يبدو أن فرانسيس فوكوياما مولعٌ بلفظة النهايات أكثر من اللازم؛ فهو ما فتئ يصف الأحداث الكبرى، التي قد تشكل منعطفاً في تاريخ العالم بـ»النهاية» فقد كان سباقاً إلى إطلاق هذا الوصف على نهاية الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي، حينما سقط جدار برلين في (1989) أعقبه مباشرة انهيار النظام الشيوعي، وتفكك الاتحاد السوفييتي (1991) كانت هذه الأحداث، في نظره، إيذاناً بانتصار النّظام الغربي، الذي يقوم أساساً على الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية، إذ أطلق على هذا الوضع الجديد «نهاية التاريخ» راسماً للبشرية نهجاً واحداً هو النّموذج الغربي، فمن أن أراد أن يعيش في ما بعد التاريخ، فعليه أن يختار هذا النموذج دون تردد أو تأخير، حيث السلام والأمن والعيش الرغيد، ومن أراد أن يبقى في حظيرة التاريخ، فعليه أن يتحمل عواقب فعله، فأمريكا لن تبقى مكتوفة الأيدي، ولن تسمح للبرابرة أن يفسدوا العيش السعيد، لأن عليها واجبات حضارية، ينبغي أن تؤديها في عالم ما قبل النهاية، كما كان على الرجل الأبيض واجبات من قبل، عندما تحمل عبء الأجناس الأخرى في مناطق مختلفة من العالم.
بعد أكثر من ثلاثين سنة من إعلان فوكوياما الأول، المتلذذ بنشوة النّصر والقوة، وبعد أقل من عشرين سنة من الهيمنة الأمريكية المؤكدة، «منذ سقوط جدار برلين إلى الأزمة المالية في 2007– 2009» ها هو ذا اليوم يعلن نهاية الهيمنة الأمريكية؛ نهاية مرتبطة بتراجع قوة، وانتكاسة نموذج، تجلى ذلك أكثر، إثر انسحاب أمريكا من أفغانستان؛ انسحاب، مع أنه مبرر، إلا أن أقل ما يوصف به أنّه مذل وصادم، لا يليق، بأي حال من الأحوال، بقوة عظمى تقود العالم؛ والحقيقة أنّه بين نهاية الأمس ونهاية اليوم، هناك مراجعات عدة لفوكوياما حول فكرة النهاية هذه، إلا أنها كانت، في الحقيقة، مراجعات شكلية لا تمس عمق الأطروحة وجوهرها، بما أنّها تنحاز إلى الغرب وتفوقه، وإلى الليبرالية كنموذج وحيد صالح للبشرية، مأزق فيروس كورونا جعل فوكوياما، على ما يبدو، أكثر جرأة في الطرح، وأكثر صرامة في مراجعة أفكاره، إلا أنّها، كما أشرنا سابقاً، هي مراجعات، وإن كانت مهمة في الظاهر، إلا أنّها تحافظ على جوهر فكرته النّهائية، هي، بالتالي، أخطاء، كأنها أجراس إنذار لهذا المآل، ينبغي لأمريكا المسارعة في تصحيحها، وانحراف عن المسار، يجب عليها أن تعود إليه قبل فوات الأوان. لكن اليوم، الأمر مختلف، فانسحاب أمريكا من أفغانستان بتلك الطريقة المشينة والمؤلمة، كأنّه «الهروب الكبير» شوّه صورة أمريكا، وأفقد الثقة في نموذجها، وفي قيمها، ناهيك من قدرتها على القيادة، وهو هروب سيظل عالقاً، بلا أدنى شك، بالذاكرة الإنسانية.
العالم بعد اليوم يتجه إلى نظام متعدد الأقطاب، ولا قوة للولايات المتحدة حتى ترفضه، ولا أن تقاومه، وليس لها من سبيل آخر إلا الانخراط في حوار مع هذه القوى الجديدة، من أجل صياغة النظام العالمي الجديد، حيث أولوية أمريكا فيه المحافظة على قيمها المتميزة.
نهاية الهيمنة الأمريكية
في مقاله الأخير في «ذا إيكونومست»(The Economist)يبتعد فوكوياما كثيراً عن نظرته التفاؤلية، محطماً كل أشرعة العودة مرّة أخرى إلى نظرته السّابقة، في هذا المقال يوقّع النهاية لفكرة «نهاية التاريخ» عندما يعلن نهاية الهيمنة الأمريكية، مؤكداً أنّ أمريكا ابتعدت عن العالم، وأنّ العالم ابتعد أكثر فأكثر عن الأحادية القطبية، واتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، لما تشكلت قوى جديدة، كـ«الصين وروسيا والهند وأوروبا، ومراكز أخرى في العالم».
ولعل وصول أمريكا إلى هذه الحال لم يكن اعتباطاً ولا مفاجئاً، بل كان نتيجة تراكم أخطاء كارثية: الحروب غير الضرورية التي خاضتها، الأزمة المالية في 2008 عدم الاهتمام بالمشاكل الداخلية.
استعملت أمريكا الحروب كوسيلة لتصدير نظامها، وهنا كان الخطأ القاتل، وكانت الإساءة في استعمال القوة، والمبالغة فيها، فبدلا من اعتمادها على تعميم نظامها، وتصدير قيمها، على قوتها النّاعمة (جوزيف ناي) المتمثلة أساساً في نموذجها الاقتصادي المتميز، وقيمها العالمية، راحت تستعمل قوتها العسكرية، حيث قادت حربين، غزت أفغانستان أولا (2001) ثم قامت بعدها مباشرة باجتياح العراق (2003) حربان لم تحققا أهدافهما المرجوة في نشر الديمقراطية وإنهاء الإرهاب، بل زادتا الوضع سوءاً، فقد أُنهكت أمريكا، وشاعت الفوضى والدمار في الشرق الأوسط.
هي، إذن، استراتيجية قائمة على الاهتمام بالأزمات الخارجية لا بالمشاكل الداخلية، مع أن التحدي الأكبر، الذي يواجه أمريكا، ويعزز مكانتها العالمية، كقوة مهيمنة ومؤثرة، كان في إيلاء المشاكل الداخلية اهتماماً أكثر، يقول فوكوياما: «التحدي الأعظم لمكانة الولايات المتحدة العالمية، ينبع من الداخل؛ فالاستقطاب في المجتمع الأمريكي عميق، وأصبح تقريباً من المستحيل الوصول إلى إجماع على أي شيء. هذا الاستقطاب، بدأ حول قضايا تقليدية، مثل: الضرائب والإجهاض، ومنذ ذلك تفاقم إلى صراع حول الهوية الثقافية» كان في مثل هذه الأزمات يُستدعى العدو الخارجي، لكي يعيد التعاضد، ويقوي الترابط بين المواطنين، لكن هذه الاستجابة فشلت في أزمة كوفيد – 19، حيث أدت، كما يقول فوكوياما: «إلى تعميق الانقسامات الموجودة في المجتمع الأمريكي» بالإضافة إلى ما صاحبها من إجراءات، كـ»قواعد التباعد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة، والآن التطعيمات، التي ينظر إليها كأداة تخدم أجندات سياسية» كلها فاقمت من حدّة الانقسام.
كل هذه العوامل وغيرها ساهمت في تفاقم الاستقطاب واستفحاله، ما أدى، والحال هذه، بالأزمة الداخلية أن تؤثر في نجاعة السياسة الخارجية، والحدّ من كفاءتها، سواء في عهد باراك أوباما، أو في فترة دونالد ترامب، أو حتى في بدايات ولاية جو بايدن.
التهديد الصيني والروسي
يرى فوكوياما بأن هناك إجماعاً من الديمقراطيين والجمهوريين على أن الصين تشكل تهديداً كبيراً للقيم الأمريكية، بالأخص الديمقراطية، ومما لا شك فيه أنّ انسحاب أمريكا من أفغانستان في هذا الوقت بالذات فرضته الضرورة، واستدعته التحديات الكبرى، وهو خيار كان لا بد منه، من أجل أن «تركز أمريكا على مواجهة التحدي الأكبر، المقبل من روسيا والصين» لكن، كل هذه الإجراءات لن تجعل العصر الأمريكي مستمراً، الذي انتهى، على ما يبدو، بسرعة، ولا أن تعيد الهيمنة الضائعة، لهذا لا يعقد فوكوياما آمالا كبيرة على عودة الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية، كما في السابق، فمسألة استرجاع هيمنتها على العالم أمر مستبعد، ما تستطيع أن تقوم به الآن أن تسعى إلى الحفاظ على نظام عالمي، يحترم قيمها الأساسية، يؤكد ذلك بالقول: «على الأغلب لن تسترجع أمريكا هيمنتها، وينبغي لها أن لا تطمح لذلك. لكن، ما يمكن أن تطمح إليه، هو الحفاظ على نظام عالمي، يحترم القيم الديمقراطية من خلال معرفة غايتها، واستعادة شعورها بالهوية» ويضيف بأنها لن تستطيع أن تؤثر في القضايا العالمية، على الرغم من بقائها كقوة عظمى، إلا إذا استطاعت إصلاح البيت الداخلي، إذ يقول: «ستبقى أمريكا، قوة عظمى لسنوات عديدة مقبلة، لكن قدرتها على أن تكون دولة مؤثرة، يعتمد على نجاحها في إصلاح مشاكلها الداخلية».
رسائل فوكوياما
ما قاله فوكوياما هو، في الحقيقة، رسائل موجهة إلى الداخل الأمريكي أكثر منه إلى الخارج، حاول فيها أن يوجه جملة من النّصائح إلى صاحب القرار في البيت الأبيض:
-العالم بعد اليوم يتجه إلى نظام متعدد الأقطاب، ولا قوة للولايات المتحدة حتى ترفضه، ولا أن تقاومه، وليس لها من سبيل آخر إلا الانخراط في حوار مع هذه القوى الجديدة، من أجل صياغة النظام العالمي الجديد، حيث أولوية أمريكا فيه المحافظة على قيمها المتميزة.
-لن تستطيع أمريكا من بعد اليوم أن تتخذ القرارات الأحادية، وعليها أن تشرك هذه القوى في القضايا العالمية.
– ضرورة إصلاح المشاكل الداخلية، لاسترجاع ثقة المواطنين المفقودة في النظام الأمريكي، وكسب ثقة الحلفاء والأصدقاء، لاسيما بعد ولاية ترامب، وبعد انتخابات قيل فيها الكثير؛ فإصلاح الداخل من شأنه أن يمنح أمريكا قوة في الخارج، بالتالي، القدرة على مجابهة التّحدي الصيني والروسي بأريحية أفضل.
كاتب من الجزائر
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون .. صدق الله العظيم