يُنسب للفنان فيكتور فازريللي vasarely victor الفضل في تأسيس فن الأوب آرت op-art ورائده الأول، مضى في هذا الاتجاه موظفاً الأشكال الهندسية والرسومات الملونة، كانت تلك الأشكال تمثل كذلك أبجدية موندريان التشكيلية وزميله مالفيتش وغيرهما من رواد التجربة الهندسية منذ عشرينيات القرن الماضي، أراد هؤلاء بكبرياء جديدة في تاريخ الفن أن يبتكروا أشياء تبتعد عن الواقع اليومي المباشر، مبرّأة من كل إيماء إلى أي رؤية تحيط بنا نستطيع أن نحكي عنها، إنها محاولة في التعبير عن «رؤيا روحية للوجود» بكل ما تتصف به تلك الرؤية من بساطة ونبل وطهارة من أدران الحياة العادية وتخلص من ضغوط الزمان والمكان. هذه المفاهيم تجد جذورها في الأفكار التي تبناها الفنان الروسي كاندنسكي (1866-1944) أحد أهم فناني القرن العشرين من المجددين والمبتكرين،
التشكيليون الجدد والباوهاس
ذهب الفنان فيكتور فازيرللي (الفرنسي الجنسية ، المجري الأصل 1906 -1997) في هذا الاتجاه موضحاً: انه لم يكن يريد أن يضيف شيئاً إلى أعمال منغلقة على نفسها اكتملت من قبل وما عادت تقبل إضافة، إلا أنه ما لبث أن استشعر أقصى ما يمكن أن يصل إليه ذلك العطاء الهندسي. لقد كان موندريان على حد قول فازيرللي مبتدع حركة، لكنه كان أيضاً خاتمة مطاف، حاول الكثيرون أن يقتفوا اثره لكن بصماته كانت هناك على الدوام، فانتهى بهم الأمر إلى التكرار والرتابة، وبعبارة أكثر ايجازاً: انفصلوا عن الحياة.
يتفق فازيرللي مع الروائي مارسيل بروست 1871-1922 صاحب «البحث عن الزمن المفقود» لا شك في أن الفن ينتهي به الأمر مثل الجسد يوماً ما إلى الموت، فالأعمال الفنية والأدبية شأنها شأن البشر ليست موعودة بالديمومة والأبدية.
لكن إذا كان بروست يخلص إلى أنه يجب أن نستسلم للموت، فإن فازيرللي من ناحيته لا يقبل الاستسلام، وتجد مخيلته الخصبة حلولاً وإجابات – نسبية بالضرورة – لكنها فريدة ومبتكرة على أي حال، وتتسم برغبة عميقة في النماء والتكاثر مثل الخلايا الحية، وبفضل الآلة يصبح العمل الفني الواحد آلافاً وملايين، أسطورة النسخة الوحيدة للعمل الفني، ينبغي أن تندثر برأي فازيرللي، إن أعمال الموسيقى مثلاً تنتشر عن طريق الأسطوانة، دون ان تفقد تلك الأعمال شيئاً من قيمتها الاصلية، فلماذا لا نفعل المثل في الرسم، إن اللوحة التي لا تقبل التقليد ليست عملاً طليعياً.. ليست عملاً للمستقبل.. إنه يدعو إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة كمدلول عصري للعمل الفني، وبالإمكان استخلاص المقومات التشكيلية بغية إثبات قانون تشكيلي عام، وفي هذا السبيل عمد فازيرللي إلى استنباط «أبجدية» مؤلفة من خمسة عشر شكلاً هندسياً وخمسة عشر لوناً أصلياً، تسمح بتراكيب تشكيلية عديدة، وتتيح خلق لغة تشكيلية عالمية تسمح بتعبيرات جمالية لا حصر لها.
تحمل أحلام فازيرللي في طياتها أحياناً إضافة مهمة من الخيال الذي ينقص المجتمع العصري، الذي يتجرد تباعاً من تلقائيته الإنسانية إزاء التقدم الصناعي والتكنولوجي، ويصدق هذا في العمارة، التي اهتم بها ونشر أشكالها وألوانها المبتكرة في حقلها. داعياً إلى خروجها من القتامة والرمادية التي تخيم عليها، وإضفاء مسحة من الجمال تخفف الكآبة وتشيع البهجة. إنه يدرك الهدف من دخول الفكرة التشكيلية إلى الحياة اليومية على الدوام، كان من أول الداعين إلى عمارة ملونة، مطالباً تضافر دور التشكيليين والمهندسين ومخططي المدن، بل علماء النفس والاجتماعن كي تكون الوحدة السكنية وما يحيطها بيئة توفر السعادة لساكنيها. ويستعين بالنوافذ كمثل في التوظيف الجمالي داخل المباني، إنها أداة لتحقيق الضوء والتهوية، لكن معالجتها، شكلاً ومادة، بوظيفة تشكيلية يمنحها قدراً إضافياً من الراحة والتأمل.
يخلص فازيرللي إلى أننا إذ تخلينا عن فكرة «لوحة الحامل» واتجه الرسم إلى انشغالات جديدة في الشوارع والميادين والعمارات، التي تحفل بها المدينة تتحول المدينة ذاتها إلى لوحة رحيبة، إلى كنز فني يفخر به الجميع، إنه يؤمن باللوحة في الحياةِ، ومدنية المستقبل سيشيدها آلاف المهندسين والحرفيين والتشكيليين مستجيبين لمتطلبات الإنسان النفسية والجسدية.
إن السمات الأساسية لفلسفة فازيرللي التشكيلية تقوم على إنكار الانتماء إلى الماضي، ورفض المحليةن مؤمناً بأن مصير الفن ومستقبله رهين التشبث بعالميته، فهي التي يمكن أن تمضي به قدماً إلى آفاق رحيبة وجديدة على الدوام. وخلص إلى أن الحقيقة ليست مشاهد، بل هي مجموعة تتضافر أو تتصارع، كما أن الطبيعة تتراجع أمام أنظار الإنسان الحديث، لتحل محلها الشوارع والمباني ودخان المصانع وأعمدة الاتصالات، وهكذا يتراجع التصور الطبيعي أمام التصور التجريدي. كان اقترابه من من التجريد مختلفاً عن التكعيبيين والدادائيين، ورفض بإصرار كل محاولة لإحلال القبح والدمامة محل الأشكال الطبيعية لمجرد الابتعاد عنها في سبيل التجريد. جرّب الفنان السريالية والتعبيرية التجريدية، ومنذ استقراره في باريس 1930 عمل في وكالات الإعلان كفنان كرافيكي. ومنذ عام 1947 شعر فازيرللي بالرغبة في العثور على لغة تعبير جديدة، فابتكر هذه اللغة وهي «الفن البصري» أو ما يعرف بفن الخداع البصري، هو خالقها، تقوم على فكرة قديمة ودؤوب هي إنكار ثبات المادة، وتحول كل شيء إلى ذبذبات تموجية لا يطولها البلى ولا تأثير الزمن، فالرؤية التشكيلية تهرب بنا تارة إلى الذرة وتارة إلى الكواكب والمجرات الأخرى.
وحيث يصبح الزمن بعداً رابعاً في العمل التشكيلي، فأنتج أعمالاً تتحول تبعاً لوقفة المتلقي، وتكتسي بدلالات جديدة وفقا للحوار الذي تدخل فيه مع الرائي والزاوية المكانية البصرية، التي يواجه فيها العمل. وكان (الحمار المخطط –زبرا) أول عمل أبدعه في الخداع البصري، مركزاً على التجريد الهندسي، لكنه ما لبث أن عاد فأعرض عن هذا النوع من التجارب، مفضلاً التصاميم ذات البعدين. وعلى العموم حققت جميع أعماله شهرة عالمية واسعة.
من الأمانة الإشارة إلى بعض الآراء النقدية التي ترى أن ملامح فن الخداع البصري ظهرت في العصر الإسلامي، يبدو واضحاً في الزخارف الإسلامية الهندسية، والنظام الهندسي في العمارة الإسلامية في نوافذها الملونة المشرقة، وشرفاتها الساحرة، ومن غير المستبعد أن يكون فازيرللي قد تأثر بتلك الفنون.
كان فازيرللي صاحب صنعة محكمة، وباحثا في قوانين الفن ومشكلاته، كانت غايته أن تكون خلاصة تجربته ذات هدف وظيفي، الرسم مثل سائر النشاطات الإنسانية ينبغي أن يخدم المجتمع، وأن يصبح العمل الفني كل مرة تدليلاً لمفردات لغة جديدة وثرية.
*مالفيتش: اسطورة الفن التجريبي الروسي (1869-1935)
**الباوهاس : مدرسة المانية متخصصة في التصاميم الداخلية (1919-1933) .
***كاندنسكي: أحد اشهر فناني روسيا في القرن العشرين المبتكرين والمجددين.(1866-1944)
كاتب عراقي