فيلم «أرض الرَحالة»… رثاء للإنسان والمكان

تستمر المخرجة الصينية كْلُوي شَاو (1982) في التنقيب عن قصص تطبعها العلاقات العميقة، فقد تناولت العلاقات العائلية في فيلمها «الأغاني التي لقنها لي إخوتي» (2015)، وقدمت في فيلمها «الراكب» (2017)، محكيا فريدا عن استمرار حياة البدو في العالم الحديث، عن تشبت رعاة البقر وراكبي الأحصنة بثقافتهم، الآن تجد موضوعا آخر ـ رغم كونه مقتبسا عن كتاب جيسيكا برودر- إلا أنه يبدو من صميم عالم المخرجة، المنحاز إلى من تعاكسهم الحياة، جميعها قصص قد لا تستهوي مخرجين آخرين، مثلما قد لا تناسب الجمهور الباحث عن التقلبات المفاجئة للقصص الحركية، أعمالها تبني علاقات مع الشخصيات والامكنة ببطء وترو بالغ الحذر، لذلك فأفلامها ذات الميزانيات المحدودة، دائما ما تترك أثرا كبيرا في المناسبات الداعمة للسينما المستقلة، بدون تقدير كبير لدى الجمهور، لكن فيلمها الجديد «أرض الرحالة» (2020) ينجح في لفت الانتباه إلى سينما بجماليات كبيرة تضاهي القصص العظيمة التي تقدمها.

«فيرن»

نتعرف في الفيلم على «فيرن» في دور آخر عظيم لفرانسيس مكدورماند، تجد نفسها مثل كثيرين في نهاية عمر لم يعرفوا فيه سوى العمل في شركة الجبس الأمريكية في مصنع إمباير نيفادا التي أعلنت في 31 يناير/كانون الثاني 2011، الإغلاق الشامل، بسبب انخفاض الطلب على الألواح الصخرية، وكان القرار يعني عمليا إنهاء وظائف الجميع في المعمل، ودفعهم إلى مغادرة المنازل التي كانت الشركة تؤجرها لهم لقاء أثمنة منخفضة 250 دولار شهريا. المدينة كانت تابعة للشركة ومرتبطة بها، لذلك بعد اغلاقها، تم إغلاق مكتب بريد المدينة وشطب الرمز البريدي «89405» نهائيا من السجل الوطني.
رغم كوننا أمام دراما واقعية واضحة البناء والمعالم، دراما مخلصة لخصائص هذا النوع، إلا أن الفيلم يحرك الكثير من المياه الراكدة في الثقافة الأمريكية تحديدا، الفيلم من ناحية ما، هو صخرة تتكسر عليها الكثير من شعارات الجنة الأمريكية، لا حلم أمريكي هنا، في الفيلم هناك كابوس لمسنين يواجهون انتكاسة كبيرة لصناديق تأمين التقاعد، لذلك هم مضطرون للعمل في سن كبيرة، وفي الغالب هذا العمل لا يسد حاجياتهم اليومية، خصوصا السكن. يستند الفيلم إلى كتاب يحمل الاسم نفسه للصحيفة جيسيكا برودر، الذي تتبع فيه قصص عدد من كبار السن من الأمريكيين (معظمهم بين الخمسينيات والستينيات) ممن يواجهون أزمة كبيرة في تأمين تقاعدهم، وينتهي بهم الأمر ليصبحوا عمالًا ويفضلون العيش في عربة سكن متنقلة أو خيام. تصبح فيرن واحدة من هؤلاء، بعد أن فقدت زوجها، ووظيفتها في مصنع الجبس.

مقارنة بين الشخصيات

تحيلنا الفضاءات المفتوحة إلى عقد مقارنة سريعة بين الشخصيات هنا، وشخصيات أفلام الغرب الأمريكي، فالفيلم يسير، عكس بنية الحكي في أفلام الغرب حيث يمشي البطل مزهوا بانتصاراته بدون ندم أو اهتمام بترك أثر في الأمكنة التي يمرّ بها، هنا الجميع منكسر الجميع مهزوم ـ رغم أن البقاء في الطبيعة ـ خيار طوعي لكثيرين، الجميع يريد البقاء، لكن الظروف تدفعهم إلى طرف الحافة. الحقيقة الوحيدة الفاضحة لتغول قوة رأس المال هي: ألا ملاذ للإنسان إلا نفسه، هي بمعنى آخر ـ يقول لنا الفيلم ـ حقيقة نصلها في نهاية العمر، لكن الأفضل أننا وصلنا إليها.
تختار المخرجة أن يكون المشهد الأول مواجهة بيننا وبين البطلة فيرن، هذه المواجهة عبر عين الكاميرا الموجودة داخل المرآب، في وضعية عكسية تماماً للمألوف، الكاميرا هكذا تعزز فكرة الاستقرار، العلاقة المستمرة مع المكان، الألفة حتى، لكنها على خلاف ذلك كانت ترسم في الفيلم آخر لحظات العلاقة بين فيرن وهذا المكان، الذي كان يمثل كل شيء بالنسبة لها. تنجح هذه اللحظة في إبراز قيمة المكان، وربط مغادرته بالخسارة الفادحة. وهنا لا تنشغل الكاميرا بالعودة إلى هذا الباب من أجل تعزيز فكرة غلقه أو تركه مفتوحا، المهم أن فتح الباب هو فتح لجراح الشخصية التي نشك أن تندمل من جديد، وهي تقنية سنشاهدها في الفيلم لاحقا، خصوصا في مشهد زيارة فيرن لمنزلها في آخر الفيلم، الكاميرا عندما يتعلق الأمر بالأماكن المغلقة، تستمر في ترقب الداخلين إليها متربصة بدخول الشخصيات وليس العكس.

فلسفة الفيلم المنحازة

فلسفة الفيلم المنحازة، كما يبدو، إلى التقشف بدءاً بالميزانية المحدودة جداً، تناسب الكثير في القصة عن فئة تبحث عن الحد الأدنى من أجل الحياة، في مشاهد كثيرة تصر المخرجة على إبراز هذه الفلسفة، تَبادل الحاجيات الزائدة عن اللزوم بين شخصيات الفيلم، التخلص من كل ما هو فائض.. المجد ليس للمادة هنا على الإطلاق، المجد لدفء العلاقات الاجتماعية. تجد هذه المعاني طريقها إلى النفس عبر موسيقى لودوفيكو أينودي المركزة على تكرار نغمات البيانو نفسها التي تسير في التطور والقوة، العازف الإيطالي العظيم هو أحد ممثلي البساطة (الحد الأدنى) في الموسيقى الأوروبية، موسيقاه عرفت كيف تعبر عن مشاهد التيه الذي تعيشه بطلة الفيلم تحديدا، عرفت أيضا كيف تتبعها في لحظات الضعف، الفرح والانكسار.
في أرض الرحالة تجد شاو عملا يلائم أسلوبها الذي ظهر في فيلميها السابقين، مشاهد ممتدة وطويلة تذوب فيها الحدود بين الوثائقي والروائي، اقتفاء الكاميرا للشخصيات وفتح مجال الصوت بين الإطار وخارجه، ومواجهة الكاميرا للشخصيات، كما لو أنها تحصل شهاداتهم، والاعتماد على طاقم كله من الممثلين الهواة، باستثناء فرنسيس ماكدورماند وديفيد ستراثيرن. إنه أسلوب يغني القصة ويترك للفيلم فرصته لإيجاد صوت يميزه ويكسر التقيد بكتاب جيسكا برودر فلا تركيز هنا على الإضاءات الكثيرة للكتاب التي تنهج الإشارة إلى المسؤول عن الأزمة، والمتسبب فيها، الخطة هنا تبدأ من تجنب ذكر الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى فوضى تصيب كبار السن، ويختار الفيلم أن يقتفي قصة إنسانية واحدة تركز على شخصية واحدة تنضم إلى الباقين، تجد فيهم تعويضا عن خسارات العمر، هو تعويض صغير، لكنه مناسب لنهاية العمر، الجميع يبدو راضيا بحياته الجديدة، مقتنعا بأن الحل يكمن في عودة الإنسان إلى الأصل إلى التضامن، عندما ستقابل أحدهم سيجيبك بسعادة كما فعلت فيرن في مشهد من مشاهد الفيلم، «أنا لست بلا مأوى» أنا فقط «بلا مأوى» وهناك فرق..

سينمائي مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية