برلين ـ «القدس العربي»: يبدأ فيلم «المسار الأزرق»، للمخرج البرازيلي غابرييل مسكارو، الحائز الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي في دورته الخامسة والسبعين، برؤية مستقبلية كابوسية مقبلة، ولكن امرأة قوية لا تقف متحدية فحسب بل تتعلم أن تحلق بعيدا. يبدأ الفيلم بإعلانات تبثها طائرات صغيرة وعربات تحمل ما يشبه الأقفاص الحديدية. تبشر هذه الإعلانات أهل البرازيل برؤية جديدة للمستقبل، رؤية تعد بتوفر العمل والمال للشباب، مع توفير الراحة والهدوء لكبار السن. تتلخص هذه الرؤية في نقل كبار السن، الذين تزيد أعمارهم عن 77 عاما، إلى مستعمرات مخصصة لهم، فيما يعني توفير فرص عمل أكثر لمن هم أصغر سنا. تفرض سلطات البلاد نفيا إجباريا لكبار السن، وتجريدا من الأموال أو حتى من تقرير المصير، حيث يصبح الأبناء وفقا لهذه الرؤية المستقبلية أوصياء على الآباء والأمهات المسنين، ولكنها تجمل هذا المنفى القسري بتسميته تكريما للأجيال السابقة، أو استراحة لهم بعد سنوات من الكد. ويبدو ألا مفر ولا مهرب من هذا المنفى، لأن قوات الأمن تحكم سيطرتها، وتفرض عقوبات مشددة على غير الملتزمين بقرار السلطات.
الحرية والفرار من البطش هي جوهر فيلم مسكارو. يبدأ الفيلم فيما يبدو لنا أنه مجزر ومسلخ للتماسيح، حيث ترتدي امرأة مسنة زي العمل وتعمل في تنظيف المسلخ في نشاط وهمة وخفة، وهي تتراقص على أنغام أغنية. المرأة هي تريزا، التي تفاجأ في نهاية يوم عملها باستدعاء من مدير المسلخ، ليبلغها أن اليوم هو آخر أيامها في العمل لأنها بلغت السابعة والسبعين، وأنها ستحصل على راتبها للشهر ولكن عليها تسليم زي العمل. وحين تعود تريزا إلى كوخها الصغير، تجد أن بلدية الحي الذي تقيم فيه قد زينت خارج منزلها، احتفالا بعيد ميلادها السابع والسبعين، وتمنحها ميدالية شرفية، تمهيدا لنقلها إلى مستعمرة المسنين، وتولية ابنتها الوصاية القانونية عليها. إننا إذن حيال رؤية كابوسية للعالم يعامل فيها كبار السن كما لو كانوا مجرمين، أو فاقدي الأهلية، فهم إن لم يمتثلوا للقوانين الجديدة ستطاردهم السلطات بلا هوادة، في حين تسألهم الشرطة أسئلة مهينة لا تحفظ عليهم إنسانيتهم، أو كرامتهم، مطالبة إياهم بارتداء حفاضات حتى لا تتسخ ملابسهم.
عادة ما تأتينا أفلام الديستوبيا لتصور عالما قد ضربته كارثة ما، مثل تفجير نووي دمر المدن العامرة وأشاع الخراب، لكن الرؤية الديستوبية لفيلم «المسار الأزرق» تكمن في قرار استبدادي حكومي، يميز ضد فئة من السكان دون جريرة ارتكبوها، وهذه الفئة هي كبار السن، الذين أمضوا جل حياتهم في الكد والعمل وخدمة البلاد. تجد تريزا نفسها مهددة بالاستبعاد والنفي القسري، وتتذكر أنها طوال حياتها كان يراودها أمل الطيران، فهي لم تسافر على متن طائرة قط، ولم تحلق قط ولم تر الأرض من أعلى قط. وفي مواجهة السلطات التي تسعى لنفيها لمستعمرة بعيدة، تسعى تريزا لتحقيق حلمها صعب المنال للطيران، فهي وإن كان لديها بعض المال الذي يمكنها من شراء تذكرة طيران، إلا أنها وفقا لقانون البلاد الآن أصبحت تحت وصاية ابنتها التي ترفض السماح لها بالسفر.
وهكذا تبدأ رحلة تيريزا المليئة بالمغامرات والأشخاص، بحثا عن سبيل للتحليق. هي رحلة ليس فقط لاكتشاف بلادها التي لم ترها بسبب العمل والمسؤوليات، بل مغامرة لاكتشاف أشخاص ما كانت لتلتقيهم قط لو بقيت في دارها، وهي رحلة تكتشف فيها ذاتها وقدراتها، وتولد فيها امرأة جديدة.
تكتشف تريزا عالما رحيبا، فيه نهر الأمازون الفسيح والغابات الضخمة، ولكنها تكتشف أيضا مخلفات كثيرة تلوث النهر جراء مصانع المطاط التي تقطع الأشجار وتلوث مياه النهر. تكتشف تريزا أيضا قدرتها على الإمساك بدفة القيادة في مركب يمخر عباب نهر الأمازون. وتكتشف امرأة تمتلك قاربا وتجوب به النهر في حرية، وتعلم منها أن هذا النفي الإلزامي في مستعمرات المسنين أمر للفقراء فقط، فمن يملكون المال يمكنهم شراء حريتهم من السلطات. في رحلتها تكتشف بحثا عن سبيل للطيران تكتشف تريزا ذاتها وقدراتها الجسدية والروحية، وتتعلم أن تضحك وترقص وتغني حتى وهي تواجه تهديد نظام ظالم. في رحلتها التي تقودها إلى عوالم غرائبية لم تكن تعرفها من قبل تقابل تريزا امرأة قوية أخرى عرفت كيف تقتنص حريتها من السلطات، فهي امرأة يلقبونها بالراهبة، حيث تبيع الإنجيل للمريدين والمؤمنين ليس في صورة ورقية ولكن في صورة لوح إلكتروني لا يفسد. تخبر المرأة تريزا أنها لا تؤمن حقا بل تبيع للناس ما يصبرون به على قسوة عالمهم، وبما تجمعه من المال اشترت حريتها والقدرة على الإبحار والاستكشاف. يوجه مسكارو نقدا لاذعا، وإن كان غير مباشر للسلطات، فهي تسمح بتلوث النهر العظيم، وإلقاء مخلفات الصناعة فيه، وتسمح بقطع الأشجار وتدمير الغابات، كما أنها تترك الآلاف فقراء لا يقدرون على تدبير قوت يومهم أو علاج مرضاهم، فيلجأون إلى شراء الإنجيل علّه يمنحهم بعض الراحة والسكينة. في ظل كل هذا الفساد يصبح البحث عن ملاذ فردي أو نجاة فردية هو السبيل الوحيد أمام تيريزا. هي ترى الظلم وتدركه ولكن ليس في وسعها صده عن غيرها، ولا تأمل إلا في إنقاذ نفسها والاستمتاع بالحرية ما بقي لها من عمر.
فيلم مدهش حقا ولا نحلم بمشاهدته في دور العرض المحلية التي تحتكرها سينما هوليوود والسينما المصرية حصريا ولا ادري ما المغزى من هذا الاحتكار الخانق …لقد اعجبتني فكرة السرد وخاصة بتحديد عمر ال77 لأنه بالفعل عمر مفصلي في حياة الانسان؟!