في معظم المسلسلات «التاريخية» العربية ثمة فانتازيا مجهولة الهوية، تقدم على أنها التاريخ، وأنا لا أتحدث هنا عن الوقائع والأحداث الكبرى التي تقدم عادة للمشاهد، كما تقدم لطلاب المدارس لحفظها، والامتحان بها بطريقة (عدّد ما حصل في تلك المرحلة؟)، وإنما عن البيئة وتفاصيل الحياة في تلك القصص التاريخية، التفاصيل التي تشمل ثياب الناس وطعامهم، وطرق اجتماعهم واحتفالهم وأسفارهم، وآدابهم وأشعارهم وفنونهم وأحاديثهم في منتدياتهم، وصورة عمرانهم وأسواقهم وصناعاتهم؛ تفاصيل تسمى في مجموعها البيئة التاريخية، وهي تفاصيل لا تستطيعها كتب التاريخ التي تسرد الأحداث والوقائع إحاطة، ولا بد لها من الأدب رديفا، تقرأ كثيرا بين يدي التحضير لتلك المسلسلات عن مخرج يطالع ويقرأ في المرحلة التاريخية، قبل تصوير مسلسله، ثم تجد أنه قد أخرج سيف صلاح الدين أو ثيابه من الخزانة نفسها التي أخرج منها ثياب عمر بن الخطاب والزير سالم والحجاج وابن زيدون! فتعجب ما الذي قرأه؟
يزداد الأمر سوءا في مسلسلات البيئة الدمشقية، يكفي أن تخبر عربيا أنك من دمشق، ليكرر على مسامعك تلك الصورة التي رسمتها له المسلسلات عن مدينتك، حيث الحلاق والشيخ المغفل سادة الحارة، والنساء اللواتي لا هم لهن إلا الثرثرة تحت قيادة الداية، والشوارب محور حديث الناس أو (بوجقتهم) مجتمع يختصره لك المخرجون والكتاب بعبارة «تؤبشني ابن عمي».
في رواياته يقدم فواز حداد قطعا من التاريخ السوري المعاصر بشكل مختلف، لا تدور الرواية حول الأحداث والتفاصيل الكبرى وإن كانت تتربع على جنباتها، لكنها تعنى دائما بالتفاصيل، في ثناياها كل ما نفتقده في المسلسلات العربية التاريخية، من الصورة الحقيقية لحياة الناس وحكاياتهم وطرق معاشهم، تحملك الرواية عبر تلك التفاصيل إلى الأزقة والبيوت التي يقص حكاياتها، تتلمس جدرانها وشوارعها، وتصغي بإمعان إلى تفاصيل الحوار فيها، تقرأ فيها شخصيات الناس وطرق تفكيرهم، تعاين أزياءهم وقد تشتم ريحة عرقهم أو عطورهم، تجري بك أحداث القصص بسلاسة تنسيك أن معظمها روايات طويلة من القطع الكبير.
وتقدم تفاصـــيل تحــدث كثيرا عن ثقافة الكاتب الموسوعــــية، وقراءاته الكثــــيرة، ولعلها تحدث كذلك عمــــا عرف عنه أيضا بأنه مستمــــع جيد يصغي كثيرا، ويتحــــدث قلـــيلا، وهي خصلة ضنينة عادة في أوساط المثقفين، وقد أسهمت غزارة المعلومات التفصيلية في رواياته بأن تكون مرجعــــا لأبحاث تاريخية، كما هو الحال في كتاب «زقاقيات دمشقية» للكاتبة سعاد جروس، الذي أشارت فيه المؤلفة إلى الاعتماد على رواية «تياترو» لفواز حداد، مرجعا لبعض التفاصيل عن دمشق منتصف القرن الماضي.
في رواياته يقدم فواز حداد قطعا من التاريخ السوري المعاصر بشكل مختلف، لا تدور الرواية حول الأحداث والتفاصيل الكبرى وإن كانت تتربع على جنباتها، لكنها تعنى دائما بالتفاصيل
في رواياته الثلاث الأخيرة «السوريون الأعداء»، «الشاعر وجامع الهوامش»، «تفسير اللاشيء» يعرّج فواز حداد على واقع المجتمع السوري، خلال الثورة السورية يبدأ في «السوريون الأعداء» بسرد قصة تواكب أربعين عاما من حكم عائلة الأسد، يستفيض فيها بتحليل شخصية «المهندس» أحد رجالات القصر المقربين، ومسرح البطش الذي يجمع الجريمة والحماقة في سلوك النظام معا، وهي رواية حجزت شهرتها مساحة كبيرة في أذهان السوريين، لما تمتعت به من جرأة في تحليل طبيعة النظام القمعية، وما يقابلها من الخوف السائد في المجتمع، وما زلت أعتقد أن رواية «الشاعر» و«جامع الهوامش» وهي الجزء الثاني من «السوريون الأعداء» هي أكثر الأعمال الأدبية دقة في وصف طبيعة العلاقة بين نظام الأسد والطائفية، فبينما تحتدم جدلية اتهام النظام بأنه طائفي علوي، أو علماني لا دينيا، يقدم فواز حداد توصيفا دقيقا لنظام لا يعبأ إلا بالهيمنة والسيطرة، لا تعنيه العلمانية إلا بما يخص استقراره، كما أن الطائفية جزء من هويته، التي قد يستخدمها حينا أو يقصيها أحيانا، بحسب الحاجة إلى استقرار النظام نفسه، تقص الرواية حكاية مشكلة داخل الطائفة العلوية يعمل النظام على إدارتها، بدلا من حلها، فالمطلوب ليس استخدام الطائفية ولا إقصاؤها وإنما توظيفها بما يعود على مصلحة النظام استخداما أو إقصاء.
وفي «تفسير اللاشيء» الرواية التي صدرت مطلع عام 2020 يدخل فواز حداد إلى حوارات المثقفين وجدالاتهم، وهو مسرح محبب له في كثير من رواياته، حيث يستعرض فيها أفكارهم، ويمرّ عليها بقليل من التأييد وكثير من التعرية، وهو في ذلك يطل على هوية مجتمع كامل أتعبته الحرب التي لا ينسى تفاصيلها الدقيقة، ويضع بصمته على موضوعات جدلية كالمثلية والفن التجريدي ومصداقية التاريخ، لكن أبرز ما تعرضه الرواية هو الحالة النفسية المليئة بالأمراض قديمها وحديثها للمجتمع في ظـــــل الحـــرب، يمرّ فيها على شخصــــيات الرواية بتحليل عمــــيق للمواقف والسلوك، لاسيما شخصية الفنان الانتهازي، أو الملتحي العلماني، أو المفكر السياسي، أو مدير الجامعة، فضلا عن مقهى المثقفين وجدالاته، ويضيف إلى جميعها رشة لاذعة ساخرة، من مفردات تحمل الكثير من حس الصحافة داخل الرواية، كل ذلك يجري في ظل قصص الحب وعذاباته، التي ينعتها الكاتب في إحدى رواياته بـ»البطر» في زمن الحرب، ولكنها دائما الأساس الأصغر لسلوك جمعي أكبر في المجتمع.
صدرت الرواية الأخيرة خلافا لسابقاتها بقطع صغير، قد يكون أكثر طلبا تجاريا.. لكنني كنت أتمنى أن تكون الرواية كبيرة كسابقاتها، بما يتسع لكثير من الجدليات التي طفت على سطح المجتمع في ظل الحرب.
٭ كاتب صحافي من سوريا
لم أقرأ أيا من روايات فواز حداد، لكنني قرأت ماكُتب عنها من قراءات، فهو بالفعل يعدّ كاتبا مؤرخا للكثير من التاريخ الدمشقي الذي غيبه التاريخ الرسمي، وقراءة الزيبق لأعمال الروائي مجتمعة لفتت الأنظار بدقة لنوع كتابات هذا المبدع
شكرا للزيبق والحداد.
فوزا حداد و خيري الذهبي وزكريا تامر ونزار قباني أساطير دمشقية …أدبية سيأتي يوم على دمشق و تتسمى شوارعها الرئيسية باسماء هؤلاء العمالقة ….