تداعيات خاصّة
الصورة الفوتوغرافية كجنس إبداعي يعبّر عن واقع مرئي وملموس لا يبتعد عن بنية المشاهدات، وإنما تتوغل في صلب كينونتها روح منفتحة. ترصد ما يُرى بالعين المجردة وتتسلل نحو المضمر والمخفي للتعبير عن طبيعة ما يُرى ويُشاهد، فعدم الاكتفاء بالمرئي المباشر دليل على عمق وظيفة الصورة كبقية الأجناس. كما أنها بما تحتويه من صياغات متداخلة مع الرؤى تهدف إلى عكس المكملات المرافقة للكادر، وبما يتسع له سطح الصورة (اللقطة) التي تتسع أكثر لمساحات الوجود، والتعامل معها على أنها لا تعني الثبات في التعبير، وإنما رصد الحركة الدائمة في الأشياء.
ولعل حذاقة الفنان وصفاء رؤيته ما يضع الصورة موضع الاكتمال الشعري، أي رهافة التعبير. فرصد المشاهد يعتمد على حساسية عين المصور، تُضاف إليها حساسية عين الكاميرا. يرافق هذا الفعل ما لا يراه الفنان وهو يفحص المشهد، حتى لحظة إكمال اللقطة. إذ تظهر له وللمتلقي البصري ثمة حواش وهوامش تتآلف مع المشهد خارج إرادة الفنان. بمعنى فيها نوع من خواص سردية لاستكمال موجودات المشهد.
لا شك ونحن بصدد قراءة منتج الفنان عقيل غانم، علينا أن نشخص خواص صورته. وما نراه بالإجمال أن الفنان يمتلك تاريخاً من العلاقة مع الكاميرا من جهة، كذلك خلقت هذه العلاقة نوعاً من الانسجام الأبستيمولوجي. بمعنى ثمة تخاطر وتوافق هارموني بينهما دفع إلى الحرص الشديد في اختيار اللقطة وفق منظور الأهم والمؤثر والمعبّر. لذا نجد في صوره انسجاما عكسته محتويات الصور من جهة، وانسجام الصورة الواحدة مع مكونات كادرها. كذلك خلق هذا الحرص تعدداً دالاً على سعة أُفق الفنان، كذلك تعميق رؤيته لما يحيطه. وهذا يؤكد قول أرنست همنغواي؛ إن الحقيقي هو نتاج التجربة والمعرفة. فالموهبة الفنية واضحة من خلال الطرح، والمعرفة تندرج ضمن حقل المساهمات الكثيرة في المعارض، سواء في الداخل أو الخارج. وهذا بطبيعة الحال خلق عنده حرصاً على الاهتمام بدقة الاختيار، كذلك الحرص في التعامل مع ما تستقر ذائقته الفنية على المشهد الذي فضله دون عشرات المشاهد. ونرى أن هذا دفعه ضمن العقل المنتج إلى التمعن في فحص ما يرى لتحديد جوانب اللقطة. وهذا المحور فني خالص، دال على التواؤم والاتحاد بين ما هو موضوعي وما هو فني.
ولعل الفحص الدقيق للصورة التي ينتجها الفنان، تؤكد لنا حساسيته الفنية، وقدرته على الفرز وخلق التواؤم بين الأجزاء، وفق مكونات ما عرف بالضوء والظِل في التصوير بالأسود والأبيض، ثم الضوء والعتمة في الملون. وخلاصة هذه المكونات خلق لتاريخه ومدونته الفنية جمالاً متميزاً واضح المعالم. فهو يكتب قصيدة صورية بحق. ولعل ما يرصده الفنان يعتمد حساسيته الفنية، مدعومة بهدفه الذي هو جزء من الالتزام على كل الأصعدة، لأنه كفنان لا يلزم بمقولة الفن للفن، ولا الفن للشعب، وإنما تسيره مقولات مختلفة منبثقة من كل هذه المقولات. بمعنى يعمل على تحقيق هويته الفنية عبر الإشارات المتعددة ذات البصمة المركبة من بنيات فكرية ـ جمالية. لذا كانت سياحته في التنوع جزءاً من هذا الهم الفني. فلا بناء موضوعي دون مجال فني حيوي. فالفنان أكثر حرصاً على تشكيل خصائص صورته. والتنوع الجزء الأكبر من تجربته. إذ يبدو السير في الزمان والمكان أهم الدوافع؛ فالحقيقي مصنوع من التجربة والمعرفة على حد قول همنغواي.
إن التنوع مستند إلى التجربة والخيال، فالمسطحات المائية تتجاوب معرفياً مع المسطحات الرملية (الصحراوية). فمسيل الماء يتجاوب مع مسيل صفرة الرمال وميلها اللوني في التغيّر. المهم هنا التوفر على الاستثنائي الذي تحسبه صورة الفنان. في الوقت نفسه يتحاشى التكرار، لأنه يُلغي التفرد، خاصة في رصد الطبيعة أو رصد وتصوير المواقع الآثارية، وصور العمارة والبناء، وحركة الأسواق والشوارع والأزقة وهيجان الشوارع أثناء الاحتجاجات، والتعرض إلى حركة الأجزاء وقدرته على التعبير عن كامل الجسد خاصة الوضع النفسي للإنسان كالكفوف والإشارات الأُخرى للجسد.
ما يمكن التوصل إليه بخصوص التداعيات الخاصة؛ إن الفنان يؤكد خاصية التنوع في الرؤى، المتأتية من البنية المعرفية التي تعمل على اتساع الرؤية للأشياء، التي يمكن تناولها بالتفصيل. إن إجادة الفنان تُحسب من طبيعة المتنوع وثراء مشاهداته النابع من لقطاته الفنية الخاضعة، كما نرى إلى ذائقته الفنية أولاً، ثم قدرته التخيلية ثانياً، كذلك التزامه الفكري(الحياتي) وبهذا نرى في اختياراته نوعاً من الاهتمام المركز في إنتاج اللقطة، وفق صورة معبرة عن ظاهرة مدروسة.
السكون والحركة
كما سنرى ونحن نفحص صور الفنان عقيل غانم، التي هي المركز في بحوث وقراءات متن الكتاب، التأكيد على ظاهرة مهمة في الصورة وهي (السكون والحركة) وهما أيقونتان تعملان على استمالة المشاهد والفاحص النقدي البصري فالسكون كامن في طبيعة الصور ذات الشكل البصري الثابت، بينما الحركة، تكمن في داخلها، لأنهما ـ أي السكون والحركة ـ يقدمان ظاهرتين الأولى واضحة والثانية مضمرة، الأُولى تكمن في موضوعية الكادر في الصورة، والثانية في تأويل مكوناتها ذات المجموعة من العلامات؛ اعتماداً على إشاراتها العفوية والمرافقة لمشاهدات عين الكاميرا. فمن البديهي أن الفاحص يحتمل سكون محتويات الصورة أو كادرها، وتحديد أُطر هذه المحتويات باعتبارها تعكس صورة من الواقع، وهو حق يفرضه التلقي. بينما حقيقة الأمر إن ما تنطوي عليه الأجزاء في الصورة، التي قد لا تجلب نظر الرائي غير المتخصص في الفحص النقدي. فالجزء من الحركة التي تُحيل الفاحص اليقظ إلى تحويل الجزء من الحركات الصوامت إلى كل مجموعة من الظواهر الجزئية، وبالتالي إلى ظاهرة كلية. بمعنى يكون السكون أكثر قدرة على توسيع الأُفق. وهذا لا تحيله سوى الرؤية القارّة للفنان وحساسية عين الكاميرا التي توسع مساحة الكادر نحو سردية فكرية وجمالية. فالأُفق الواسع لعقل الفنان هو من يدفع إلى التعدد والتنوع والإحالة والتأويل. فالصورة تحتمل التأويل باعتبارها جزءاً من الظاهرة الاجتماعية، وغير مستقلة بذاتها فقط. إن التنوع الذي أشرنا إليه يُحقق الحركة للسكون المفترض في الصورة، لأن تفاصيل الصورة ترتبط بالذاكرة البصرية. فالشيء المرئي تواً يرتبط بمشهد آخر مرئي في زمن آخر. وهذا مرهون بمخيلة الرائي وقدرته على تخيل الأشياء وربطها ببعض. هذا الارتباط بين الماثل والمستعاد يضفي على الصورة حركة، أي الأشياء الصامتة والساكنة تبدأ بالتحرك واستعادة الحيوية من خلال المدى الذي تحتمله مخيلة الرائي. إذن نحن أمام ظاهرة متحركة تفرضها علينا الصورة، التي تجعلها تنتمي بجدارة إلى الأجناس الإبداعية الأُخرى. إن الصورة بهذا تنتمي إلى تاريخ، فاللقطة التي تتخذ من كادرها مشهدا لزقاق أو محلة شعبية، يعني إنها تقدم تاريخا مدونا بصرياً لهذا المكان. ولعل الفنان كفاح الأمين، بما قدمه من ثراء في مجلداته التي عالجت علاقة الصورة الفوتوغرافية بالأنثروبولوجيا وتاريخ العراق السياسي، بما الانتفاضات وصور الشخصيات التي شغلت الزمان والمكان، لذا نجد في مصورات الفنان عقيل شيء من هذا الدأب لتحويل كل ما هو ساكن إلى حركة تتفوه بالحقائق التي عليها الظواهر. فهو بهذا مؤرخ من نوع آخر، يُسهم في إعانة الذاكرة الفردية والجمعية على التذكر والاستعادة. وقد شهدت الصورة مثل هذا الفعل ابتداء من الرواد وجهدهم في تدوين الوقائع والمناسبات وكل ما يرتبط بالحياة العراقية.
ما تركه الأجداد للأحفاد
ينبعث إحساس الحرص على المواقع الأثرية من التشكل الوطني والمعرفي والوعي العام الذي اندرج عليه المصورون، فراحوا يتسقطون ما آلت إليه تلك المواقع، وما أصابها من خراب جراء العبث العشوائي المنظم، الذي أنتج ظاهرة تهريب القطع الأثرية إلى أسواق العالم والبورصات، لكنهم أيضاً حرصوا على أن يقدموا صورة أنيقة تدعو للفخر والاعتزاز بكل هذه الصروح التي تركها الأجداد للأحفاد. فما نعنيه بالعنوان هو المشهد الأثري ومدى الحرص على كينونة هذه المواقع. هذا ما يخص الهم الذي انتاب الفنان وهو يراقب مثل هذه الظواهر، لكنه لم يغفل جمالية ما تنطوي عليه المواقع عبر لقطات فنية. وهو جزء كبير من رؤية الفنان للمعرفة والأثر الذي تركه الأجداد لنا. والفنان عقيل كان له مثل هذا الاهتمام، لاسيما كونه تربى ونشأ بالقرب من المواقع تلك، ونقصد المواقع التي تُشير إلى أعرق حضارة هي الحضارة السومرية، ابتداء من طفولته وما كانت تحظى فيه تلك المواقع من زيارات متناوبة، تركت أثرها في لا وعيه المضمر. لذا كان من المسوغ الانتباه إلى هذا، فصوّر ما هو قريب منه في مواقع أُور. المدينة التي شهدت حضارة عريقة امتدت بدءاً من عمق التاريخ القديم، حيث شهدت تطوراً في كل معالم الوجود والحياة اليومية، من قوانين ونصب وملاحم دونت على لقى الطين، خصت الشعر ونظم الحياة، الذي تجسد في عمارة المدن ورموزها الدينية كزقورة أُور، التي حاول الفنان الاعتناء الواضح والمميز في اختيار اللقطات التي جسدت جمال تلك العمارة وهندستها، إذ تلاعب بشكل منظم جمالياً في إضفاء توازن بين الضوء والظِل اللذين عكسا ما لتلك العمارة من فن معماري من جهة، وما توحي به من القدسية من جهة أُخرى. فاللقطة تميزت بما بذله الفنان من إحداث توازن بين الوجود الجمالي للمبنى، وما يحيطه من أرض، وما يعلوه من سماء. كان الصفاء أهم تلك الخصائص فيها. فقد سيطر على جهد عين الكاميرا وحساسيتها، ورهافة عينيه في رصد كل ما يلون ويجسد الجمالية. ولعل استواء الجدران وطبقات السلالم وميلان زوايا العمارة وحدّة حوافّها أكسب اللقطة مثل هذه الدقة، إضافة إلى إبراز متانة الجدران التي حافظت على ديمومتها عبر كل تلك القرون، حيث قاومت عوامل المناخ وما تعرضت له الأرض من تغيرات جيولوجية. لعل الكاميرا عين سحرية تُجسد ما لم ينتبه إليه الفنان، إذ لها ذائقتها المندمجة مع ذائقة المصور. بينما نجده في لقطة أُخرى للجدران اعتنى في تجسيد انتظامها المعماري وصفاء طابوقها، حيث لعبت عين الكاميرا دوراً في خلق توازن في توزيع الضوء والظِل، بحيث خلق من الجدران صورة راقية تتمتع بأسس وخصائص فريدة، خاصة الشبابيك ذات الأقواس العلوية، إذ لعب الظِل دوراً كبيراً لتجسيد جماليته. إذ حرص على إظهار ما يخص المواقع الآثارية والمباني القديمة، بعينيه المرهفتي الحس للتجاوب مع طبيعة الجمال المعماري وعين كاميرته وحساسية عدستها، فأنتج جمالاً متميزاً لتلك الأماكن. وهي دليل على اعتزازه وحبه وحرصه على ما تركه الأجداد.
كاتب عراقي