فوزي كريم
لم نزل نقرأ نصوص فوزي كريم، الحالم بالجمال، السارد الهادئ في شخصيتهِ، لكنه الثائر في رأيه وقوله، الكاتب الذي رحل عنّا، فتوقفت أفكاره عند حدّ معين من الوقت، لكنها لم تندثر، الآراء والتجليات، القصائد والنصوص، الذكريات والسير، هذه التي قالها منذ الستينيات إلى وقت رحيله، تحتاج إلى إعادة قراءة بوعيها، وتحتاج إلى إعادة إنتاجها بفكرها، وبحاجة إلى إعادة نشرها بتجلياتها؛ ليكون المتلقي مُطّلعاً عليها، مُتأثّراً بها، وغير منفصلٍ عنها.
يعي الشاعر فوزي كريم نفسه، ويعي الكون الذي عاشه، على الرغم من اتساعهِ، فهو يرى أن الدنيا مهما طالت وكبرت، فهي ضيّقة، منتهية لا محالة، وفق ذلك، كان الشاعر الزاهد المتأمل للحياة، لا الآمل فيها، مُؤكّداً ذلك بقولهِ:
ما أوسع هذه الدنيا في عين الآمل..
ما أضيقها في عين المتأمل..
مَنْ يقرأ نصوص الشاعر فوزي كريم يتصوّر عقلاً متزناً بواقعٍ مُتخيل، ومن يتمعن قصائده يجد وعياً مغايراً بمُتخيلٍ واقعي، فالحياة لديه ليست معقّدة، لكنّها مُحيرة، كتحير أبي العلاء المعري في سجونهِ الثلاثة، وفي دعوتهِ لتخفيف الوطء، فينشد كريم على أثر المعري، قائلاً:
« ليس يجرؤ ذئب على سحنة الليل فينا
ولا الشمس تدخل آبارنا غير أنا
بذات التواتر لم نبطل النسل…
أيها المتحاشون منا اقترابا
خففوا وطأة الحذر
قد ترون مرابعنا طللا وهياكل
لسنا ضحايا وباء مضى
ووقود حروب جرت
بل مرايا لكم…»
يحمل الشاعرُ فوزي كريم الحياة على قلب ٍ شفّاف، يَرى ويُرى، يستمدّ ملامح كلماته من مرايا الكون، فيُظهر المخفي من هواجسهِ، ويُخفي الظاهر من ملامح عنفوانهِ، فهو الشاعر الصامت (بشخصيتهِ) و(الصارخ) في أرجاء لغتهِ، وبصوتهِ اللغوي المفعم بالدهشة والكبرياء:
سأغنّي كالغجري
وأُخصب ُ جسدي بالزهر البري
وأحجبُ ضوء َ الشمس
عنْ حقل ِ أسايْ
كي لا يُنْبت غُصناً أشيب َ آخر لسوايْ
يُحتاج من المتلقي قراءة وعي الشاعر فوزي كريم بعمق، فهو شاعر له فلسفته الخاصة، وربّما كان فيلسوفاً له شعره الخاص، إذ يحتاج شعره إلى عقلٍ واع ٍ، ويحتاج سرده إلى وعي عاقل؛ فهو يحاول أن يُشكّل ما ورد في نصوصهِ من آراء ورموز وهواجس وأفكار، أكثرها يقع في المسكوت عنه، أو في ما يتعلّق بالإنسان والكون والحياة والموت، فضلاً عن الإشكاليات المُتفق عليها، أو غير المُتفق؛ لأنه باختصار يحمل مرجعيات ثقافية معقدة منذ صغره، فقرأ بوعي تام نصوصاً لفلاسفة وكُتّاب أثّروا على حياتهِ، وعلى كتابتهِ في ما بعد، كأبي عثمان الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي العلاء المعري، وأبي نؤاس، وابن الرومي وغيرهم من الكُتّاب والمؤلفين والفلاسفة، فضلا عن ثقافات مختلفة من السرد والقصص والتأريخ وما شابه.
هذا المزيج من قراءاته للتأريخ والفلسفة والتصوف والأدب في بداية شبابه، جعله إنساناً حالماً، مُتطلعاً لأفق واسع، فأخذ على عاتقهِ السعي من أجل تغذية عقله بما يقرأ، ليكون وعيه غير مُحجّم، وهذه فطرة حاول تطويرها بالمثابرة وإدراك المسؤولية التي فُطر بها، حتى في أصعب الظروف التي مرّ بها، في وطنهِ أو في المنفى، وهذا ما أكّده بقوله في كتابه «مدينة النحاس»: (كنت ُ حالماً بحق، لكن في مطلع شباب الحالم القاصر، كان هدفي، إذا ما كان واضحاً لي كفاية، هو الإصغاء لصوت الزمن الماضي، الذي يطلع عليّ ملء البصر). ومن بعدها صار الحلم هاجساً له، والحزن رفيقا معه:
صار الحزن لي
مظلة، أنام في ظلالها
أحلم في ظلالها، وأستجيرُ
(هل يتبعني الغاوون)
وبعد هذا الحلم، غادر الشاعر فوزي كريم بغداد، ذاهباً إلى باريس، التي طوّر فيها ثقافته، فثقافة الغربة أضافت له الكثير، من لغات أخرى، من رؤى جديدة، ومن أفكار، ومن تواصل مع الآخرين، من قراءات جديدة، وما شابه، غير أن درابين وفنادق ومطاعم وأنهار ونساء باريس لم تُنسيه عشقه لبغداد، درابينها غير المنسية، وبيوتها المفعمة بالحياة، ونهر دجلة الكبير الذي يتّسع لحلمه، ونساء بغداد الجميلات. لم ينسَ الشاعر كلّ ذكرياته ِ في بيت العائلة الكبير، ما تركه من إرث يصلح لأن يظلّ شيفرة يتداولها أهل الدار، من حكايات فرح وحزن يتشاركونها في ما بينهم، الجلوس في باحة الدار، النوم على سطح البيت وهم يتسامرون قبل النوم، تأثّره بجمال السماء والنجوم، الهدوء والأمل، ذكرياته مع بنت الجيران، كلّ التصاوير تمرّ على ذهنهِ دون نسيان، فالذكرى تظل تحيط به، فيعود به الشوق إلى بغداد:
سأعود غداً..
أو بعد غد
وأعيد السمك من الحوض الراكد
لمياه التيار
وغنائيَ في منفايَ إلى الخمارة
يا خمارْ..
عرّيني من وطأة ِ ذاكرتي، عرّي الفتيان
من وطأة موتاهم..
ما أطول درب العودة يا بغداد؟
ما أعمق رائحة الجلادْ..
بين غضونك؟
ما أطولها سنوات المنفى دونك؟
ما أطول درب العودة إذن لبغداد، ما أصعبها طرق الرجوع إلى رحم المدينة، فالوداع غير الإياب، القلق ينتابه، فيحاكيهم؛ علّ الريح ترسل صوته المبحوح ألماً، علّ الحلم يوقظ شغفه، علّهم يحلمون بما أوتي من شوق، وعلّه يحلم بوجودهم واللقاء بهم، فلا حكاية له بعدهم إلا المنفى، وما تفشّى من حياة جديدة، لكن الزمن العابر لم يزل يؤذيه، ذاكرة خضراء، ما زالت توقض فيه لحظات العودة، ولا تُنسيه:
ذاكرتي قطعت حبل الوصل مع الزمن العابرْ
وانتبذت بيتاً، في «مرتفع التل»
ستكون وسيطي، حين أعود
وأنيسي، حين يضيق ُ على عنقي
حبلُ الحاضرْ
إنّ لغة العودة، لدى الشاعر فوزي كريم، مرتبطة بلغة الشوق والحلم لديه، فنصوصه تحمل الإباء في مخيلتهِ، إباء النسيان والانفصال عن عالمه الذي وُلد فيه، وعاش متأملاً عليه، واقعه الذي كبّره في حُبّ، وأنضجه على مهل، بيته الذي أمّنه من خوف، وأنساه من جوع:
تحت وقع المطر
ورائحة الخشب الرطب
ما كان متسع للمسافر بين لفافة تبغ وأخرى
سوى أن يعيد النظر
في احتمالين: أن ينحني لرياح القدر
ويعيد الحقيبة للبيت، أو في احتمال السفر.
تلك الذكريات معلّقة في ذهنهِ، لم تُنسِه اللغة الفرنسية أو الإنكليزية فطرة لغته العربية، وفنادق باريس لم تشغله عن ذكريات العيش في بيت العائلة الكبير، لم تُنسِه والديه، عمته، أخوته، وبنات باريس، لم تشغله واحدة منهن حتى تُنسيه بنت الجيران.
وقبل رحيلهِ، ظلّ شاعرنا فوزي كريم، حالماً، ببغداد، أن يراها أجمل من تلك المدن التي تاه في ضجيجها، وغاب في صمت قراها، بغداد كبرت في خاطره؛ لأنها منبعه الأول، والصوت الذي هذّب عقّله، والوعي الذي قوّى فكره، إنها بغداد التي نشأ بها، ومات بعيداً عنها، بعدما كان يتأمل العودة إليها:
ما أطول درب العودة يا بغداد
ما أعمق رائحة الجلاد
ما بين غضونك
ما أطولها سنوات المنفي دونك
طمعني ربع القرن بأن اختلق بديلا عنك، فهلّ رماد
من رأسي
كاتب عراقي