أنطلقت فكرة الفيلم حين قرأت إليان الراهب اعترافات أسعد الشفتري عام 2002، وفيها أجاب عن بعض الأسئلة التي لازمتها بعد انتهاء الحرب الأهلية.
‘قرأت شهادته لكني أردت معرفة المزيد عنه وعن تجربته خلال الحرب اللبنانية؛ كيف أنّ إنساناً عادياً يستحيل مقاتلاً ومخططاً للحرب ويعود لحظة إعلان السلم إلى نقطة البداية، مواطناً عادياً’. لتكون ‘ليال بلا نوم’ هي الجامع المشترك الذي يدور فيه الفيلم لساعتين من الزمن ، بين مسؤول المخابرات السابق في القوّات اللبنانيّة، أسعد الشفتري، أحد أرباب الأجهزة الأمنيّة المسؤولة كمثيلاتها عن الإخفاء القسريّ، ومريم السعيدي المرأة التي لا تتعب من الأمل الواهن في البحث عن ابنها الفتى الذي كان مقاتلاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، اختفى إثر هجوم مسانِد للإسرائيليين شنّه مقاتلو القوّات اللبنانيّة على محور كليّة العلوم خلال الاجتياح سنة 1982. كلّ منهما يبحث عن خلاصه، هي من الألم وهو من الندم، وبينهما العديد من الشخصيّات التي تدّعي القدرة على ‘النوم’ في مجتمع لا يجد علاجا حقيقيّا لجراحه، ولا يحاول ذلك. تبدأ الحكاية بالضعف الشديد من مريم التي تحاول معرفة مصير ابنها في البدايات، ولا تزال تأمل في أن تعثر عليه حيا أو ميتا، أو أن تعرف ما حل به. في حين تبدو شخصية هذه الأم المنكوبة، على ما فيها من عاطفة مؤثرة، شبيهة بشخصية مئات النساء اللواتي فقدن أعزاءهن أثناء الحرب ولم يتوقفن عن البحث عنهم ومحاولة معرفة مصيرهم رغم مرور زمن طويل جدا على اختفائهم، ترتاح مريم للمقاطع التي تسمح لها المخرجة فيها بأن تترك مشاعرها تنساب، فلا تبخل عيناها بالدموع، ولا تتردّد في معانقة صورة ابنها. تبدو مريم واقفة في مكانها، تريد معرفة الحقيقة التي لا محكمة لها، ترفع صوتها في وجه مسؤول الإرشيف في الحزب الشيوعي، في وجه عارضي المساعدة المختلفة، في وجه المخرجة.
في المقابل يتعامل أسعد بهدوء، ويحافظ على صورته التي ترنو إلى الطهرانيّة، يتردّد في الاعتراف بالذنوب المباشرة، ينسى تفاصيل قتله لمخطوف بالسكّين، يتذكّر أنّه جاءه من الخلف لكن ينسى الباقي، يقول إنّه حاول أن يكون مثالاً للمقاتلين الأغرار، ويقرّ بأنّه لم يشعر بشيء حينها. ينظر إلى عين الكاميرا وكأنّه يقول: ‘ من كان منكم بلا خطيئة’
ينجح أسعد بتعاونه واستسلامه في احتلال حيّز أكبر من الفيلم، ويساعده تعاون عائلته، وبعض رفاقه القدامى، فيبدو الفيلم في مأزق الانحياز إلى جانب مستدعي الطهرانيّة على حساب المرأة التي تبالغ في طلب حقّ لا مبالغة فيه: أن تدفن ابنًا لها، أن تعرف إن مات في معركة أو قتل، هل عذّبوه؟ هل صاح يناديها؟’
المخرجة تلتقي أسعد الشفتري، تحاصره بالأسئلة، ويتعمد مصورها أن يحاصره داخل كادرات ضيقة، ويعترف الرجل بأنه قام بالقتل فعلا، بخنجر في يده، من دون أن يرى عيون القتيل.. ومع صورته، أيام الضلال، مع بشير الجميل، ثم مع زملائه، نلمس غرور وأوهام القوة المطلقة، ويعبر عما كان يؤمن به، من أفكار ‘فاشية’ فى جوهرها، فيجيد لعب دوره بامتياز في الفيلم، وتوحي إجاباته بدُربة واعتياد، وتختفي العفويّة عنده، ولا تتمكّن المخرجة من مباغتته وإخراجه عن طوره، بل هي من تخرج عن طورها وتطرده من السيّارة (ومع ذلك يتابع التعاون معها لاحقًا). وفي المقلب الآخر نجد مريم متعنّتة، يصعب الحوار معه. يتصاعد إيقاع الفيلم فى اللقاء بين مريم وأسعد، ‘دلّني على قبر ابني يا اسعد شفتري’ تصرخ مريم في الفيلم، فيما يبقى هو صامتاً. الرجل الذي يخضع لعلاج نفسي يكتفي بما قاله ‘وما لم أقله يخصّ آخرين’. ليس مضطراً لتحميلهم ما لا يريدونه لأنفسهم. لكن إليان لا تيأس، تبحث عن مقاتل سابق يوافق على قول ما يعرفه، شرط عدم مواجهة الكاميرا وعدم مواجهة مريم. تصطحبه إليان إلى مبنى كلية العلوم، فيروي تفاصيل المعركة التي تحفظها روزنامته. يشير بيده إلى المكان الذي دفنت فيه الجثث، ولاحقاً تشير إليان بيدها إلى المكان لتدلّ مريم إليه… ومن خلال شهود آخرين، يكشف الفيلم عن مقبرة جماعية ثانية في الكرنتينا. تتسع دائرة الفيلم، المنسوج بدأب ومهارة، لتشمل المحيط البشري لأسعد ومريم.
‘رفيق’ ماهر في الحزب الشيوعي، شوقي حسان، يتذكره جيداً. يروي لكاميرا إليان أين كان متواجداً وما كانت مهمته تلك الليلة. الحزب الشيوعي يعرفه أيضاً، وقدّم ورقتين لوالدته عنه، تفيد الأولى بأنه مفقود والثانية أنه شهيد. أما قائد العمليات العسكرية في الحزب آنذاك، الياس عطاالله، فلا يتذكر الفتى. ولا يعرف شيئاً عما حصل في كلية العلوم! ‘حقيقة ما بعرف شي’ يقول وهو يحاول إشعال السيجار مراراً. عندما تعرض صورته عليه، ينفي أن يكون ماهر قصير مقاتلاً في الحزب ”لا لم يكن مقاتلاً، السلاح كان منتشراً وهو راح يقاتل’. يستغرب سؤال الراهب عن معركة محددة ويوم محدّد في حرب طويلة شملت لبنان ‘لا روزنامة محددة عندي للأيام، عندي روزنامة للأحداث الكبرى. أنت ليش بدّك تعرفي قصة العلوم؟’ يسأل.
الحقيقة أن مريم السعيدي، والدة ماهر، هي من يريد أن يعرف. تحاول ذلك منذ ثلاثين عاماً ولم تنجح. ‘الياس عطاالله صار حليفاً لمن اقتحم مبنى العلوم’ فهل يمكن أن يسألهم عن مصيره؟ من هم الذين كانوا أعداءك يومها؟ يُسأل فيجيب ‘نسيناهون’.
أبو جعفر وعقل حمية، ابنا حركة أمل، لا يذكران ماهر تحديداً، ‘لكن الشباب الذين كانوا هناك ضاعوا وما انعرفوا وينن’.
أسوأ ما يظهر الفيلم هو أن ما نراه ليس سوى حقيقة 17000 مأساة. وأن الحقيقة ما زالت نسبية والروح القبلية ما زالت طاغية والانتماء للطائفة واقع لم تهتزّ ركائزه حتى اليوم. وأجمل ما فيه زوجة الشفتري التي ‘شعرت أنها كالفلسطينيين’ حين تهجرت مع زوجها هرباً بعد انقسام القوات. والمطران الأحمر غريغوار حداد الذي يبعث أملاً لامتناهيا ربّما يعوّل عليه فيعترف الشفتري وأمثاله ليبرد قلب أم ماهر وأمهات المفقودين.
فيلم ‘ليالٍ بلا نوم’. حائز على جائزة أفضل وثائقي في مهرجان Birds Eye View في لندن، وجائزة النقاد لأفضل فيلم في ‘مهرجان الإسماعيلية’ في مصر.
طاقم العمل والتمثيل
إخراج:’اليان الراهب
إنتاج: نزار حسن’
تأليف:’نزار حسن
تصوير:’جوسلين ابي جبرايل، ميار الرومي.