وليام ييتس - جبران - إليوت
الشخصي واللاشخصي
ثمة رأي طريف للناقد المعروف رينيه ويليك يقول فيه إنّه «من الخطأ القول إن الشعر الشخصي الذي يتناول جوانب من السيرة الذاتية للشاعر من بِدَع الرومانسية». لهذا الرأي ما يسنده في واقع الممارسة الشعرية على مرّ التاريخ، أي قبل صعود الرومانسية الألمانية؛ إذ ظلّ الشعراء يصوغون سيرهم الذاتية شعرا، ويكتبونها بصيغ ورؤى متنوّعة في غير عصر معطى، لأن الشعر كان موضوعه على الدوام هو التجربة الحميمية للشاعر، ولاسيما الشعر الغنائي، كما في الشعر العربي الذي لا يخلو، بصورة أو أخرى، من نزوع شخصي أو سيرذاتي على شكل معاناة ذاتية وتجارب شخصية ورؤى للذات والعالم. وبما أنّ الشعر ارتبط بقول الأنا والتعبير عن حالات ذاتيّته، فقد كانت السيرة الذاتية واليوميات الشخصية، طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ما تفتأ تنزلق نحو الشعر أو تتماهى معه. فالاعتراف السيرذاتي عند كثير من شعراء هذه الحقبة يرتهن بالصوت الشعري، الذي يقترب من صوت الأنا الغنائي بانتظام، أو أن يلتبس معه أحيانا، فيما هو يحافظ على المرجع الذي يُحيل صراحة على المعيش (غوته، فيكتور هوغو، وليام ييتس، ألكسندر بوشكين، جبران خليل جبران، توماس إليوت..).
وإذا كانت الذات الرومانسية قد ساهمت في التقريب الخلافي بين الشعر والسيرة الذاتية، إلا أنّ اللعب على الانزياح البادي للعيان أو الخفيّ بين الأنا والآخر، ثم بين الذات الشعرية والذات السيرذاتية، سيظلُّ في قلب كلِّ حداثة شعرية. فعندما أخذ نطاق حركة الحداثة يتسع، وشرع الشُّعراء يبحثون، على صعيد الموضوعات والبنى الفنية، عن هوية نصِّهم الخاصة، فلا يُعرِّفونه إلا بوضعها موضع سؤال، رافضين كل سلطة عليها وعلى ما يكتبونه، وكان قلقهم يخصُّ أساسا إعادة تعريف الذات المتكلمة، لأنّ هذه الأخيرة لم تعد تُدْرك بمصطلحات الهوية، ولا يمكن أن تُعتبر كـ»أنا» أصلي حقيقي. ولهذا، سرعان ما أعلن شعراء الحداثة (بودلير، رامبو، ستيفان مالارميه) رفضهم للشعر الشخصي، ولضمير المتكلم وانثيالاته الغنائية. لكن نفي التّشَخْصُن عن الشعر الحديث لم يقطع تماما مع ارتباط المرجعي بالواقعي، وإنّما بالأحرى كان يُحوّله، ويُشوّش عليه وعلى الصور التي تحدث فيه، بشكلٍ يجعلها غير مشابهة له في حدّ ذاته. تلخص المفارقة التي يرسمها هوغو فريدريش كل شيء: «بقدر ما يُكثر الشاعر من قول «أنا» بقدر ما يستدعي نفي الطابع الشخصي عن الذات». إن تثمين اللاشخصي من خلال نفي التّشخْصُن عن الشعر الحديث، على الأقلّ بالمعنى الذي يفيد أن الشعر لم يعد يتدفق بالوحدة التي تنشأ بين الشعر والإنسان المعطى كما أراده الرومانسيون، سيجعل شعر السيرة الذاتية مختلفا عن شعر العصور السابقة. وقد بدا أنّ الشعر الحديث، داخل توتُّره السيرذاتي، لم يكفّ عن رفض السيرة الذاتية المرتهنة إلى تخييل الذات الثابتة والشفّافة في حد ذاتها، لصالح التخييلات اللانهائية التي من خلالها تعيد الذات ابتكار نفسها وكتابة تاريخها المتشظّي بالضرورة. ومن هنا يصير من الممكن قراءة النص الشعري الحديث باعتباره «سيرة ذاتية لذاتٍ تخييلية، لذاتٍ مُتخيَّلة» خارج وهم التطابق وثبات المرجع. كما مثّلت الانعطافة نحو الغيرية وتطوّر أساليب وأنماط الكتابة الشعرية طريقة جديدة ومختلفة لبناء السيرة الذاتية شعرا.
منعطف نظري
إذا علمنا أنَّ السيرة الذاتية بوصفها نوعا سرديّا لم يتمَّ الاهتمام بها، نقديّا وأكاديميّا، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، سندرك لماذا تأخر النقاش النظري والمعرفي بخصوص السيرة الذاتية الشعرية أو الشعر السيرذاتي، واستعصى معه إمكان اكتشاف العلاقة بين السيرة الذاتية والشعر بشكل جِدّي وواضح، سواء داخل المجال الأوروبي، أو العربي لاحقا. فمعلومٌ أنّ رواد التنظير للسيرة الذاتية كرّسوا معظم جهودهم الفكرية في ربط السيرة الذاتية رأسا بالسرد، وإذا أحالوا على بعض المحاولات التي اتخذت الشعر أداة لكتابة السيرة الذاتية، أدلوا بجملة من التحفظات المنهجية، بمن فيهم فيليب لوجون نفسه. لكن تحت تأثير منظورات وأوفاق نقدية جديدة تستفيد من منجز النظرية المعاصرة، ومن تحليل الخطاب على وجه الخصوص، أخذت العلاقة بين الشعر والسيرة الذاتية تأخذ مسارات مختلفة داخل الوشائج التي تجمع بين ذات الكتابة والذات الواقعية، أو داخل العبور من الشكل شعرا إلى الشكل نثرا، من وجهة نظر وضع الذات التي تكتب؛ الذات كأثرِ مُتعدّد، وتنظيم لأصوات مُتشظّية، وتخييل مبتكر.
مثلما أنّه كان مستعدّا في كل وقت لمراجعة صرح نظريته في السيرة الذاتية، لم يصمّ فيليب لوجون أذنيه عما يحدث حوله، فكتب في مطلع الألفية الجديدة دراسة تحت عنوان: «السيرة الذاتية والشعر». قدمت الدراسة فهما جديدا لعلاقة السيرة الذاتية بالشعر، ومراجعة لها، بعد أن كان تناولها أول مرة في كتابه ذائع الصيت. يقول فيليب لوجون: «في الميثاق السيرذاتي (1975) قلتُ ، يا للبدعة!- إنّ السيرة الذاتية تكون «نَثْرا» إذ إنّ نحو 99 في المئة من الحالات جرت على ذلك، غير أنّ ذلك بالطبع لم يكن صحيحا. ولم يعد مُجْديا». فقد صار الشعر يُشكّل بطريقته الخاصة محفلا رئيسيا داخل الفضاء السيرذاتي، بل «أخذ الشعر يضرب الباب على السيرة الذاتية». وإذا كان كلّ منهما يمكن أن يكون وسيلة للآخر، فإنّه ليس معيبا – في نظره- أن نطرح أنّهما شيئان مختلفان، وأن نحاول تعريفهما، ونُعرض عن القبول بأنّ بينهما نُقَاط تقاطع عديدة. وعليه، يمكن أن تُؤخذ السيرة الذاتية بالمعنى الواسع والغامض، أو بالمعنى الضيق والدقيق. وكذلك الشعر.
هكذا يتناول، بشكل حميمي وأكثر مرونة، طبيعة إشكالات العلاقة بين الشعري والسيرذاتي، عبر ديوان مارغريت غريبون: «سجلّ مُؤجَّر الغرفة» (1956) الذي يقدم نفسه باعتباره «قصّة في شكل شعري» مُوزَّعا إلى عناوين فرعية ترشد القارئ إلى مراحل من حياتها من جهة، وعبر إشارات أو مقاطع شعرية من ستة كتب لشعراء معاصرين (روبير بارات، مارغريت داسي، هوبير ليسيني، جورج بيروس، ريمون كينو، وليام كليف) كتبوا حياتهم شِعْرا، ويصفها بـ«الكتب الجريئة» التي رُبّما حكم عشاق الشعر بأنّها ليست إلا نَثْرا مُوقَّعا، وعشاق السيرة الذاتية بأنّها ليست إلا مجرد تمارين مصطنعة؛ بل هي محكيّات سيرذاتية.
مستويات العلاقات
من خلال التحليل الذي يقدمه فيليب لوجون لفهم طبيعة العلاقة بين السيرذاتي والشعري، نجده حصرها في أربعة مستويات خاصة وقابلة لأن تتبادل التأثير في ما بينها:
*كتابة السيرة الذاتية شعرا، لا تختلف عن كتابتها النثرية في أن تستثمر حياة الشاعر عبر محكيّات سيرذاتية تشرع بولادة المؤلف وتستكشف مراحل تكوينه، وتاريخ شخصيته، مثلما تدمج هذا التاريخ في سياق مضبوط بأسماء وتواريخ، إلخ. لكنه يحذّر من النظر إليها بكونها «نَثْرا مُوقَّعا» أو «كتابات منظومة مُملّة» أو «مجرد تمارين مصطنعة» ويلفت إلى أنّ كل محكي سيرذاتي شعري هو تجربة في القول تبحث طريقا أصيلا نحو صوتها، لأنّه من الصعب على أحدهم أن يكتب حياته، الحياة الخاصة، داخل لغة مشتركة ينحلُّ فيها. ومن المرعب والمتكلّف أن يقدم نفسه للآخرين كيفما اتفق، إذا لم يكن ثمة شيء ما يعرضه أو يستند إليه. كما أن تلقّي هذا النوع من المحكيّات، بحكم إيقاعه وشكل بنائه وتمثيله النفسي وعالمه الطفولي، يأخذ منحى خاصّا يتعلق، أساسا، بالحواسّ والذوق والشعور.
*اعتبار الـ(أنا) الغنائي مصدرا سيرذاتيّا، وهو الذي يمنح التعبير «السليم» للعاطفة عبر الكلمات التي تصدر مباشرة من التجربة وقلب الشاعر، فتكون هناك رغبةٌ لتقاسم العاطفة من الآخرين. ويُمثّل لوجون بالشاعر أرفيرArvers الذي اشتهر بسوناتاه التي يتصدرها بيت عذب ومؤثّر في بساطته الشجيّة: «لروحي سِرُّهـا، لحياتي لُغْزها». وبغضّ النظر عن اللغز الذي يحيط به هذا الشاعر حياته، بيد أنّه نجح، بحسرته العظيمة بلا شكّ، في أن يتجاوز كلّ توقُّع: لا نعرف شيئا عنه، أيّ شيء آخر غير الـ«أنا» الأنا التي يصدر عنه في ملفوظه الشعري. *عندما تحكي القصيدة عن حياتها، أي لا يعود الأمر فقط مرتبطا بحياة الشاعر، بل بحياة قصيدته، بأسرار كتابتها وهو يقولها في طور التكوُّن. ولطالما حلم القراء بتلقّي هذه الأسرار وسعوا نحوها، وغاب عن بالهم أنّ الشعر لا يمكن أن يُفسّر بالظروف أو يُفكّك في سلسلة من الأحداث أو الوصفات، وإنّما هو خيمياء يتمّ من تلقاء نفسه. ومع ذلك، فقد ترك بعض الشعراء، بما يشبه برنامجا كتابيّا وهديّة لقرائهم، تعليقات أو إشارات أو تقييدات وملاحظات موازية لكتابة بعض نصوصهم الفارقة في تاريخ الشعر الحديث والوعي به.
*عمل اللغة ومبدؤها الإنتاجي، وتحديدا من خلال أعمال ميشيل ليريس الذي سعى إلى ابتكار لغة جديدة وفق مشروعه السيرذاتي الذي انخرط فيه كُلّيا. وقد استنتج أنّ مبدأ السيرة الذاتية الجديدة كما تتجلّى عنده، يكمن في إعادة وضع الحكي والحجاج في مرتبة ثانوية، واتخاذ تداعيات الأفكار والكلمات مُحرِّكا رئيسيّا، عبر تجريبه لتقنيات مختلفة في الكتابة (المونتاج، التجديل) وهو ما يجعل العمل الشعري نفسه يبني من خلال التفكُّك وإعادة التركيب وحدات المعنى أكبر بكثير من الكلمات، ويتيح له أن يتفتّح ويرتاد آفاقا جديدة لا تقبل أي اختزال أو حدّ.
يتيح لنا تحليل فيليب لوجون الذي يشمل نصوصا شعريّة تنتمي لاتجاهات وتصوُّرات كتابية متنوعة (الرومانسية، الشعر الحر، السريالية) أن ندرك أنّ السيرة الذاتية بعبور محكيّاتها إلى الشعر وعملها فيه، لا يمسّ الموضوعات فحسب، بل أنا الكتابة وعمل اللغة وقدرتها على التحوُّل. فمن جهة أولى، تُستثمر حياة الشاعر وتُدمج أناه الغنائي في سياق موسوم بالإيقاعية والتأمل الاسترجاعي والعلاج بالتحليل النفسي؛ ومن جهة ثانية، ننتقل من الحديث عن حياة الشاعر إلى حياة القصيدة وهي في طور التكوُّن بما يعنيه ذلك من تعليقات «ما قبل النص» والمسودات، واليوميات أثناء الكتابة وإعادة الكتابة. فالكتابة السيرذاتية الشعرية كتابةٌ «شذرية، مونتاج، بحث عن الحقيقة التي تتفلّت من قبضة المحكيات العادية». كما أنّ لتعاون القارئ مكانته المحفوظة بسخاء داخل الكتابة، لأنّ شعراء السيرة الذاتية – كما يرى لوجون- «مُلْهِمون كما الشعراء الحقيقيون، وعملهم هو بمثابة الورشة التي تُرغّبك في أن تكون داخل العمل وأن تبتكر السبيل الخاصة بك داخل اللغة».
بيد أن تحليل فيليب لوجون، وإن كان يعكس فهما جديدا لعمل السيرة الذاتية في الشعر مُتطوِّرا عما سبق أن أظهره في «الميثاق السيرذاتي» إلا أنّه يظلُّ مع ذلك مُقيَّدا بالمرجع لا ينفكُّ عنه، وكأنّ ذات الكتابة – في نظره- هي الذات الواقعية أو المرجعية، وذلك ما يجعل قيد التطابق لا يفسح للتحليل النصي مجالا للعبور إلى تخييلات الأنا في نسيج اللغة، وما يفعله من ألاعيب تُعيد ابتكار هّويته بشكل آخر.
كاتب مغربي