فيلم «العبور»: رسائل السينما الفلسطينية عن العبور والوجع

لن تتوقف السّينما الفلسطينية عن تمثّل جملة المعاناة الفلسطينية التي لا تعدم الكثير من الفيض، بل إن القضايا التي يمكن أن تقاربها السينما الفلسطينية قد تشكل زاداً كبيراً لمُتخيل المبدعين، ولاسيما السينمائيين، يمكن أن نقرّ بوجود نشاط واضح للسينما الفلسطينية في ظل الأحداث الجارية الآن، كما أنّ السينما الفلسطينية تسعى لأن تضع بصمتها الخاصة، على الرغم من التحديات والعوائق.
ولعل السينما الفلسطينية المعاصرة بدت أكثر قرباً من اكتناه ألم الذات الفلسطينية في سياق الاقتراب من الوحدات الصغرى للإنسان الفلسطيني في تكوينه اليومي والمعاش على المستوى الروائي السينمائي، بالتوازي مع محاولة اكتناه ذاته المقهورة، بغية تجسيد إكراهات الاحتلال، التي تبتر السياق الطبيعي لهذه الذات.
تتخذ الأفلام الفلسطينية في الآونة الأخيرة جزءاً من تكوينها من حيث الجمع بين المعضلات التي يواجهها الفلسطيني يومياً ضمن إطار «زمكاني» إذ يحضر الاحتلال بوصفه فعل تضييق على المكان بالتوازي مع الزمن، بل إن هذين العنصرين يمتزجان معاً في تكوين جديد أقرب إلى العطب، فالزمن الفلسطيني مشوّه من عام 1948، والمكان يتآكل، ويتعرض للتشويه بصورة مستمرة، لكن الأهم أن الذات الفلسطينية تعاين ذلك، فلم تتمكن من اختبار المعنى الطبيعي للحياة نتيجة الاحتلال الذي لم يترك ذاتاً فلسطينية، سواء داخل فلسطين التاريخية، أو الشتات، إلا وجعلها معطوبة بصورة أو بأخرى.

استعادة العبور

على الرغم من أن السّينما بوصفها فناً، غير أنها تحتمل قدراً كبيراً من فاعلية الصناعة التي تتطلب تواشج الكثير من العناصر، كما أنها في تكوينها القائم على تعاضدية الرسائل، تعتمد على تكوينها وتنظيمها على نسق الخطاب، الذي يمكن أن ننعته بالخطاب السينمائي الفلسطيني، وقد شكل فيلم «العبور» (2017) للمخرج أمين نايفة، جزءاً من محكية السينما الفلسطينية، التي تعكس وقائع الذات الفلسطينية، كما يتضح من العنوان، إذ لا يمكن أن نتجاوز دلالة العبور التي تتصل بذاكرة الفلسطيني، ذلك أن فعل العبور يعدّ إحدى الحالات التي تشكل معضلة الذات، بل إنها تشكل رؤيته للعام من منظور فلسفي، فالعبور يعني فعل انتقال من نقطة (أ) إلى نقطة (ب) غير أن العبور الفلسطيني قد يطول، ويمتد بين نقطتين، وقد يكون عبوراً من فلسطين إلى الموت كما في رواية «رجال في الشمس» أو عبوراً إلى فلسطين كما في رواية «ما تبقى لكم» وغير ذلك من قصص العبور الفلسطيني المستمر الذي يبدو أقرب إلى نموذج سيزيف، في حين يبرز العبور الأصعب في الداخل الفلسطيني، أو بين مناطق الضفة، وما بعد الخط الأخضر، كما بين القرى الفلسطينية، بالإضافة إلى عبور جدار الفصل العنصري، فلا جرم أن يشكل الجدار والحاجز المكونين الأكثر حضوراً في مشهدية السينما الفلسطينية، حيث ينتشر هذان المظهران في كامل فلسطين التاريخية، ولعل المخرج إيليا سليمان من الذين عبّروا عن هذا ضمن سينما مغايرة، كما في فيلمه الأشهر «يد إلهية».

قيمة التفاصيل

ضمن فيلم «العبور» الذي لا تتجاوز مدته (11) دقيقة، نرى أن فعل العبور يشكل جزءاً من معضلة لاختبار إنسانية الإنسان، وبهذا فإن معنى الفصل يجسد جزءاً من ممارسة تجاوزتها الحضارية البشرية، أو أنها تعتقد أنها تجاوزتها، لكنها ما زالت قائمة، وتمارس يومياً، فالاحتلال الصهيوني سليل العنصرية الغربية، ويمارس العنصرية منذ أكثر من سبعة عقود، فيقهر شعباً بأكمله بتواطؤ غربي معلن، وبهذا فإن الذات الفلسطينية أمام مواجهة تاريخية تحتمل كل يوم شكلاً جديداً، فتتخذ التفاصيل الصغيرة محكية سينمائية تختزل واقعاً من صورة كبيرة، أو متعددة، كما في هذا الفيلم الذي ينفتح على مشهد ثلاثة أشقاء يستعدون لمغادرة منزلهم في الضفة الغربية، بغية زيارة جدهما المريض، داخل الخط الأخضر، وبذلك تؤسس هذه المحكية البصرية حيوات الذات الفلسطينية عبر محاولة تكثيف وجودها الطبيعي، بوصفهم بشراً طبيعيين، بيد أن الاحتلال يسعى إلى تهشيم هذه الذات من الداخل، وقهرها.

في المشهد الذي يصور على عتبة البيت، أو في الحديقة الخارجية ينتظر الشقيقان (شاب وفتاة) شقيقهما الأكبر منتظرين أن يحضر تصريح الدخول، وحين وصول الأخير ننشغل بممازحات بين الأشقاء تكشف عن الرغبة في الحياة، على الرغم من الحصار أو السجن الكبير، كما وصفه المؤرخ إيلان بابي في كتابه «أكبر سجن على الأرض.. تاريخ الأرض المحتلة» وحين تحضر السيارة يتم التوجه إلى الحاجز، أو النقطة الحدودية التي تتخذ في تشكيلها نمطاً من الممرات الحديدية المتعرجة التي تتسع لشخص واحد ضمن نسق سلطوي يستهدف تأكيد الخضوع، ولعل هذا التكوين يعدّ نتاج العالم المتحضر الذي أتقن إنتاج أنماط سلطوية للرقابة، وعند توقف الأشقاء الثلاثة للحصول على تصريح الدخول نرى نماذج من القهر الفلسطيني، حيث يتحدث الجندي أو الموظف مع الفلسطينيين من نافذة بشيء من التعالي والعصبية، وضمن مقدمات لا تبشر بخير، يرفض الموظف إعطاء موافقة الدخول لعدد من المواطنين لأسباب واهية، على الرغم من وجاهة الطلبات، أو حصولهم على التصاريح، هنا نرى أن الفيلم يمهد لفعل التصاعد، ضمن التشكيل الدرامي، حيث تتحرك الكاميرا على الوجوه كي تعكس معنى التأمل والخوف من الخيبة، وقيم التوقع لمصير طلب الدخول أو الخروج.
بمجرد أن يتصل الموظف بأوراق الأشقاء الثلاثة يرفض السماح لهم بالعبور، غير أن الشقيق الأكبر يعمل على محاولة تجاوز الموقف بالادعاء بأن جده قد توفي، ويرغبون في رؤيته، وحضور الجنازة، فتنقطع الصورة، أو المشهد، ومن ثم ننتقل إلى مشهد نرى الأشقاء يصعدون سيارة قريبهم في الجهة الأخرى. وفيها يصرح أحد الأشقاء بأن الخدعة قد نجحت، ويقصد الادعاء بوفاة الجد، وبأنهم في طريقهم لرؤيته للمرة الأخيرة، غير أن هذه الحجة لم تكن سوى الحقيقة، وما العبور إلا لوداع الجد الذي فارق الحياة بعد محاولات طويلة في انتظار الحصول على تصريح.
وهكذا يلجأ المخرج لبيان قيمة الخيبة عبر تكثيف هذه اللحظة حين تتضح الحقيقة في السيارة فنشعر بتكثيف أو مراكمة الصمت الذي يخيم على الجميع، وتركز الكاميرا على الوجه والعيون، ولاسيما الشقيقة، وبذلك يتحول العبور إلى فعل للوداع، فلا جرم أن يهدى الفيلم للجد الذي رحل.

الأسلوب

ينتمي الفيلم إلى نماذج الأفلام القصيرة المكثفة، التي تعتمد التركيز على قضية مركزية، لكنها لا تعدم قيماً تجاورية يضطلع بها الفعل المشهدي – كما سبق أن ذكرنا- لكن قيمة هذا النوع من الأفلام تتمثل بقدرتها على ترسيخ القصدية التي يهدف إليها عبر تكوين الغاية التأثيرية، لكنه من ناحية أخرى يلقي الضوء على جملة الآلام التي يعيشها الفلسطيني.
لا بد من الإشارة إلى أنّ الأفلام القصيرة تعمد إلى الاقتصاد في السرد من منطلق أن كل ثانية مهمة، فليس ثمة مجال لتطوير الحبكة أو اختلاق حبكات فرعية، في حين أن الشخصيات تُختزل ضمن أبعاد وظيفية لا تعدم التأشير الدلالي المكثف، الذي يمكن أن نعده في الفيلم حدثا واحدا مثيرا، أو موضوعا بسيطاً، بيد أنه مؤثر، وفي هذه الحالة فإن رهان العبور قد يبدو الصيغة الواضحة في الفيلم، فالقيمة الأهم تتمثل بفعل التواصل مع الجزء الآخر من العائلة التي تشظّت إلى قسمين، فغالبا ما تكون الصراعات في الأفلام القصيرة داخلية أو مبنية على حدث خارجي واحد، مما يوفر وضوحا أو جاذبية عاطفية للمتلقي، وبذلك نلاحظ أن الفيلم قد استجاب إلى معايير الفيلم القصير، ولاسيما على مستوى تشييد النهاية المؤثرة التي تبدو أقرب إلى أثر أو ملاحظة لا تُنسى، ويتردد صداها لدى المشاهدين كي تترك انطباعا دائما في وعيهم المرتهن للنموذج المكثف.
وعطفاً على تكوين المكان في الفيلم نشير إلى أن اللغة البصرية، كما الرمزية ينبغي أن تأتي ضمن وقت مدروس على مستوى الحوار والسرد، وهنا يتخذ السرد البصري، أو الاستعارات البصرية، كما المشاهد المختارة قيمة فنية ضمن غاية أو إطار توصيل رسالة الفيلم، ومن هنا فإن فضاءات مشهدية القسمين المعزولين في فلسطين أو الجزر المعزولة كما الحواجز يمثل قيمة واضحة في الفيلم بدءاً من الجدار مروراً بشوارع الضفة الغربية، وبروز سارية تحمل علم فلسطين، وليس انتهاء بمشاهد داخل الخط الأخير، وتحديداً على مشهد شارع تظهر على جانبيه أعلام الكيان الصهيوني، وبين هذه المشاهد يكمن الفلسطيني الذي ينتمي حقيقة إلى كلا الأرضين، بيد أن هذا الاحتلال عمل على تجزيء وجوده، وبعثرة عوالمه، والأهم قهره على مدى حيوات وحيوات.

كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    وندخل وعلى ظهر هد ا الموضوع الفني الثقافي سماء السينما الشاسعة لكي نضع رغم قلة المعرفة بعض النقط متواضعة جد ا محبة في السينما أولا وكدالك في صورها دات وزن ثقيل ودات فائدة لكن ادا سمحتم لنا شكرا لكم ولا أنسى الكاتب السينمائي المحترم الدي قام بتحليل فيلم سينمائي قصير جعلنا نتخيله وهو بلغة الواقع لاالخيال السينما تعلمت اللغات واللهجات وحفظت التاريخ والجغرافية وكدالك القصص المتميزة عن غيرها والروايات وسمت نفسها بأكثر من أسم مثل السينما الفلسطينية ولقد أو لت أهتماما بالغا جد ا بما يدور فوق هده الأرض الطيبة المباركة وكما هو معروف عند المتخصصين السينمائيين بأن الفيلم القصير المعبر ليس من السهل أخراجه للوجود تقنية عالية وكأنك تشاهد فيلما سينمائيا طويلا معبرا وتخرج بنتيجة جامعة .

اشترك في قائمتنا البريدية