فيلم «بعد الحب» والحياة المزدوجة

يتناول الفيلم نتائج الحياة المزدوجة للأشخاص وقرنائهم من الشركاء، وهو أمر مطروق سابقاً، تم معالجته سينمائياً مع من يمتلكون حياة سرية شخصية، إنما مع شركاء يشتركون بذات العينة الاجتماعية والانتماءات العرقية والدينية، على سبيل المثال أولئك الذين لديهم تحفظات أمنية لعملهم مع جهات استخباراتية، أو يعملون بأعمال غير شرعية كتجارة المخدرات والدعارة، أو أصحاب الانحراف المسلكي الصامت وما سواها، وتتفاجأ عوائلهم بمخرجاتها وانعكاس ذلك على حياتهم المستقبلية بعد رحيل الشريك، وما يترتب عليها من إشكاليات وتعقيدات، ما يتسبب بجملة من الصدمات والأذية للمشاعر الشخصية وما يترتب عليها من تعقيدات عائلية لاحقة.
أما في هذا الفيلم سنجد الموضوع يأخذ بُعداً مختلفاً وأكثر حساسية، حين يتعامل مع خصوصية مهاجر باكستاني مسلم، خصيصاً فيما يتعلق بخصوصية هويته الدينية الشخصية التي تسمح بفكرة التعدد للزوجات، فعلى الرغم من أن القوانين الدستورية الغربية لا تقونن فكرة التسامح مع الأحوال الشخصية المتوافقة مع ما تؤمن به تلك الأفراد من معتقدات دينية- من مثيل الجمع بين الزوجات- إلا أننا في تفاصيل الفيلم سنجد كيف أنه يمكن الالتفاف على تلك القوانين، ولكن تأثير ذلك سيكون له ما له من انكسارات قاسية تترافق بالإحباط ومشاعر الإشباع بالخديعة والانكسار والريبة والخوف والغضب على الشريكة والزوجة التي تفاجأ بالموت الذي باغت زوجها بدون انذار، تماماً كما هي الحياة السرية الأخرى التي ستكتشفها عنه بعد البحث في متعلقاته.

العادات السلوكية

تبدو الزوجة الإنكليزية، متشرّبة للعادات السلوكية لزوجها، فقد آمنت بدينه الإسلام، ومارست فرائضه، ولبست الحجاب، ويظهر ذلك بالتفصيل عبر مشاهدتها تلتزم بأداء خطوات الوضوء والصلاة -مع نواقص بسيطة- حتى أننا نسمع نطقها لتلاوة الفاتحة كأقرب ما يكون للغة عربية معقولة لسيدة غربية، ليست العربية لغتها الأم، وتعدى ذلك لنجدها ملتزمة بلباس الزي الباكستاني أيضاً.
أكثر من ذلك سنجدها قد تشربت طريقة زوجها بتناول الطعام وانخرطت بنمط حياته الأسرية وما يرتبط ذلك مع دائرة أحواله الاجتماعية المقترنة مع إيمانه كالأعياد والمناسبات، هذا القرب الشديد وإصرار المخرج عليم خان المقصود -هو من كتب النص أيضاً- على ذكر التفاصيل للمشاهد الغربي، الذي يبدو بشكل أولي أنه خيار انفعالي عاطفي اتخذته الزوجة تأثراً بمحبتها لزوجها فقط، يطرح سؤالاً جوهرياً في الفيلم حول حقيقة إيمانها واحتمالية تمسكها بضفة إيمانها الجديد، أم أنها ستتأثر كأنثى غربية جريحة بفعلة زوجها وحياته السرية فتنقلب على الاسلام؟
هل ستتعدى آثار فعلة زوجها مرحلة الغضب وستبحث عن أسباب جعلت زوجها يقوم بهذا الفعل؟
هل ستراجع نفسها بإجراء مقارنات مع شريكته الثانية ذات الجنسية الفرنسية، والتي تعيش وراء الضفة الثانية لبحر المانش، والتي تبدو جسدياً أكثر منها لياقة فيزيائياً لتضع لزوجها الراحل، الذي أحبته فعلاً، بعض العذر فيما فعل، خصيصاً أنها لم تنجب له الطفل المنتظر؟

الذكريات والتفاصيل

بعد الفقد المفاجئ، تنتقل الكاميرا في زوايا المنزل المثقل بالذكريات والتفاصيل وتشرح شيئاً عن حياة الزوج الفقيد، التي تتسم عموماً بالدفء والبساطة والمشاعر الخفاقة تجاه زوجته، يغيب أي حوار في هذه المرحلة، ويستعاض عنه بالسرد البصري عبر رصد الكاميرا للتفاصيل والذاكرة الراجعة صوتياً والتي ستصادفها الزوجة المكلومة، وشيئاً فشيئاً سيتبدى لنا عن حياة زوجها القبطان البحري، ونسمع صوته الندي يخاطب زوجته برقة وعاطفة وحرص، ثم نشاهد أثراً لعلاقة أخرى في الطرف الآخر من بحر المانش، على ضفة مدينة كاليه الفرنسية، ولتبدأ مغامرة الزوجة المكلومة والمصدومة، للبحث وراء خصوصيات زوجها الراحل وهي تترك وراءها سفحاً ثلجياً رمزياً يتهاوى من الأسرار.
ليس عبثاً اختيار الكاتب والمخرج، عليم خان، لمدينة كاليه واقحامها في الفيلم ضمن خصوصية الزواج الأجنبي، فهي نقطة جغرافية رمزية يتمركز فيها المهاجرون في الطرف الفرنسي، ينتظرون الوقت المناسب كي يهاجروا للضفة الأخرى في بريطانيا، حيث المستقبل السعيد المنتظر.
في المقلب المقابل، نجد الزوجة الفرنسية لطيفة المظهر، هادئة، ولكنها ليست ملتزمة بعلاقة واحدة مع الشريك، على اعتبار أنها تعرف بأمر زواجه، المفترض من باكستانية أخرى، وهي تلتزم بعدم تجاوز القانون! ولكنها في الوقت نفسه لا تجد نفسها مضطرة للالتزام مع شريكها والد ابنها المراهق، الذي يتضح أنه شاذ جنسياً، ومضطرب في علاقته مع والدته بسبب معرفته لعلاقاتها المفتوحة، وما يتسبب ذلك له من إحراج أمام أصدقائه، وهنا يبرز سؤال عن الضرر الذي سببه القانون الذي يمنع التعدد، ويبيح بالمقابل العلاقات المفتوحة، مادامت بالتراضي، بالتوازي مع الضرر الذي تسببت به الحياة السرية للزوج على زوجته، ما جعل العلاقة بين أطراف الحالة الأسرية أمراً معقداً لا يمكن حله بطريقة بسيطة.

حمى المنافسة

ضمن الفيلم نجد لقطات إنسانية يتم تجاهلها عموماً ولا يتم التركيز عليها، عن اشتعال حمى المنافسة لـ”امتلاك” الزوج، سواء عاطفياً أو رسمياً في سجلات الدولة، ويظهر هذا جلياً عبر تأجج مشاعر الغيرة لدى (فهيمة أو ماري)، حين قامت بالتخفي والتسلل لحياة “ضرتها الفرنسية ” لتستقي منها بعض ما كان زوجها يرويه عنها، تكاد تأكلها غيرة بدائية (لن تتطور لأنها فطرية) في أبسط أشكالها، في حين أننا وعلى الضفة المقابلة نجد أن “المشاركة” بالرجل أفضل من “تملّكه” بحسب العشيقة الفرنسية! فهل هذه هي رسالة الفيلم؟ هل المرأة التي نشاهدها والتي لا تقبل شريكاً في زوجها، هي امرأة واقعية؟ أم أنها لابد أن تكون براغماتية في أوضاع ما!
يتخلل الفيلم لقطات تسجيلية للزوج الراحل، والسؤال يصبح عندها هو هل تحتفظ كلتا المرأتين تجاهه بمشاعر الود والمحبة ويظل رجلهم الذي أحبوه، في مرحلة ما بعد الحب، ممثلاً بالموت، الذي تتساوى في أطرافه معادلة الحياة؟ أم أنه أصابهم في نقطة ضعفهم، ممثلة بعاطفة الحب المتقدة، وأطفأ هذه المشاعر بفعلته تلك؟
حصلت الممثلة البريطانية جوانا سكانلان على جائزة البافتا (ترشحت لها ست مرات وفازت بواحدة فقط) عن أدائها المميز والبارع في هذا الفيلم، وقد استعانت بوالدة المخرج والكاتب المزدوج الجنسية، التي سبق وخاضت تجربة مماثلة لاعتناق الإسلام والزواج من مسلم، وكذلك عبر البحث عن متاعب تخوضها أم لمراهق لديه مشاكل في الاندماج أو الذوبان في بيئته الجديدة، وتصادف أنها أم سورية مسلمة، لتحاكي فكرة التعامل مع ابن زوجها وما يعانيه من اضطرابات في مرحلة مراهقته، فهل ستكون علاقتها به في الفيلم ندية أو مثالية أم أنها ستكون علاقة معقدة؟
هذه الجائزة (البافتا)هي نظيرة الأوسكار الأمريكي، وهي عبارة عن قناع مسرحي تقدمه الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون لتكريم أفضل الإسهامات البريطانية والدولية في الأفلام
في الختام، ومن على الجرف الصخري الذي لا ينبغي الاقتراب منه كثيراً، ذلك الذي يفصل بين فرنسا وانكلترا، تركت كاميرا عليم خان هناك ثلاثة قلوب تحاول النجاة من وقع الصدمة والدهشة التي تسببت بها الحياة السرية للقبطان الباكستاني الراحل عقب وفاته المفاجئة، وكذلك تمنحنا كمشاهدين فرصة لنطرح افتراضية بديلة عن الجدلية التي طرحها الفيلم، ولنسأل هل فعلاً ينبغي الالتزام بشكل صارم بما يأمر به القانون أم أن هناك فسحة مرنة يمكن اتمامها بين الأطراف في العلاقات البينية الخاصة، يمكن العبور منها لنتائج أقل ضرراً على نسيج العلاقات البشرية خصيصاً ما يتعلق منها بالحميمية وما يتشعب عنها لاحقاً من ذرية بشرية!

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية