هذا الفيلم لو شئت تصنيفه تصنيفا شخصيا، فهو ينضم إلى قائمة الجمال المبكي، مرافقا لعينات نادرة قافزة عبر محطات الزمن المتموجة، لتعلن عن نفسها في حضورٍ ضوئي ساطع، بين أضواء خافتة أو مريضة أو حتى مدعية. هو ذاك الجمال الدقيق المنساب الرقراق، حينما يغازل فيه الأسلوب التفاصيل دون انقطاع أو توتر، حتى تحين الل/حظة التي يتوحدان فيها على درجة واعية من الانصهار.
فيلم «أن تكون هناك» فيلم منقول عن رواية بهذا الاسم، حاز جوائز عديدة، وتسعدني إضافة شخصية «تشانس» البستاني إلى قائمة الشخصيات المبتكرة التي لا تنسى، وذلك ببساطة لأنها تركيبة نادرة يسعفها من جميع جهاتها تلك المهارات الطافحة، وهي تشيّد لها مناخا للولادة والتطور. العجيب في هذه الشخصية أنها شخصية ثابتة ولا تمر بتغييرات محسوسة سوى الطفيف جدا وغير الملحوظ، وهي غير مفضلة كثيرا في السرديات، لكنها تتحول إلى مفتاح لكل أبواب الدهشة، حين يصبح ذلك الثبات موردا ثمينا تتجلى من خلاله الإرسالات السردية، وتلعب دورا في فرض طابعها الشخصي على المحيط المتباين، فيرتد الأخير إليها بجملة انبعاثات سلوكية من شأنها صناعة الأحداث البؤرية، ثم تنطلق إلى توسيع الدائرة.
لن أخوض في جسامة المضمون، ولا إشاراته الفلسفية، بقدر ما أود لو ألفت النظر إلى جانب واحد لا غير، وهو جانب يتناغم مع صفات الشخصية الجوهرية، حيث أن تشانس البستاني، رجل كبير إلا أنه مجهول الماضي، ربته خادمة في بيت رجل ظلت العلاقة به مجهولة أيضا، يتراوح عمره بين العقد الرابع والخامس. تشانس لم يخرج من البيت مطلقا، وكل ما يعرفه عن العالم هو من التلفزيون والراديو. ولهذا السبب فهو يعيش بشخصية تلقائية عجيبة وصريحة، تتخذ من مهارته ومعرفته في البستنة، طريقة للخوض في حوارات مع الآخرين، بالأحرى هو قالب استعاريّ يبدو لدى المستقبِل، لكنه بالنسبة للشخصية حديث جاد عن الشيء الوحيد الذي يبرع فيه ويعرف كل خباياه/ البستنة/ الحدائق.
ضربة هذا الفيلم هي ضربة موجهة إلى الطبقة السياسية بالدرجة الأولى، ثم إلى المجتمع ثم إلى العالم الإنساني ككل، حيث أن البستاني ومن خلال سلوكه هذا سيحبه ويحترمه كل من يلتقيه، رغم أنه لا يقول سوى كلمات وجيزة، يقصد بها شيئا غير الذي يقصدونه، وفهما غير الذي يطمحون إليه، فهو يعيش بعقل طفل لم تحرثه الخبرات والتجارب بعد. صريح وتلقائي وبسيط، جعل جميع من حوله بالخصال المنبوذة إلى حد ما في عالمنا، يعتقد أنه رجل صاحب فكر عال، وله رؤية نافذة في دهاليز الحياة وأنفاقها! هذه الضربة موجهة بكل ثقلها إلى الابتعاد عن الأساسيات الصغيرة، هذه التي هي عماد الصواب أو الأصوب، كما أنها انتقاص من مآلات السياسة والمجتمع.
وقد ورد على لسان أكثر من شخصية في القصة، تنتمي لأكثر من محيط سياسي، أمريكي أو روسي – حسب ما ورد – بأنْ منحته الإعجاب ذاته. ولأن العالم لن يصدق أن رجلا مثله لم ير الحياة سابقا من الخارج، حتى اضطرته إلى ذلك وفاة الرجل المسن صاحب البيت، صاروا يلوّنونه باعتقاداتهم، ويلبسونه لبوس الخبير والمفكر، في محاولة منهم لتقريب عباراته وسلوكياته إلى تأويل يتناغم مع التصورات المنطقية للواقع الذي يعيشونه.
تعتمد مثل هذه الاشتغالات في صلبها على «سوء الفهم» بمعنى أن الشخصية ذات التفكير التلقائي البسيط والطفولي، تقول كلاما لا هو معقد ولا هو ساذج، كلاما ينتمي إلى تركيبتها وعشقها للحدائق، فيفسر الآخرون أقوالها باتجاهات أخرى، كي تتلاءم مع مقاصدهم وطريقة تفكيرهم، حيث يتم تشبيه وترميز الحياة إلى حديقة بما تحوي من زروع وأشجار وتربة وبذور وسقاية.
آليات التلقي
إذن.. هذا الفيلم يشرح لنا آليات التلقي بشكل مباشر وإجرائي، عبر تلك الحوارات بين تشانس والآخرين، الأمر الذي دعا البعض إلى استحضار غادامير وفلسفتة في التأويل وفتغنشتاين ونظريته في الألعاب اللغوية. بذرة نجاح تلك الحوارات، بل وحتى استمرار الأحداث وتواصلها، ناتج من عدم تصديق الآخرين وعجزهم عن رؤية احتمال آخر ماكث أمام أعينهم، إنه رجل بسيط وتلقائي، ولم ير الحياة كما رآها الآخرون ولم ينشأ بمثل طريقتهم. استحالة هذا الاحتمال عضّد عدم التصديق ذاك، فأدّى في النهاية إلى إخضاع الشخصيات الأخرى إلى الوقوع في تفسيرات ذات مقبولية، محكومة بالواعز الاجتماعي ومجاوراته، تناسب المألوف والمتعارف عليه. وتقودنا هذه التنشئة الغريبة لهذه الشخصية، إلى فيلم آخر يزدهي في غرابته، وهو فيلم المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس المعروف بهذه النوعية من الأفلام، وهو فيلم dog tooth من إنتاج 2009، إذ يقترب من تلك التنشئة الشاذة، وفي النتيجة تتصدر القصة شخصيات غرابتها غرابة طبيعية بالنسبة لطريقة التربية.
«أن تكون هناك» فيلم منقول عن رواية بالاسم نفسه كما أشرت، الرواية صدرت عام 1970 بينما الفيلم من إنتاج عام 1979 في أمريكا. ويحسب له أنه استطاع أن ينقد منظومة سياسية واجتماعية، دون أن يسفك دما، أو يثير شهوة الدمع، فنغرق في سيل من الجثث والمشاعر المحبطة. إخراج هال أشبي، تأليف جيرزي كوزينسكي، بطولة بيتر سلرز (تشانس).
التفاعل مع الأفلام القديمة
واحدة من ميزات الأفلام القديمة، أنها حتى إذا ما اختارت قصصا بسيطة، فإنها تقدمها بطريقة آمنة. وأقصد في ذلك، أنها تحترم المشاهَد والمشاهِد في الآن ذاته، إذ تمنحه الوقت والاسترخاء، من خلال الإيقاع الهادئ، حتى إن كانت الاحداث صاخبة، ثم هناك تلك الفنية العالية التي لا تدع مجالا للمتلقي كي يشكّك أو يشتكي من خلل أو ضعف في تماسك المَشاهد وانزلاقها بيسر، يضاف لها تغيرات أخرى عديدة طرأت على السينما أفقدتها تلك اللمسة، وفي رأيي في أغلبها تغيرات تقنية لها صلة بسوء استخدام التكنولوجيا والاتكاء على الصورة أكثر من السيناريو، والاعتماد على المؤثرات الإيهامية بإفراط، وأستدل على ذلك من طبيعة التشابه في جريان الأحداث والمعالجات في الأفلام القديمة، رغم اختلاف المخرجين والقصص في العقود السابقة، ويمكن الإحساس بذلك أيضا، من خلال طول وقت الفيلم المناسب لمنح القناعة والقبول والراحة أثناء المشاهدة. وعلى شرط أنها بتلك الأطوال لا تتخلى عن الكثافة. وهذا لا يعني أن كل التغيير الحاصل هو تغيير سيئ، إنما هناك سوء استخدام غالب على حسن التوظيف.
ولعل التأكيد هنا على دور التنشئة الاجتماعية، ومن ثم الثقافية، سيكون ضروريا، حيث أن أغلب الشخصيات المبتكرة حسب ما أرى، هي إما نتاج خلاصات فكرية وفلسفية يتم تطبيقها من خلال الشخصيات كما في «الغريب» لألبير كامو وفلسفته العبثية، «المسخ» لكافكا ورؤيته الكابوسية، أو من خلال تحولات الشخصية عبر مرورها بأزمات وعقد ومناخات غير طبيعية، أو متواضع عليها، مثل غرونوي في رواية «العطر» لباتريك زوسكيند، على الرغم من ولادة هذا الأخير حاملا معه علّته، إلا أنها لم تكن سوى انطلاقة هيمنت عليها التنشئة تحت ظلال التيتم، وأنتجت من خلال هذا التفاعل هذه الشخصية. هنا في هذه الرواية والفيلم، شخصية تشانس. ومن الممكن التقاء الجذور جميعا في صياغة شخصية مبتكرة. ولجت هذا المحل ليس لشيء سوى أننا نتذكر هذا النوع من الشخصيات دائما لما لها من خصوصية في التفرد والتشكيل والسلوك المغاير المترتب عن ذلك، ولهذا يضاف راسكولينكوف في «الجريمة والعقاب» لديستويفسكي، و»المعطف» لجوجول، وتلك الشخصية المتآكلة أكاكي أكاكيفتش، وهناك العديد من الأمثلة لا سبيل لذكرها كلها. هذه الشخصيات لغرابتها وندرتها تتفكك منظومتها العقلية والسلوكية إلى وحدات سردية مع كل موقف أو حدث، لتنعكس تلك الندرة والغرابة على كامل السرد، وكأن الحراك السردي المحيط بالشخصية يتصادم معها فيكتسي بلونها، وحينما يمارس حياته الاعتيادية، فإنه يتعاكس مع إيقاع الحياة المتاحة التي ألفها الجميع، وهذه بؤرة انطلاق وتوزيع ردود الأفعال غير المتوقعة، آخذةً بفرض إيقاعها على جميع الشخصيات النمطية المجاورة، حيث تبدو كخلل أو شائبة في المنظومة.
وربما ولست أجزم هنا، أننا نشعر بالقرب والتفاعل مع الأفلام القديمة، من حيث موضوعاتها الإنسانية والمعرفية بشتى تفاصيلها، لأن فيها بعضا من الملامح البشرية المشتركة، التي تشدنا إليها وتكشف لنا عن أنفسنا وتعرفنا عليها، رغم الاختلافات الثقافية، لكنه شعور لم يدم طويلا، فثورة التغيير الغربية أسرع بكثير من المتوقع، ولا تستطيع مجتمعاتنا اللحاق بها بسهولة، وتلك التغيرات تركت آثارها على المجتمع وأفكاره وفنونه، وبضمنها السينما، ولذلك غالبا ما نجد أن أفلام الحب على سبيل المثال هي أفلام مثيرة للسخرية في الوقت الحاضر، بسبب موجات الانتقاص الدائمة من فكرة الحب، والميول نحو كل شي مؤقت فقط. كونديرا أبحر في هذا الموضوع وتعمق فيه وباغت الموضوع نفسه، موضوع الجنس والبطء وما يحيط بهما، إلا أن هذه النتاجات حينما تنال انتشارا واسعا، فإنها تعمل كناقل يصدّر ويشيع تلك الثقافة، بدل الافتراض أنه يعرضها كي يعالجها، وهذه مجرد زاوية محتملة لا أكثر لتفسير تلك الألفة التي نحسها مع نوع كهذا من الأفلام.
كاتب عراقي