فيلم بينوكيو في حلته الجديدة لكل من الكاتبين غيلرمو ديل تورو وباتريك ماكهيل مستندين بمعالجة درامية أكثر عمقاً عن القصة الأصلية للكاتب الإيطالي كارلو كولودي الذي ابتدع فكرة الطفل الخشبي ذي الأنف الطويل -التي ابتكرت فكرة استطالة الأنف الخشبي كلما كذبت الدمية بينوكيو لمحاربة الكذب عند الأطفال- وقام بإخراجه كل من المبدع المكسيكي غيلرمو ديل تورو والأمريكي مارك غوستافسون.
يحتوي الفيلم على راو للأحداث، من فئة حشرات الجنادب، وهي الجراد صاحب السمعة السيئة بقضم كل ما حوله من غطاء نباتي أخضر، ويقال عنه أنه الوباء الكاسح للمحاصيل الزراعية، حيث أنها تجتمع في تجمعات كبيرة لا تبقي وراءها ولا تذر، ولكن الجندب في الفيلم من فئة الكتّاب أصحاب الذائقة الرفيعة في كتابة الروايات والأدب، وعبره سنتعرف على قصة مؤلمة من قصص تاريخ الحرب العالمية الثانية، الممزوج بالمتعة والتعليم لليافعين، حيث يسكن بالصدفة في جوف الدمية ويكون ضميره الحي، والشاهد والناصح له.
الفاشية الإيطالية
يبدأ الفيلم من قرية جبلية إيطالية صغيرة ترزح تحت الفاشية الإيطالية برعاية موسوليني، ولأن القدر له ترتيب خاص به، وبالرغم من كون القرية بعيدة عن مضمار خوض الحرب العالمية الثانية، وتبادل تجاذبات الحرب ونتائجها، تتعرض القرية لقصف غير مقصود، يفقد الفنان والنجار، ابنه اليافع كارلو في هذا القصف الذي لا يراعي حرمة للأماكن المقدسة!
لم يشفع لوالد كارلو أنه المسؤول عن ترميم كنيسة القرية في شيء، فأصيب باكتئاب ما بعد صدمة فقد فلذة كبده، حتى استعطفت حالته البائسة، من منحه فرصة جديدة عبر (كائن أسطوري) ينفخ الروح في جذع شجرة كي تؤنسه وتكون بديلاً عن ابنه “كارلو”.
في لحظات ما بعد دبّ الحياة في أطراف الدمية الخشبية، يتصرف بينوكيو كالأطفال تماماً، فهو نشيط لا يهدأ، مفعم بالحياة ومقبل عليها، يحب الاستفسار والسؤال وتجريب كل شيء جديد، لدرجة التسبب بالضيق، لكثرة ما يتسبب به من إرباك لأبيه الذي يحاول أن يمتص طيشه ويقلص من حركته المستمرة.
الحصول على الروح
يبدو بينوكيو فيزيائياً، جسداً نحيلاً وهزيلاً، ولكنه مبهج ويجلب المسرّة، ويشابه السيد المسيح المعلق على الخشبة – من حيث الربط المقصود الذي تقصده كاتبو القصة- حتى أن المسامير تظهر على كتفي بينوكيو بشكل متعمد، ويبدأ بينوكيو بالتساؤل عن كيف يُقبل الناس على المسيح المعلق على الخشبة ويحبونه ويتوددون اليه ويذرفون الدموع بجواره -بالرغم من كونه مصنوعاً من الخشب مثله- لكنهم لا يبدون ذات المشاعر تجاهه، ويجدونه بالمقابل مخلوقاً غريباً! بالرغم من أنهم يتشابهان كونهما جسدين ينتظران الحصول على روح مجدداً! ولعلّ في هذا دلالة أدبية فنية أن بينوكيو معلّق على خشبة الحياة ويعاني من شرورها التي تعرّض فيها الإنسان للقسوة ويعاني الفقد والحرمان، بينما ينتظر المسيح المعلق على الصليب العودة للحياة مرة أخرى وهو في مذبح الكنيسة، ينتظر أوان عودته.
سرعان ما يصبح بينوكيو مثار اهتمام الجميع في القرية الصغيرة، لكن كلا يريده لاستخدامه حسب ما يرغب، وما سيلبي له ما ينفع مقصده وما يريده من الحياة، خصيصاً حين يعلمون أنه يمتلك القدرة على الرجوع من الموت، ويتخطّفه كل من “صاحب السيرك” و “البوديستا”.
صاحب السيرك
صاحب السيرك، الشخصية القاسية التي تحب ابتزاز جهد الآخرين لتحقيق الأرباح وزيادة المكاسب، والتي تتصف بالنفاق والتزلف لكبار رجالات الدولة في تلك الفترة، من يتقرب للسلطات عبر الترويج لسياساتها ضمن فقراتها الفنية، يود الحصول على بينوكيو لتحقيق أحلامه باستقدام الكثير من الجماهير لمشاهدة الدمية التي تتحرك دون خيوط تتحكم بها، ولكنه سيكون بديلاً عن تلك الخيوط في تحويل انتباه بينوكيو عن المدرسة التي تعاكس برأيه الحياة وعيش التجارب.
من جهة مقابلة سنجد شخصية “البوديستا” وهي شخصية ترمز لحقبة الحكم الفاشية التي بموجبها عينت السلطات لها رؤساء بلديات عسكريين في البلدات الإيطالية يتبعون لسيطرتها وينفذون سياساتها ويقومون بمقام الحكام العسكريين، ويسيطرون على كل مناحي السلطة في تلك المدن.
يفضل البوديستا أن يدخل بينوكيو المدرسة، حيث يمكن قولبة فكر الأطفال والسيطرة عليهم وتمرير الفكر الفاشي ضمن أبجديات تربيتهم الأساسية ليكون الأطفال فيما بعد جنوداً أوفياء للفكر الفاشي ينفذون أوامره دونما إبطاء ولسهولة السيطرة لصناعة المزيد من النسخ المتطابقة، من الأطفال واليافعين، التي تتماشى مع نظرة من يديرون شؤون البلاد من الفاشيين.
يوظف صاحب السيرك الحيل القانونية، للإيقاع ببينوكيو، فيحتال عليه -ونتيجة لجهله بالقراءة- يحصل على توقيعه على عقد احتكار يدفع بموجبه غرامة كبيرة في حال نقضه لشروط العقد -يشبه العقد الطويل جداً، العقود التي نوقع عليها حين نقوم بتنصيب أحد البرامج البرمجية على أحد الأجهزة- ولأن العقد طويل جداً ومكتوب بحجم خط صغير، يوافق الموقّع دونما أن يقرأ التفاصيل، وحين يقع الخلاف، تظهر التفاصيل لتطفو لصالح من كتب العقد وتحقق مصالحه وتمنع تأدية حقوق المستخدمين الموقعين عليه بموجب القانون.
يبدو بينوكيو شخصية فريدة بذاتها، فهو مثير للاهتمام، يمتلك الموهبة والذكاء، ويتصرف بطريقة واعية تماماً عن كونه لا يريد أن يكون نسخة عن كارلو، ابن الفنان الذي صنعه، ويدخل في تفاصيل الحكم عليه كما لو أنه يتوجب عليه أن يتصرف ككارلو، إنه طفل لا يريد أن يقيده أحد أو يسجنه أحدهم في تصورات يرسمها عنه ليكون بديلاً عن أحد آخر، إنه لا يريد أن يكون عبئاً على أحد ولهذا سيتصرف على هذا الأساس.
المعضلة الأخلاقية
يروي الفيلم عن تفاصيل المعضلة الأخلاقية التي يرتكبها كثير من الآباء حيث يقولون أشياء ثقيلة الوطأة على مسامع أبنائهم، حتى وإن كانوا لا يعنونها أو يقصدونها تجاههم، ومن قبيل ذلك تتم المقارنة بينهم وبين أولاد آخرين، بقسوة وفظاظة، مع أن الأطفال مختلفين من حيث الإمكانات ومن حيث الظروف ومن حيث الرغبات الخاصة بكل منهم، وهذا يتسبب بالكثير من الألم للطرفين، ويأتي الفيلم ليخبرنا عن أب تعوزه الحكمة بتربية ابنه، فيتسبب ببعض المشقة لطفله غير الناضج، بالرغم من أنه يحبه حباً جماً.
تجنيد الأطفال في الحروب
يحمل الفيلم رسالة واضحة ضد تجنيد الأطفال في الحروب، فهم “لا يحملون قلوب الرجال في أجسادهم البضة” ويقدم رسالة مباشرة وفق أسلوب غنائي ترفيهي، وقصصي تعليمي، أنه ضد الفاشية الوطنية التي كان عنوانها “المجد لإيطاليا” التي كانت توظف كل شيء من كبار وصغار ونساء وكبار ورجال دين وثقافة وفنون وعلوم، ومقدرات زراعية وصناعية وفنية وثروات، لصالح الدولة الشمولية والتي ترسخ لمنظور الدكتاتورية المسممة بمثل هذا الفكر العقيم، في مرحلة كانت سبباً بالكثير من الاضطرابات السياسية والاقتصادية وتسبب بالكثير من الخسارات المادية والبشرية داخل إيطاليا وخارجها في مرحلة قاتمة من تاريخ الإنسانية.
على خلاف ما سبق من نسخ سابقة لبينوكيو سيكون الكذب فكرة مبتكرة ومنجاة من مهلكة كبرى، ولكنه لن يكون كذباً ضاراً، بإطار رسوميات بسيطة غير متكلفة، جميلة وتجذب الانتباه، يتخللها بعض الفقرات الغنائية التي تلبي جوهر رسالة الفيلم وبقالب من المغامرات الجميلة والتشويق الذي يسرق البسمة تارة، ويخطف الدموع من مآقيك تارة أخرى.
كاتب سوري