في أراضي الكلام

سيظل سؤال الذات في بعده الأنطولوجي، أحد أهم المداخل المساعدة على مقاربة جمالية اللغة الشعرية، باعتبار أنه سؤال يجد امتداده في خصوصية وحميمية العلاقة، التي تصل الذات بذاتها. وهي علاقة متحررة من إكراهات حضور الآخر، الذي يلزمك بحتمية مراعاتك لمقتضيات السياق التواصلي التي تجمعك به. فإذا كان الأصل في استحداث اللغة، هو أولا تحقيق التواصل مع الآخر، وثانيا تحقيق التواصل مع الذات، فإن التواصل مع الآخر، يستلزم اعتماد لغة عملية ومشتركة، مقننة ومتواضع عليها، بخلاف التواصل مع الذات التي يتحرر نسبيا، وأحيانا كليا من هذا الإلزام.
فالحديث إلى الذات أمر شخصي لا دخل للآخر به، وهو السياق الذي تستقل فيه الذات بحقها المطلق في إبداع لغتها الخاصة، التي تسعفها في ممارسة تواصلها الشخصي والمتفرد. وبالنظر إلى أن حديث الذات مع ذاتها ذو طبيعة داخلية وباطنية، فإن اللغة الموظفة فيه، تتميز باستقلالية قوانينها.
وما نعنيه بالبعد الداخلي هو تلك الإشارات الترميزية، التي تستجلي بها الذات دلالات أحوالها الباطنية، دون أن تكون ملزمة بتوظيف أنساق اللغة المشتركة، باعتبار أن ما يعتمل في دواخل الذات، يكون عادة مغرقا في خصوصيته، ومنغلقا على أسراره المكنونة التي لا تهتدي إليها سوى الذات المعنية بها. وبالتالي، فإن أهم ما يمكن التنويه به في السياق الذي نحن بصدده، هو أن لغة التواصل القائم بين الذات وذاتها، تنبني مبدئيا على أرضية هذا الحلول، وذاك الانصهار القائم بين ما تبوح به الدواخل، وما تستشعر الذات تجاه هذا البوح. الأمر هنا وثيق الصلة بخيمياء تواصلية، قوامها التفاعل الخاص والحميمي بين ذات تكون مستسلمة كليا لمتعة، أو مكابدات الإنصات إلى ذاتها. ولعل أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الأمر، هو تفرد كل ذات بلغة صمتها الخاصة بها، انسجاما مع ما تمليه خصوصية طبعها، وفرادة وعيها الشخصي، الذي تتلقى به أسئلة الوجود.
والغاية من هذه الإضاءات، توجيه اهتمام القارئ إلى لغات ذلك العالم الشخصي الداخلي، الغامض، والمعتم، الذي تجوب الذات الفردية مجاهله، بعيدا عن عيون الفضوليين والمتربصين. وهي بالمناسبة لغات الكتابة الشعرية، الخبيرة بجمالية التقاط ما تبوح به الدواخل من أسرار وما تطرحه من أسئلة. وإذا كانت ثمة ممانعة دلالية تتحصن بها هذه اللغة، وتؤثر سلبا على سلاسة تلقيها، فهي تلك المتمثلة في انتمائها بالقوة والفعل، إلى عمق السراديب التحتية التي يتشكل بها ومنها الجوهر السيكولوجي والهوياتي، بما هو جوهر ملتبس وغير معلن، فضلا عن كونه موضوع تساؤل واستكناه حتى بالنسبة للذات المعنية به، بالنظر لما يتميز به من مخاضات وتحولات دائمة، تحول دون ضبط حركيته بشكل قارٍّ ومعلوم. وهو أحد الأسباب الأساسية التي تحول دون مغامرة الذات بالإعلان عنه، والكشف عن أسراره، تلافيا للاصطدام – جزئيا أو كليا – مع معايير اليومي والمعيش.
إن اللغة الشعرية حينما تشرع في التشكل داخل هذه المناطق المعتمة، لا تكون معنية بتوظيف مقومات اللغة العملية، التي تستند إليها أغلب الشرائح المجتمعية في تواصلها العام والمشترك، باعتبار أنها تكون معنية أولا، باستغوار دلالات وحقائق تلك العوالم الشخصية والداخلية المتفردة بمعاييرها الخاصة، التي لا دخل للغات الآخرين بها، ومعنية ثانيا بالاستجابة لمتعة تفاعلها الحميمي مع هذه الدلالات وهذه الحقائق، بعيدا عن أي رقابة خارجية مسبقة، من شأنها تعطيل فرادة هذا الاستغوار، وجمالية هذا التفاعل. والمقصود بالاستغوار والتفاعل، هو شعرية طرحها للمزيد من التساؤلات حول هوية الشيء ذاته. أي ذلك الشيء الحاضر الغائب، والحريص باستمرار على ممارسته انفلاته الدائم، تحسبا لوقوعه في فخ الدلالة النهائية والمكتملة. يحضرنا هنا هاجس التساؤل، عن دلالة وقفة الكائن، على عتبات هذا البياض الذي تلتهم بداياته ما تراءى من نهاياته. أصداء طبول ما قبل التكوين. الحشرجة الأخيرة لجذر شجيرة العناب. تهاليل ما سيلوح في الجهة المنسية من الكون. جحيم الفناء قسرا بين خرائب الوقت، هناك حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع. صدى الصرخة الطالعة من حنجرة الغيب. هرولة الدم بين خرائب الفردوس. النار المحجبة خلف طراوة الندى. السقوط المتتالي لفواكه الرغبة. التيه المحاصر بحيرته الخضراء. أيضا أغنية القطر على آنية الانتظار. جحافل القتل. الغرف التي لا يطمئن الحلم إلى حيطانها. وجيب صخرة الجبل. إطلالة نينار من شرفات الأقاصي. خطواتي المفضية للمكان. الحرائق المقبلة مع الريح. شهداء اللاجدوى. ضحكة الأفعى في ظهيرة الأحد. ثم كل ذاك الذي لم ينكشف بعد طاغوته في دائرة الرؤية، وما لا حصر له من ضوء حروف تتبادل في ما بينها متعة، المحو، كي لا نلمح منها سوى ما لم ينبس به هاجس البوح.
تلك هي ما قل من الإبدالات اللامتناهة لأحوال الذات. العابر منها والمقيم. أحوالك التي لا تمُتُّ بأي صلة تذكر لأحوال الآخرين، والتي هي محض فيض من أسئلة لا تني تلقي ظلالها الثقيلة على الذات، كلما اختلت بأطياف ذاتها. تساؤلات تستقل بأصواتها، وبأشكال انكتابها، كما تستقل بمنهجية قراءتها، حيث تظل ظاهرة الإنزال النظري في حكم ما هو باطل وقبض الريح، وحيث يظل تموضع القول الشعري في رقعة الذات، بمثابة تموضع رمزي في الجهة الأكثر غموضا من كينونة الكائن.
وهي خلاصة تستحثنا لتصحيح تلك المغالطات المقارباتية التي دأبت على اختزال الكتابة الشعرية، في معادلات معجمية منتزعة من متون الأعمال الكبيرة، قصد الإيهام بانتمائها اللاشرعي إليها. في حين إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير. أي ما يناهز سنوات ضوئية لا قبل للنقد المُقْعَد بها. سنوات دلالية، قوامها فتنة الحلول التام والمطلق في قلب أنوار وسُجُف الذات، التي تحار الأزمنة في تأويل ما قَلَّ من عوالمها، والمسكونة بأسئلتها الوجودية الكبرى. ومن المؤكد أن العين المشتركة تعمى عن رؤية ذلك الجرف العميق، الفاصل بين باطن الذات وظاهرها، علما بأن التصورات المابعد حداثية، تعمل على نسف هذا الفاصل الرمزي، في سياق رهاناتها العشوائية، على إنتاج ذوات غير قابلة للتصنيف، تكون خلطة هجينة لظاهر لا علم له بباطنه، وباطن لا وقت له كي يفكر في ما عداه. وهي الهجنة التي تتشكل في خضم مفارقاتها لغة الشعر، وقد بدت للملاحظ شبيهة بِدابَّةٍ حرون لا قِبَلَ للمزايدات المنهجية بلعبة ترويضها.

*شاعر وكاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سليم يزبك:

    هذا النص أسهل نسبيا من سابقه إذ صدر قبل يومين أو يزيد
    يرجى من الكاتب عدم اللف والدوران الأسلوبيين لإيصال الفكرة
    الغلو في تطويل الجمل و”تعقيدها” ليس بالضرورة دليلا على الفصاحة والعمق!
    مع التقدير

  2. يقول bennani ahmed:

    شكرا للشاعر رشيد المومني على هذه المقالة الممتعة و المفيدة.

  3. يقول نينار إسبر:

    يشكر الأخ الشاعر المبدع رشيد، وقد أعجبتني كثيرا الجملة الأخيرة من نصه الثاقب –
    /وهي الهجنة التي تتشكل في خضم مفارقاتها لغة الشعر، وقد بدت للملاحظ شبيهة بِدابَّةٍ حرون لا قِبَلَ للمزايدات المنهجية بلعبة ترويضها/.. اهـ
    وفي هذه القرينة، أو فيما يماثلها على أدنى تخمين، يحضرني هنا قول الشاعر الراحل محمود درويش، وهو الشاعر المعروف جدا باتساع جماهيريته في العالم العربي من المحيط إلى الخليج (إذ لم “يتفوّق” عليه في هذا إلا الشاعر الراحل نزار قباني الذي قال عن أدونيس، والحق لا بد من أن يُقال، و”كأنه يحاضر أو يُلقي الشعر في غرفة مغلقة أمام جمهور من الظلام!).. يقول محمود درويش في مقابلة بُثّت آنئذٍ على التلفزيون العراقي، بما معناه –
    لم يحدث لي في سيرتي الشعرية كلها أن كتبتُ حرفا واحدا من أجل الجمهور: كل ما كتبه من قصائد مدوّنة، أو حتى من قصائد مسجّلة، كان لنفسي ومن أجل ذاتي، وليس غير. وقد يخدش هذا الكلام آذان المشاهدين (والمشاهِدات)، ولكن كلمة الحق يجب أن تُقال حتى لو كانت على حساب سقوط الشاعر – كلام عظيم بالفعل !!
    مع التحية والتقدير

    1. يقول رشيد المومني:

      أنا جد ممتن للمبدعة المتألقة نينار على إضاءاتها العميقة ،التي تغري بفتح مسالك جديدة في مجالي القو ل و الفكر . ألف شكر. تقدير لك و لأفقك المترع بالهبات.

    2. يقول نينار إسبر:

      شكرا جزيلا أخ رشيد
      وبالمناسبة فقد أرسلتُ إرسالين تعليقا على نصك السابق
      لكن للأسف لم يُنشرا لأسباب لا يعلمها إلا الله و”الراسخون في العلم” – تحيتي

    3. يقول سلوى سعيِّد:

      تحية للأستاذ رشيد المومني على النص الألمعي المفيد
      وتحية للأستاذة نينار على إضاءاتها الحاذقة والتي لا تقل ألمعيةً
      باختصار الشعر أرقى أنواع الكلام وليس ثمة لغة في الكون تعلو عليه

  4. يقول الشاعر أحمد الشامي:

    مضمون بعض التعليقات مسكونة بالغرور الفارغ..مقالات السيد رشيد مزيج من النقد
    المستند إلى نظريته الخاصة في البناء الشعري
    وهو يكتب منذ فترة طويلة لتثبيتها القاريء..

اشترك في قائمتنا البريدية