هل يشكل انتصار ترامب منعطفا في الحياة السياسية الأمريكية؟ وهل يمكن له أن يقوم بتغييرات جذرية في هذا البلد وعلاقاته الخارجية؟ أسئلة ضمن أخرى يجري تداولها بعد فوز هذا السياسي المثير للجدل برئاسة أقوى دولة في العالم، بينما تؤكد المعطيات واقعا مختلفا عن العناوين السريعة في الصحافة، التي تحاول إبهارنا، ومنها ما يوحي بأنه سيقلب الطاولة على الجميع، وكأن الأمر يتعلق بديكتاتور وليس رئيس دولة ذات مؤسسات صلبة لديها خطوط حمر.
الرياضيات علم واقعي، ولغة الأرقام تبرز أن ترامب حصل على قرابة 74 مليونا و828 ألف صوت، وحصلت مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس على 71 مليونا و250 ألف صوت. تقدم ترامب بقرابة 300 ألف صوت مقارنة مع ما حققه في انتخابات 2020 التي خسرها، وهذه الانتخابات تبرز أن ناخبيه بقوا أوفياء، لكنه لم يستطع إقناع ناخبي الحزب الديمقراطي، وحتى الجدد الذين انضموا إلى الكتلة الناخبة 13 مليون ناخب جديد.
ولاية ترامب أربع سنوات فقط، وكل قرار مثير سيتخذه قد يجد في مواجهته قاضيا فيدراليا يبطله لأسابيع أو شهور، كما وقع خلال سنته الأولى من الرئاسة 2017، ما سيخلق دوامة من الشد والجذب
إن الانتخابات التي كانت منعطفا في الولايات المتحدة هي انتخابات 2020، استشعر المواطنون خطر ترامب، وصوّت للحزب الديمقراطي أكثر من 81 مليونا، وتجند المحافظون في تلك المعركة الفاصلة، وحصل ترامب وقتها على 74 مليونا، وخسر بفارق سبعة ملايين. لقد بقي ناخبو ترامب أوفياء لأنهم يريدون، حسب زعمهم، استعادة البلاد من أيدي المهاجرين، ونخبة يعتبرونها فاسدة، بينما ناخبو الحزب الديمقراطي غضبوا وانسحبوا بسبب عدم التزام الحزب بتعهداته في نزاعات دولية مثل، فلسطين وفي قضايا اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى. لا يمكن الحديث عن تفويض شعبي لترامب في ظل فارق أقل من أربعة ملايين من أصل كتلة انتخابية تصل إلى 244 مليونا، وتقدم بأقل من 3% على هاريس. عكس ما نجده مع الرئيس الجمهوري ريغان، الذي حصل سنة 1980 على قرابة 51% في مواجهة الديمقراطي كارتر بـ41%، وفي انتخابات 1984 حصل على قرابة 59% في مواجهة المرشح الديمقراطي والتر موندال بـ41%، بفارق 17 مليون صوت، علما أن الكتلة الناخبة كانت فقط 116 مليونا. ترامب تقدم بـ2% وريغان تقدم وقتها بقرابة 18%. ومع ريغان حدثت ثورة المحافظين في الولايات المتحدة. يبرز خبراء السياسية الأمريكية أن نظام الناخب الكبير، يخفي حقيقة توجه الناخبين في البلاد، مثلا في انتخابات سنة 2016 كان فارق الأصوات لصالح هيلاري كلينتون بثلاثة ملايين، ورغم ذلك خسرت الانتخابات بسبب ما يسمى احتساب أصوات الولايات، وليس النسبة العامة الوطنية. تكشف هذه الانتخابات الأخيرة أن الفكر القومي الراديكالي اليميني، الذي يروج له ترامب لم يتقدم وسط الشعب الأمريكي من 2020 إلى 2024، فقط استفاد ترامب من امتناع الناخب الديمقراطي عن التوجه إلى صناديق الاقتراع، مقابل استمرار وفاء المحافظين. ويعمل البعض على تبرير ذلك بتصويت اللاتينيين والملونين لترامب وكأن الحزب الجمهوري لم يسبق له أن حاز أصوات هذه الشرائح، وكأنها مقتصرة على الحزب الديمقراطي بينما السبب الحقيقي هو الامتناع.
يقول مايكل توماسكي في مقال له في مجلة «نيو ريببليك» الأمريكية الجمعة الماضية بعنوان «لماذا لا يفهم أحد السبب الحقيقي وراء فوز ترامب؟ لأن الفوز لا يعود إلى الاقتصاد أو التضخم، أو أي شيء من هذا القبيل، بل بالطريقة التي ينظر بها الناس إلى هذه الأشياء». ويبرز أن «فوكس نيوز (وكل شركة نيوز كورب)، ونيوز ماكس، وشبكة ون أمريكا الإخبارية، وشبكة سنكلير للمحطات الإذاعية والتلفزيونية والصحف، وiHeart Media (قناة كلير تشانل سابقا)، وشبكة بوت راديو (راديو مسيحي)، وإيلون ماسك X، والبودكاست، مثل بودكاست جو روجان وغيرها الكثير – وضعوا أجندة الأخبار في هذا البلد. وقد قاموا بتغذية جماهيرهم بنظام غذائي من المعلومات المتحيزة والمشوهة، التي جعلت من الممكن لترامب الفوز». ويرى أن وسائل الإعلام اليمينية، خاصة بودكاست نجحت في مخاطبة المحافظين، بينما بقيت وسائل الإعلام الكلاسيكية المحسوبة على الليبراليين مثل، «نيويورك تايمز» وبعض قنوات التلفزيون مثل «سي بي سي» قاصرة ورهينة أساليب الماضي في مخاطبة الناخب الديمقراطي الليبرالي. وينتهي إلى خلاصة مفادها «هذا هو العام الذي اتضح فيه أن وسائل الإعلام اليمينية تتمتع بقوة أكبر من وسائل الإعلام التقليدية»، ويؤكد يجب على الليبراليين أن يستيقظوا ويفهموا ذلك ويفعلوا شيئا حيال ذلك قبل فوات الأوان».
في نقطة أخرى، يتعامل الكثيرون مع التغييرات التي قد يحدثها ترامب، وكأنه جاء عبر ثورة على شاكلة إيران أو ماو تسي تونغ في الصين ولينين في روسيا، يتناسون أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وبرئيس له صلاحيات كبيرة، ولكن محددة بالدستور. نعم، يمكن لترامب فرض رسوم على واردات بلاده من الخارج، غير أنه لا يمكن أن يتمادى بشكل يهدد الدولار كعملة رئيسية، لأن الرسومات قد تعني تهديد مكانة الدولار لصالح الصين، لاسيما وأن دول «البريكس» عازمة على تقليص العملة الأمريكية في العالم. يمكن لترامب إنهاء حرب أوكرانيا، لكنه لا يمكن أن يؤثر جذريا على العلاقات العسكرية الأطلسية بين أوروبا والولايات المتحدة، رغم التهويل الإعلامي والسياسي الحالي، لأنها علاقات تشكل ركيزة للغرب، الذي يعاني من منافسة من الدول التي يقودها الثنائي روسيا – الصين. لا يمكن لترامب توظيف الجيش في الداخل وفي ملفات دولية إذا لم يحصل مسبقا على ضوء من قادة المؤسسة العسكرية. وحول هذه النقطة الأخيرة، يقول غريغوري فوستر أستاذ في كلية الدفاع الأمريكي، في مقال له الشهر الماضي في موقع «ديفانس وان» إذا فاز ترامب واستمر في تصرفاته غير المناسبة، لا ينسى أن الدستور لا ينص على القيادة المدنية للجيش، أي يمكنه رفض أوامر الرئيس. وعمليا، هذا ليس بجديد على الجيش، فقد تمرد الجيش على أوامر ترامب خلال الشهور الأخيرة من رئاسته، بعدما أراد الرئيس وقتها إنزال الجيش لمواجهة الاحتجاجات الاجتماعية العنيفة، في أعقاب مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد في ولاية مينيسوتا نهاية مايو 2020 على يد الشرطة.
وقبل عودته مجددا إلى البيت الأبيض، يواجه ترامب أول تحدٍ من مسؤول أمريكي وهو الصادر عن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الذي أكد الخميس الماضي قائلا، «لن أستقيل، حتى لو طلب مني الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب ذلك، لأن القانون لا يمنحه هذه الصلاحية». وفي مجال الهجرة، أعلن عدد من البلديات عدم التعاون مع شرطة الهجرة في ترحيل المهاجرين. ولا ننسى أن ترامب يبني خطابه على طرد المهاجرين، بينما كان خلال ولايته ما بين 1917-2020 أقل طردا للمهاجرين من سلفه باراك أوباما وخلفه جو بايدن. إن ولاية ترامب هي أربع سنوات فقط، وكل قرار مثير سيتخذه قد يجد في مواجهته قاضيا فيدراليا يبطله لأسابيع أو شهور، كما وقع خلال سنته الأولى من الرئاسة 2017، ما سيخلق دوامة من الشد والجذب. وعليه، يجب عدم اعتبار فوز ترامب تغييرا جذريا، ولا انقلابا سيقلب الولايات المتحدة رأسا على عقب، إنها أربع سنوات ستكون فيها بعض الهزات ستجد صدى في الإعلام أكثر من ميدان السياسية، وستنتهي الأربع سنوات.
كاتب مغربي