يروي الفيلم رحلة طفلة سورية وأمها من مدينة حلب. أصبحت لمياء وأمها لاجئتين، بعد مقتل والد لمياء في إحدى المظاهرات التي طالبت نظام الأسد في سوريا ببعض الحقوق الأساسية كإطلاق الحريات وإعادة إحياء الحياة السياسية المنعدمة.
الظروف والملابسات
ويصور الفيلم تحديداً الظروف والملابسات التي أجبرت الطفلة وأمها على النزوح من حلب بعد غارة جوية عشوائية للطيران السوري بمشاركة الطيران الروسي الداعم للنظام السوري، في عام 2016 على حي سكني في مدينة حلب – عاصمة الاقتصاد السوري والواقعة في شمال البلاد والتي يتعدى عدد سكان محافظتها خمسة ملايين نسمة – ما أسفر عن دمار هائل في الممتلكات والأرواح.
يتخذ الفيلم من المزج بين الواقع الحاضر والماضي البعيد، في ثنائية لا يتوقع انتهاؤها من القهر والتغول وظلم البشر على أيدي أنظمة دكتاتورية أقوى، تغزو وتغير الخريطة الديموغرافية للمناطق التي تسيطر عليها، أو تستخدم القوة العسكرية وأدواتها المتطورة فتجبر الناس على مغادرة مكان ولادتهم وملاعب طفولتهم إلى بلاد غريبة وبعيدة، يغفو عنها الدفء وتغيب عنها الشمس طويلاً.
تتواجد شخصية لمياء اللاجئة في بعدين زمنين أحدهما واقعها المر، والآخر في عالم متخيل دخلته عبر كتابها، كما هي قصة أليس في بلاد العجائب، إنما بطابع يعتريه القسوة، والحرمان والفقد والتشريد.
نراها تارة مع الرومي في صحراء الربع الخالي، وأخرى في البحر تتخطفها الموانئ، تنتظر أن ترسو في مكان آمن. لهذا الغرض، ربط الكاتب شخصية لمياء بقصة من عصر مضى، هي قصة الشاعر والأديب والمفكر والصوفي جلال الدين الرومي المولود في خراسان – أفغانستان في عالم اليوم – لعائلة ثرية وصاحبة سلطان.
كانت أمه “مؤمنة خاتون” ابنة خوارزم شاه علاء الدين محمد”، وكان والده “بهاء الدين ولد” الملقب بسلطان العارفين، لما كان له من سعة في المعرفة والعلم بالدين والقانون والتصوف (حسب ويكبيديا العربية).
اضطرت ظروف غزو المغول جلال الدين للانتقال إلى بلد آخر لاجئاً مع أهله ليعيش قسوة التهجير عن البلد الذي ولد فيه وليكون أدبه وتجربته رسالة مصونة ضمن كبسولة زمنية يتناقلها المهجَرون والمستضعفون ومن تضيق بهم الأرض على اتساعها.
ترتبط لمياء بطلة الفيلم روحياً مع قصة الشاعر الصوفي الذي عاش نفس ظروفها مع اختلاف الزمان والمكان ويفهم تماماً القهر والعجز الذي تعيشه، ولأن لمياء فقدت والدها، نراه يحل مكان أبيها في كتابه الذي أهداها إياه أستاذها كي يكون رفيقها ومرشدها ومؤنسها.
تستوحي لمياء من عبارات الحكمة والصبر، التي يعلمها والد الشاعر لابنه، ما يشجعها على الاستمرار لنجد أن الخسارة والألم مصدر هام للوقوف على المراجعات والرحلات الروحية وطرح الأسئلة الوجودية واستخلاص العبر وفهم بعض الحقائق التي لن نقبل بتفهمها في أوضاع أخرى.
هنا مثلاً نجد أن القسوة التي نعيشها هي مفاتيح جديدة تقودنا إلى بدايات وأقدار أفضل وأجمل، بل وربما لنهايات غير متوقعة .
يعتقد والد شاعرنا جلال الدين، صاحب لقب سلطان العارفين، أن الكلمات يمكن أن تخفف على الضحايا وطأة الحمل الثقيل الذي يتسبب به الظلم والقهر والعسف والتهجير، فتحمل عنهم أثقالاً لا يستطيعون التعبير عنها ولا عن جروحهم وآلامهم، ومنه كان الوحي الإلهي بأمر القراءة كأول آية قرآنية مطلقًا خارج الزمان والمكان.
الجانب التقني
لا تكلف في رسوم الفيلم كونه ببعدين (2D). تنقل تلك الرسوم بشكل واضح قسمات الوجوه وتفاصيل الأماكن والحياة، وما يتفق مع حالة الشخصية من قلق وألم ورعب ومشاعر الترقب والحزن وترسم لنا علامات الرضا والغضب والتسامح والبساطة والقبول والرفض، غير أنها تأخذ طابع التعقيد والتكلف كلما ابتعدت عن بوصلة الفيلم الأخلاقية المحددة بالتسامح والتعالي على الجروح والغفران والصبر.
يتضمن الفيلم إشارات جميلة فهو يتعامل مع الحجاب كحالة يتوجب فهمها. كما توشح الفيلم عبارات الذكريات اللطيفة المرتبطة بالطعام كرائحة القهوة والرز بحليب والتبولة والجبن والشاي بالنعناع بعد وجبة دسمة من الكباب.
نشاهد أيضًا رمزية ارتباط الناي مع القلم وهي رمزية داعمة لتحصيل الحقوق المهدورة، عبر الفن والأدب، يتعلق بها المستضعفون ممن لا يملكون القوة ولا الحيلة لاسترجاع حقوقهم. كذلك تم استخدام الحرم المكي والآيات القرآنية الكريمة التي تدعم هذا التوجه في بنية الفيلم الرمزية فالإشارات لا ينبغي أن تغيب عن بال أصحاب العقول والقلوب المتيقظة والمتفكرة.
كتب وأخرج الفيلم الأمريكي أليكس كرونيمر الحاصل على عديد من الجوائز، لعمله في تعزيز السلام والتفاهم بين الأديان. كرونيمر خريج مدرسة اللاهوت من جامعة هارفارد، وعمل سابقًا في مكتب حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأمريكية، وكان أحد أعضاء هيئة التدريس المؤسسين الذين ساعدوا في إنشاء معهد الولايات المتحدة للسلام.
من المهم الإشارة إلى أنه قد ساهم بكتابة نص فيلم “بلال: بطل من سلالة جديدة”. من الجدير ذكره أن من ساهم بإنتاج الفيلم – مع شركاء آخرين – السوري الأمريكي سام قاضي، الكاتب والمنتج والمخرج، صاحب البصمة السورية الأولى في الأوسكار بنسخته التسعين عن فئة أفضل فيلم أجنبي.
كان فيلماه “المواطن” (2012) و”غاندي الصغير” (2016) البارزان موضع تكريم من قبل منظمة “سينما من أجل السلام المرموقة” لزيادة الوعي بقضايا حقوق الإنسان من خلال فيلم “غاندي الصغير”، وطُلب منه التحدث عن الموضوع نفسه أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، في هولندا.
شارك بتأدية تمثيل أصوات الفيلم كل من ميلي ديفيس عن صوت البطلة لمياء، ومينا مسعود عن دور الرومي، وآية براين زكريا عن دور أم لمياء، وقام نيسي آيسن بدور بسام، وأدى دور الوالد فاران تاهير، وأما المدرس حمداني فقد أداه راؤول بهانيجا.
أسس تصالحية
حسب خلفية صانعي الفيلم، نجده قائماً على أسس تسامحية تصالحية على أساس غير واضح لحد يصل الإرباك. فنراه يشرح بطريقة واضحة وصريحة واقعة النزوح والوحشية التي تعرض لها الشعب السوري، ثم يقدم الصبر والتسامح والعض على الجراح والاعتماد على الفن والأدب كوسيلة من وسائل مقاومة العدو. لا شيء غير ذلك! حتى تعلم وسائل الدفاع بالحجارة نجدها أمراً غير مستحب.
حبكة الفيلم ونسيجه يعتمدان على نثر شعري يحوي بعض الحكمة والكثير من الفكر الصوفي التصالحي، مزود برسالة رومانسية ومتسامحة مع العدو المجرم. مفاد تلك الرسالة أنه مهما كان الألم ومهما سبّب العدو من الأذى، فسوف يتغير ذلك العدو من تلقاء ذاته، ويتغلب على وحشيته وإجرامه، ويجنح للسلم والسلام ويرمي السلاح على طريق الحج إلى بيت الله الحرام! إذن لا حاجة لمحاسبته على جرائمه.
أما إذا ابتعدنا عن هذا التصور الساذج، فسوف يذوب الجليد عن وحوش الغضب والانتقام، عبر تلميحات من مشاهد معقدة من الرسم الذي يزداد تعقيداً وتشابكاً، إذا ما فكر أحدهم بالمحاسبة!
إذا كان هذا التوجه صحيحاً، لعلّ من حقنا أن نتساءل لماذا حاسب الغرب الديمقراطي مجرمي الحرب الألمان وعلى رأسهم النازي المنتحر هتلر وقاضاهم جميعًا – محكمة نورمبرغ مثلًا – ولماذا تم إجبار الألمان وبلدهم على دفع الكثير من مبالغ التعويض جراء ما فعلوا بضحايا المحرقة وغيرهم!
نتساءل أيضًا عن جدوى وإمكانية لجم الغضب والانتقام وإجبارهما على الوقوف عند حدود لهما! أم هل من الواجب أو الممكن البدء بإصلاح القاتل والمجرم أولاً بوضع حد له بعد كل هذا القتل والتدمير سيما إن كان لا يزال على رأس هرمه السياسي والعسكري، فنراه ينتقل من إنكار الجريمة إلى الاحتفال بانتصاراته منتظراً إعادة تدويره مرتكزاً على ما يحدث في عالم السياسة المتقلب.
عالم السياسة القذر الذي لا يعترف بعداوات دائمة، إذ ربما يغدو عدو اليوم حليف المستقبل القريب، كما يحدث مع حالة القيادة التركية التي تحاول تحت وطأة تحالفها مع العدو الروسي، إعادة تحالفاتها العسكرية مع عصابة الأسد، بحجة حماية أمنها القومي! وتكرس هذا أيضاً عودة بعض المحسوبين على تيارات الثورة أو المقاومة الفلسطينية إلى حظيرته، اتكالاً منهم على حلول حالة من الملل والتيه والضياع، أو الاشباع بحالة العقلنة، ونسيان الجروح بعد أن يمر منها “الضوء والنور” فهي الكفيلة بكيّ الصديد ولملمة أشلاء الضحايا، وإعادة الأعضاء المعطوبة، والأجساد التي طحنت في أجران الملح وأفران المعتقلات ومحارق الحفر الجماعية.
أما الضحايا التي ابتلعتها مياه البحر في محاولاتها للوصول إلى بر أمان ضمن قوارب مطاطية مستهلكة، وخذلان منظومة دولية وقفت متفرجة على ما يحدث بالتفصيل وعبر أقمارها الاصطناعية أو عبر تواجد سفنها المباشر، فقد توقف الحديث الإعلامي عنها وابتلعت كل هذه الكوارث بصمت أبدي ويظل اللاجئون والنازحون جرحًا نازفًا، لا توقف مأساتهم السلات الغذائية التي لا تُشبع، ولا تقدم الكرامة التي خرج الناس لأجلها، ولا الخيام لا تقي البرد… ناهيك عن الحرمان والضياع وهدر الكرام!
ماذا عن الديموغرافيا التي تم تغييرها، وعن الذاكرة التي احتشدت في أذهان ملايين يسكنهم الرعب والخوف وعدم الشعور بالأمان في حياة ينتظرون انتهاءها مقهورين مكسورين؟
هل من الممكن أن تكون هذه هي رسالة الفيلم؟ أم أن هذا كله من دواعي البحث عن جهات داعمة وجوائز المهرجانات ومتطلبات تمويل الأفلام التي يتم منحها لمن يمتلك الموهبة ليقوم بإرسال رسائل تصبير ومداعبة للجروح كهذه الرسالة؟
كاتب سوري