كان ـ «القدس العربي»: في فيلمه الجديد «نسور الجمهورية»، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الثامنة والسبعين (مايو/آيار 2025) يقدّم المخرج السويدي/المصري طارق صالح، ما يُقصد به أن يكون نقدا لاذعاً للنظام المصري وتمرداً سينمائياً على نظام قمعي، لكن النوايا الحسنة لا تصنع فيلماً جيداً. يسقط الفيلم كحجر ثقيل لا يصيب هدفه، ونشاهده من بدئه لنهايته، دون أن نجد فيه صدقاً ولا تناولاً متعمقاً لقضية مهمة وملحة، مثل التصدي لجور واستبداد النظام المصري، ولا رؤية سينمائية واضحة.
بيد ثقيلة وبدراما غير مقنعة يتناول صالح في «نسور الجمهورية»، الحكم الاستبدادي في مصر الراهنة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. هذا العمل، الذي يُعدّ الفصل الأخير مما يسميه صالح «ثلاثية القاهرة» بعد «حادثة النيل هيلتون» (2017) و»ولد من الجنة» (2022)، يتخذ من عالم السينما نفسه مسرحاً لتناول علاقة الفنان بالسلطة، في ظل نظام قمعي وكيف يمكن أن يتحوّل النجم إلى أداة ترويجية تحت تهديد النظام.
الشخصية المحورية للفيلم هي جورج فهمي، النجم الشهير الذي يُلقب بـ»فرعون الشاشة»، يؤدّي دوره الممثل اللبناني فارس فارس، الذي كان أيضا بطل فيلم «حادثة النيل هيلتون»، بلهجة مصرية غير متقنة تزيد من عدم قناعتنا بأدائه للدور.
يعيش جورج حياة مترفة بامتياز، من شقة فاخرة وعلاقات عاطفية، ولكنه يعاني من تدخل الرقابة على المصنفات الفنية في أفلامه، ويحاول إخفاء معارضته السرية للنظام حتى لا يتم التضييق عليه، ويوضع اسمه في القائمة السوداء للنظام، فلا تعرض عليه أعمال. كما هو واضح من الإسم، جورج مسيحي ولكنه منفصل عن زوجته، ويعيش مع صديقته، ويحاول أن يبقى على علاقة مع ابنه الطالب الجامعي.
تتغير المعادلة عندما يتلقّى جورج اتصالاً من جهات عليا تطلب منه لعب دور الرئيس عبد الفتاح السيسي في فيلم من إنتاج جهة إعلامية على اتصال وثيق مع السلطة، وجهاز المخابرات. يحاول جورج التملص والمراوغة، ظناً منه أن الأمر قابل للنقاش، فيرفض بذريعة فنية ساخرة: «أنا لا أشبه السيسي.. هو أصلع وقصير!» لكن هنا يتكشّف أن النظام لا يطلب، بل يأمر. وتدريجياً يجد جورج نفسه مضطراً لارتداء البزة العسكرية المزينة بالأوسمة، والدخول في عملية تصوير لا تشبه أي عمل فني قام به سابقاً. يفترض بالفيلم داخل الفيلم أن يصبح محاكاة لمأساة الفن تحت قبضة السلطوية، حيث تُفرَض الأدوار وتُراقَب الحوارات، لا بحثاً عن جودة درامية، بل لضمان الولاء الكامل للراوية الرسمية.
لكن فيلم طارق صالح، رغم نواياه الحسنة، يمر هكذا دون إقناع، ودون بنية قوية، ودون صنعة سينمائية واثقة. كل عناصر الفيلم تبدو لنا ملفقة، فلا مصر هي مصر التي نعرفها، ربما لأن صالح لم يتمكن من التصوير في مصر لأسباب رقابية، ولا الممثلون مصريون، أو حتى يتقنون اللهجة المصرية، بل نضيع بين مزيج غير متقن لمحاولات للتحدث باللهجة المصرية، ولا يبدو الحوار صادقا أو معبراً بحق عن المجتمع المصري. على موقع التصوير، تظهر شخصية الدكتور منصور، الذي يلعب دوره عمرو واكد، كممثل للسلطة في شكله الناعم، هو ليس مخرجا، بل هو مشرف سياسي، يعلّق على أداء جورج بأنه «سيئ»، ليس من زاوية فنية، بل لأنّه لا يخدم الرسالة الدعائية بالشكل المطلوب.
ينتقل جورج إلى مرحلة أكثر خطورة حين يُدعى إلى عشاء رسمي في بيت وزير الدفاع، حيث يتعرّف على مجموعة من «نسور الجمهورية»، وهم نخبة من المسؤولين الذين يقدّمون أنفسهم كحرّاس الوطن، لكنهم في الحقيقة حراس النظام وقوة ردعه. هذا الجزء من حبكة الفيلم، إن صح لنا أن نطلق عليها حبكة، يبدو مهترئا مليئا بالثغرات، فالنظام الديكتاتوري يحمي ذاته بذاته، ولا يقبل من هم من خارجه، فكيف لهم أن يقبلوا وسطهم نجما ممثلا لا علاقة له بالآلة الاستخباراتية أو الأمنية أو العسكرية للدولة. في هذا الجو المشحون، يظهر عنصر إغراء جديد، وهو سوزان، زوجة أحد أبرز الوزراء، المثقفة خريجة السوربون، التي تأسر جورج بعقليتها وجرأتها، فيعجب بها ويبدأ علاقة معها، في خيار متهور يُنذر بعواقب سياسية وخاصة.
ينتفي المنطق، أو حتى محاولات الإقناع بالجدية في الجزء الثالث من الفيلم، عندما يُطلب من جورج إلقاء كلمة في حفل تخرج طلبة الكليات العسكرية، بناء على طلب من الرئيس ذاته، وفي عرض يحضره الرئيس. وعندما يؤدي جورج التحية العسكرية للرئيس وينهض الجميع، تجري عملية اغتيال للرئيس وكبير قيادات الجيش، في محاكاة لعملية المنصة التي اغتيل فيها الرئيس المصري محمد أنور السادات.
منذ تلك اللحظة يفقد الفيلم أي محاولة للتماسك، كما لو أن صالح فقد تماماً السيطرة على الفيلم، تتشابك الأحداث بصورة غامضة، خالية من الوضوح أو الحبكة، تضيع التفاصيل والأسئلة تتكاثر: ما الدور الحقيقي لجورج؟ من خطّط للانقلاب؟ وكيف انتهى الأمر إلى هذا المشهد العبثي؟ يبدو لنا ان اغتيال الرئيس فكرة راقت لصالح، ولكنه لم يخطط لما سيأتي بعدها في سردية الفيلم، ولم يوضح قط أسباب انقلاب بعض القيادات الأمنية عليه. الجميع في السلطة منتفع من الرئيس فلماذا يحاولون التخلص منه؟ ولا يصور الفيلم مطلقاً أن الاغتيال جاء على يد جماعة معارضة، أو حتى جهادية، فمن العقل المدبر؟ لا يقدم الفيلم طرحاً جادا للقمع الذي يرتكبه النظام في مصر، ولا يقدم نقدا حقيقاً للسيسي ونظامه والمنتفعين منه، ونخرج منه خاليي الوفاض.