوقت نفسه، على لفت انتباههم. ولذلك تصبح «النظافة» هنا مركّباً إشكالياً، فهي من جهة يجب أن تبدي كفاءتها في ضمان شعور الأفراد الهش بالأمان، وأن تتمتع، من جهة أخرى، بالقدرة على إثارة شيء من اللغط، كي يظل المنتج الثقافي، أو بالأصح «المحتوى»، محفّزاً على المتابعة والاستهلاك.
رغم كل ارتباطاته بمعادلات الهيمنة السياسية، من الظالم القول إن المنتج الثقافي الجماهيري كان دوماً مجرد بروباغاندا سلطوية. عمل كثير من الفنانين والمثقفين سابقاً على «تلغيم» منتجاتهم، بنقد أو تهكم ذكي من معادلات السلطة القائمة وصراعاتها، مسقطين بذلك كثيراً من الخطوط الحمر، دون أن يقوموا بمحاولة تأسيس نمط من «النظافة» الجديدة.
رغم هذا يبقى الأفراد المتلقون للإنتاج الثقافي متراصين بوصفهم حشداً متشابهاً. إلا أنه حشد شديد السلبية، فهو متشابه من جهة بقائه متمسكاً بمشاعر متماثلة عن «الأذى»، الذي يمكن أن يتعرّض له، وبإبداء حاجته للحماية، وسلبي من جهة أنه غير قادر على أن يكون فاعلاً سياسياً، ليطرح خطاباً ومطالب متماسكة في الحيز العام، تساعده على الخروج من دور الضحية المحتمل. يغضب الحشد ويشعر بالاستياء في مناسبات متزامنة. وكأن القدرة على تحفيزه تتحقق على أساس خوارزميات يمكن حسابها وتوقعها بدقة لا بأس بها.
يبدو إذن أنه لا خلاص من «قيم الأسرة» سواء كانت هذه «الأسرة» شعباً خلوقاً، أم حشداً حساساً، ولكن هل يمكن في هذا الشرط لوم الشعوب، التي تريد الحفاظ على أخلاقها؟
ما يخسره «الشعب»
يمكن لأنصار «قيم الأسرة» أن يطرحوا في هذا السياق حجة متماسكة: الترويج لقيم مناقضة لثقافة مجتمع الأغلبية، ستحرم البشر مما تبقى لهم من مشتركات، تتيح لهم مرجعية، يمكنهم على أساسها تأسيس علاقاتهم، وضمان تماسكهم الاجتماعي، وفصل الصحيح عن الخاطئ في حياتهم وسلوكهم. يهدد النيل من الرموز المجتمعية والدينية والوطنية كل إطار أخلاقي، قادر على جعل البشر يفهمون عالمهم، ويسبغون المعنى والحميمية عليه. لا تَعِدُ حالة الحشد السلبي، التي تبشّر بها الفردانية الحساسة، بالكثير: أفراد يخافون من الآخر، يعانون من التهديد الوجودي لحياة الأقليات، ترهقهم المسؤولية الفردية في عالم لا أسس صلبة له. صحيحٌ أن الفرد يمكنه أن يعبّر عن ذاته وميوله بحرية أكبر. ويعيش أهواءه دون إدانة من قيم متعالية، ولكن هل كل هذه «الحرية»، المنبتة الصلة بكل قيمة، تهب الراحة أو الإشباع، أو حتى الأمان، في عالم تزداد صعوبته وتعقيده يوماً بعد آخر؟ في هذا المعنى فقد لا يكون المدافعون عن «قيم الأسرة» مجرد منافقين، بل أشخاصاً حريصين على ضمان الحد الأدنى من الأمان المجتمعي، رغم كل الهرمية والأبوية التي يفترضها ذلك الأمان. لكن هل فردانية الحشد السلبي خالية من الهرمية؟ قد تزداد التراتبيات وأشكال الاستغلال بشكل حتمي في مجتمعات لا توجد فيها روابط وشبكات إيجابية، قادرة على حماية الفرد ورعايته، وسط كل ظروف الحياة القاسية، ومتفاوتة القوة. هل هذا يعني أن الحل فعلاً في الخضوع للهرميات الساحقة للدولة والدين والمجتمع؟
خيارٌ ثالث
رغم كل ارتباطاته بمعادلات الهيمنة السياسية، من الظالم القول إن المنتج الثقافي الجماهيري كان دوماً مجرد بروباغاندا سلطوية. عمل كثير من الفنانين والمثقفين سابقاً على «تلغيم» منتجاتهم، بنقد أو تهكم ذكي من معادلات السلطة القائمة وصراعاتها، مسقطين بذلك كثيراً من الخطوط الحمر، دون أن يقوموا بمحاولة تأسيس نمط من «النظافة» الجديدة. نظرة على الأعمال الثقافية، التي انتشرت في حقبة الستينيات والسبعينيات مثلاً، تبيّن حالة من النقد والتفكيك لكل المنظومات القائمة، وغوصاً عميقاً في تناقضات كل مقولة اجتماعية أو أخلاقية تدّعي التماسك. قد لا يكون هذا مؤسساً لنمط من الاستقرار الجديد، ولكنه قادر على منع تأطير البشر في قوالب جامدة، سواء كانت مجتمع أغلبية سلطويا قاهرا لأي مختلف؛ أم حشداً مفردناً يخشى كل جدل أو اختلاف فعلي. لذلك ربما يكون الدفاع غير المشروط عن حرية التعبير، ورفض ثقافة الإلغاء والاستياء بشكل جذري، المخرج من كل أنماط «النظافة»، التي تحاصر عالمنا المعاصر. وعندها قد يمكن للبشر اكتشاف وتأسيس المشتركات الفعلية في ما بينهم، على أساس جدل مفتوح في الحيز العام، يعطي القدرة على التضامن والاختلاف الفعلي. وليس التقوقع في أوهام «الأسرة» الجامدة والخاضعة، سواء كانت شديدة الجمعية والإقصائية أو بالغة الحساسية والفردانية.
كاتب سوري
مفهوم الأسرة كما أقره ربنا تعالي يعلو علي أي تنظير و غير ذلك فهو ثرثرة لا تسمن و لا تغني من جوع