فوضى التواصل؟

حجم الخط
2

يشكل التواصل في حياة الإنسان وسيلة مهمة لتحقيق أقصى درجات التفاعل بين الإنسان ومحيطه. وهو تواصل بطبيعة الحال مبنيّ على قواعد وسنن؛ سواء أكانت عملية التواصل تندرج في اليومي لتوفير الأغراض الضرورية والتمكّن منها، أو كان التواصل مؤسّسا على المعطى المعرفي في مستوياته وعلومه المختلفة.
يبقى التواصل كعلم قائم بذاته هو عصب الحياة وأّسّها، والتمكّن منه ومن آلياته يعّزز فرص نجاح الفرد والمجتمع. وهو قبل أن يقعّد له في منتصف القرن الماضي كان حاضرا منذ أن وجد الإنسان على الأرض ما دام هناك مرسل ومتلق ورسالة تخضع لسنن.
ومع تطور وسائل التواصل الحديثة، تنوّعت أشكاله وأنواعه، فقد ألغت تلك الوسائط الحضور المباشر لتحقيق فعل التواصل في أحايين كثيرة، بل تم الاكتفاء باختصار كل ذلك في أيقونات وعلامات مكتوبة ومرئية ومسموعة، وقد حقّقت نجاحا غير متوقّع في التأثير في أفكارنا ومخيّلاتنا، بل ضاعفت أحلامنا في الوصول إلى تحقيق طموحاتنا، ولو عن طريق الخيال والتخييل، بل أكثر من ذلك ضاعفت عملية الإغراء لاكتشاف ذواتنا من وجهة ثقافات متعدّدة، فأصبح الجسد طيّعا للتماهي مع عالم الموضة، بعد أن تأثر العقل ببريقها. كما تغذّى الفكر بمحتويات تلك الوسائط، وأصبحت لغة التقليد تجتاح العالم بين ليلة وضحاها. ولا أدلّ على ذلك بعضا ممّا تعجّ به تلك الوسائط الاجتماعية المفتوحة على كل الاحتمالات، فغدت تلك الوسائط سوقا رائجا لترويج منتوجات متنوعة؛ سواء تلك التي تقادمت وطالها النسيان، أو تلك التي انتهت مدّة صلاحيتها، الكل يبحث عن ترويج منتوجه، فاختلفت طريقة الإقناع بين المعقلن والفوضوي واللاّمعقلن.
ولعلّ ما استرعى انتباهي وأنا أدوّن  في العالم الأزرق؛ وهو اجتهاد ومثابرة للتواصل والتفاعل مع مجموعة من المتلقين، ذكورا وإناثا، وفق مادّة بسيطة ومتواضعة، والهدف والمقصد هو خلق نواة ثقافية أُفِيد وأَستفيد. كانت التجربة ممتعة؛ لكن ما يحزّ في النفس، أنّ ما ينشر في صفحات وحسابات شخصية لا يرقى في أحايين كثيرة إلى الجِدَّة، أو المحتوى الجاد والهادف، بل ما يطبع التفاعلات هو المجاملات في كثير من الأحيان، بغضّ النظر عما كُتب ومحتواه. وهذا يجد تبريره لدى البعض؛ أنّ وسائل التواصل الاجتماعي مجرد وسيلة للتسلية والتزجيّة، والبحث عن تمضية الوقت وهم أحرار.
صحيح أن التسلية والضحك هما جزء من حياة الإنسان، لكن أن يصيرا روتينا يوميا، فهذا يحتاج إلى نقاش معمّق.. فئة أخرى تجتهد في نشر أفكار ومقالات ومضامين مفيدة للجميع، لكن لا تجد تفاعلا يشجّعها على الاستمرار، وحتّى الصحف واليوميات التي تنشر موادّها في تلك الوسائط، معزّزة منشوراتها بمقالات وأخبار رصينة ومحكمة لكتاب وباحثين لهم باع طويل في ما يكتبون، لا يحقّقون تواصلا وتفاعلا كبيرين. أما من سبقته شهرته، فكل ما يدوّنه سواء كان ذا مغزى، أو كان دون ذلك؛ فيحصد مئات علامات الإعجاب وعشرات التعليقات المثخنة بكلمات من قبيل «جميل، رائع» أما نقد ما كتب أو مقارعته فقليلا ما نجده. ونوع آخر همّه كسب مدخول مادي من وسائل التواصل، والبعض الآخر يريد الشهرة، إلخ.

لا يمكن أن نغيّر نظرة الناس لمجموعة من الأمور، فالتعامل مع محتويات النت، يتم بين شخص يحمل هاتفه أو غيره من الأجهزة، ويتفاعل مع المادة المرسلة سلبا أو إيجابا، ويصبح نفسه مرسلا لمادة أخرى تتنوع وتختلف حسب ثقافته وبيئته وتركيبته النفسية والمعرفية.

أصبحنا أمام فوضى تواصلية لا أول لها ولا آخر. صحيح أنّ الإنترنت وما يوفّره من مواد مهمّة في ميادين شتّى أصبح ضرورة وعادة يومية لكثير منّا، وواضح كذلك أنّ المبدأ الذي تقوم عليه هذه الوسائط، هو أنها مفتوحة على الجميع بما توفّره من إمكانية الكتابة والتدوين ونشر الفيديوهات والصور، وما يرافقها من سباب وشتم وتشهير وقذف، دون مراعاة الحرمات ولا احترام أسرار الناس وخصوصياتهم. حيث استغلّوا الحريّة لإطلاق العنان دون التمييز بين ما يصحّ قوله وما لا يصحّ. بل تناقش أمور دون علم بخصوصياتها وأبعادها الفكرية والمعرفية. ساهم في ذلك غيّاب تقنين محدّد لكيفية التعامل مع تلك الوسائط الجديدة.
كما أنّ هدف القائمين عليها هو تحقيق الأرباح بغضّ النظر عن أيّ محتوى ومراميه، فالمقياس لنجاح أي مشروع للنت هو مدى إحرازه أكبر عدد من علامات الإعجاب والمشاهدات فكلّ نقرة لها ثمن مؤدّى عنه، وفق المعايير المعتمدة في هذا المجال.
خلاصة القول: لا يمكن أن نغيّر نظرة الناس لمجموعة من الأمور، فالتعامل مع محتويات النت، يتم بين شخص يحمل هاتفه أو غيره من الأجهزة، ويتفاعل مع المادة المرسلة سلبا أو إيجابا، ويصبح نفسه مرسلا لمادة أخرى تتنوع وتختلف حسب ثقافته وبيئته وتركيبته النفسية والمعرفية. لكني أتساءل معكم ومعكنّ، أين الخلل، وما هي العلل؟ وكيف نعيد للثقافة الجادة أنيسها وأنستها، بعدما أصبحت يتيمة على موائدنا وفاقدة لبريقها وضيائها، حيث توارت للخلف فاسحة المجال لزمن التفاهة والرداءة والفوضى. العديد منا يتساءل لكن الجواب نملكه جميعا؛ لنتفاعل مع كل محتوى جاد، بعيدا عن كل مجاملة أو تحيز أو تفضيل، والتفاعل هو مساهمة كذلك في توجيه المادة المرسلة وتصويبها ونقدها قبل كل شيء، فعندما نستحضر ملكة النقد البناء، دون لمز أو همز أو تجريح، نكون ساهمنا في بناء ثقافة جادة، أما ما نلحظه اليوم فالكل يعرف مضمونه.
وأنا أتساءل مرة أخرى، قد يجيب أحدكم وما فائدة هذا السؤال.. ويجيب آخر وماذا ستستفيد من هذا السؤال؟ لكن يبقى السؤال مُشرعا ومشروعا.

كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول السيد العربي:

    صحيح نعيش فوضى التواصل

  2. يقول بوعزيز عيماد:

    هي فوضى نعم، لكن الى متى، لا احد يمكن ان يجيب عن هذا السؤال، فخلال اقل من عشرون سنة تخلينا، بدون إراضتنا عن الهاتف السلكي، عن آلة التصوير، عن المذياع و قريبا عن شاشة التلفاز، هذه المتغيرات لم تمهلنا الوقت لهضم هذا الكم الهائل من المتغيرات في وسائل التواصل، هل نحن ذاهبون إلى الافضل ام الاسوء لا احد يمكن ان يجزم الآن، لكن المتقين منه هو ما أدركته البشرية في قرون اصبح الآن يدرك في شهور.

اشترك في قائمتنا البريدية