بين «مايكل شوماخر» (1969) و»آيرتون سينا « (1960-1994) علاقة كبيرة؛ تبدأ بإعجاب مايكل وهو فتى حالم بموطئ قدم في عالم رياضة الفورمولا واحد، بآيرتون سينا الذي كان بطلاً يهيمن على هذه الّرياضة مطلع التسعينيات، وقدوةً لكلّ من أراد دخول الحلبة السريعة يوم ما، ثم تنافسهما الشّديد الذي انتهى بوفاة سينا في سباق سان مارينو عام 1994. العلاقات عادت لتَظهر من جديد بعد إصدار منصّة نتفليكس فيلماً وثائقياً عن حياة مايكل شوماخر، وهو حدث استدعى أيضاً الفيلم الوثائقي عن «سينا» الذي أخرجه آسيف كاباديا عام 2010، فانتقل التنافس الآن من الحلبة إلى السينما، كما أبرز الفيلم الخطّ الذي تسير فيه وثائقيات الرياضة الحالية، التي صارت مكتفية بالقصص المتحكم فيها، وهو أمر غير حاصل في فيلم سينا.
يجب أن لا نُبعد عن البال، هاجس الترويج لرياضة الفورمولا 1، الذي يقف خلف إنتاج الفيلم في هذه الفترة وليس قبلها، فالاتحاد الدولي للفورمولا يقوم منذ سنوات بمحاولات مختلفة عن السابق لتوسيع دائرة جمهور هذه الرياضة؛ منها تعاقده مع منصة نتفليكس لإنجاز سلسلة وثائقية عن مواسم الفورمولا، يتم طرح كلّ موسم مضى منها قبل انطلاقة موسم جديد، هي سلسلة جميلة ساهمت ولا شك في تعريف الجمهور غير المهتمّ بهذا النشاط بعالم السائقين والسباقات ومختلف كواليس هذا العالم. ثمّ يأتي رهان خاص لنتفليكس نفسها التي تطارد سير أشهر الرياضيين لتصنع منها أفلاماً وثائقية وروائية؛ من كرة قدم إلى كرة السلة والفورمولا… وقد استطاعت تكوين مكتبة مهمة تميزها عن غيرها من المنصات، لكن بقيمة فنية متذبذبة، بلغت أقصى بريق لها في سلسلة «الرقصة الأخيرة» عن سيرة «مايكل جوردن» وفقدت بوصلتها في أعمال أخرى آخرها سيرة لاعب كرة القدم الإيطالي «روبيرتو باجيو». أفلام نتفليكس هذه، لها عيب واضح ومكشوف وهو اعتمادها على المرويّ المباح، أي السير الذاتية التي يتحكّم فيها أصحابها.
في أغلب أعمالها نلاحظ ذاك القفز على لحظات الخطأ والسقوط التي ميزت حيوات هؤلاء الأبطال، باعتبارهم بشراً لا ملائكة، الفلتة التي حصلت في عالم وثائقيات النجوم في العقد الأخير كانت في ثلاثية المخرج «آسف كاباديا» (سينا، إيمي وانهاوس، مارادونا) وجميعها احتفظت بحقّها في الوصول إلى الزوايا المعتمة في حياة هؤلاء النجوم، الموت المفجع بالنسبة لسينا، الكحول في حالة إيمي، والكوكايين بالنسبة لماردونا. وهذه الجوانب كما نعلم كانت إحدى نقاط القوّة في الأفلام المذكورة.
لقد عمل ثلاثة مخرجين ألمان لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة على سيرة مايكل شوماخر، بالتعاون مع عائلته، ومَكننا الأمر في النهاية من أرشيف صور وأفلام خاصة بالعائلة، الكثير منها يُعرض لأوّل مرة، نتعرف على مايكل الصغير عندما كان والده «رولف» يدير مضمارا للكارتينج؛ وهناك ظهر ولع الفتى بالسياقة والسرعة، يعرض الفيلم صورة لمايكل الصغير البالغ من العمر أربعة أو خمسة أعوام، وهو يقود عربة صغيرة بطريقة تفصح عن حب وموهبة، وحوار له يبين عن شخصية عظيمة قادمة، بعدها يتتبع الفيلم بداية مايكل مع فريق «كاميل بينتون فورد». الخيار هنا، أخذ الحياة المهنية لشوماخر من بدايتها، منذ سباقه الأول على حلبة «سبا ببلجيكا» عام 1991، الحظّ يبتسم للفتى بعد انسحاب أحد سائقي الفريق، ويستطيع خطف الأضواء منذ يومه الأول، تسير الأحداث متابعة مسيرة البطل بين لحظات نجاح وإخفاق، وانتقاله التاريخي إلى فريق فيراري، وتوقّفٍ كبير عند لحظة وفاة سينا. المشاهدة ممتعة في أنحاء كثيرة من الفيلم، هناك عاطفة في استحضار ذكريات المشاهدين عبر سلسلة من المقابلات، وتجميع لحوارات مع منافسين وزملاء سابقين لمايكل، انتصاراته مع فريق فيراري التي يفتقدها جمهور الحصان الجامح اليوم، وبين الحين والآخر يأتينا صوت شوماخر موظّفا بذكاء من خارج الإطار.
هناك جملة عاطفية لشوماخر أثناء كلام له عَقب حادث سينا، يقول فيها: «إنّه في غيبوبة فقط والغيبوبة لا تعني شيئا». كانت هذه الجملة لتحقّق نهاية أفضل للفيلم، في ظلّ ما تعنيه بالنسبة لحالة شوماخر.
عدا ذلك تخيب الانتظارات الكبيرة، وأهمها محاولة فهم حيثيات الحادث الذي تعرّض له شوماخار في ديسمبر/كانون الأول 2013، أثناء التزلج في جبال الألب الفرنسية، فقد مرّت أكثر من ثماني سنوات منذ أن رأى أو سمع أي شخص خارج الدائرة المقربة له جديدا عنه، وظلّت المستجدات بشأن تطوّر حالته منذ ذلك الحين غامضة ونادرة. الحادث الرهيب يُشكّل فصلا مهمّا من حياة شوماخر، الفيلم تفادى الصدمة واكتفى برواية العائلة، لكن ما الإضافة؟ فرغم مأساوية حادث مايكل، إلاّ أن الفيلم لا يجد طريقة مناسبة لتناوله، بحيث تُبقينا الدقائق الأخيرة، في بيت شوماخر، تسرد زوجته كورينا، وابنه وابنته ذكرياتهم معه، الكلام عن الحادث بدا أقلّ من المنتظر، وسَلَب سيرة عظيمة نهاية جميلة، الفيلم من هذه الناحية يفقد صوت الإخبار، وهو جانب مهم في الوثائقيات، إلى درجة أنّ من لا يعرف شيئا عن الحادث المروع الذي تعرّض له البطل، لن يكون له حظّ في العثور على ذلك في الفيلم، وهذا بُخل يتجاوز حتما حجّة الخصوصية التي تخبرنا بها زوجة مايكل في نهاية الفيلم، هناك مبالغة في جانب مدّنا بمعلومات عن حالة بطل العالم، لكن في المقابل يبدّد الفيلم أكثر من عشر دقائق في تمرير الكلمة بين أفراد العائلة (الزوجة، الابن، البنت) بطريقة متتالية، ضيّعت على العمل فرصة عظيمة لجعل النهاية أكثر دفئاً ورسوخا عن شخصية ربّما لن نشاهدها مجدّداً في هيئة عرفناها بها من قبل.
وباستحضار فيلم «سينا» أقرب النماذج من حيث الموضوع إلى فيلم شوماخر سنلاحظ أنّه لم يهب لحظة الموت باعتبارها محظورا، بل يخترقها بفنية منقطعة النظير، ويجعل منها لحظة سينمائية عظيمة وسحابة حزن جاثمة على النّفس، استطاعت الانفلات من كل المادّة المتوفرّة حول الحادث رغم اعتمادها عليها في المجمل، ترتفع هذه اللحظة من خلال موسيقى «أنتونيو بينتو» إلى مستوى حزن كوني، يتردّد صوت دكتور الفورمولا «سيد ويتكينس» بصوت حزين ومتمهّل «نزعت عنه الخوذة ليتنفّس، وبعد الكشف عرفت أنّ الجرح الذي أصاب رأسه كان مميتا.. تنهّد وسكن جسده، كانت تلك هي اللحظة، رغم كوني غير متديّن، علمت أنّ روحه تغادر» ثم ترتفع طائرة الهليكوبتر التي تحمل سينا في السماء بشكل عمودي قبل أن تلتّف وكأنهّا تصعد بروحه إلى السماء، كما يخلق فيلم سينا، جواً درامياً متصاعدا وكثيفا ومتسارعا، فهناك مادّة أرشيفية متدفّقة وكأنّها تحاكي طريقة قيادة سينا على الحلبة، حيث «لا حدود، لا خوف، لا مثيل».. اللحظات التي ميّزت حياته كلّها هنا وتوظيفها تم وكأنّها تشاهدها لأوّل مرّة.
كلّ هذه الأشياء مفقودة في «شوماخر» رغم تمكّنه من مادة حصرية كثيرة، لكنّها لم تقدّم إضافة، هناك نية معلنة بأنّ هناك حدودا لما سنقوله لكم. وهذا واضح لأنّ الفيلم هو العمل الوحيد الذي تدعمه عائلته بالكامل، فأصبحنا أمام ما تريد عائلته أن تراه عن شوماخر وليس ما يريد جمهوره. نهاية الفيلم المتكتمة تؤكد نوع المقايضة الحاصل بين منح حقوق توظيف السيرة، وما سيظهر فيها، إنّه أمر يحد من استقلالية المخرج ويقصّ من مساحة حريته، فلا نحصل بالتالي على نظرة محايدة لما حدث أو حتّى نتعمّق في جوانب معتّمة. هناك جملة عاطفية لشوماخر أثناء كلام له عَقب حادث سينا، يقول فيها: «إنّه في غيبوبة فقط والغيبوبة لا تعني شيئا». كانت هذه الجملة لتحقّق نهاية أفضل للفيلم، في ظلّ ما تعنيه بالنسبة لحالة شوماخر.
ناقد سينمائي من المغرب