«في ألق الكتب» وجماليات التلقي

صدر كتاب «في ألق الكتب» دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق 2019 قبيل رحيل الكاتب جاسم العايف بفترة وجيزة (رحل الكاتب يوم 17 إبريل/ نيسان 2019) حتى أنه لم يستطع توزيعه على أصدقائه بسبب قلة النسخ التي وصلت إليه. طبع هذا الكتاب على نفقة احد أصدقاء الكاتب الذي تعفف عن ذكر اسمه.
يتفرد كتاب «في ألق الكتب» بعلاقته الوثيقة بين ثريا النص (عنوانه) والمتن، فمعنى الألق وفق المعاجم العربية (لمع وأضاء)، ومجموعة القراءات التي ضمها الكتاب تنحو إلى إضاءة ولمع وكشف مضامينها، والتعريف بكتابها وإسباغ انطباعاته وملاحظاته وإضافاته الجديدة للعديد من هذه الكتب، التي تضمنت معلومات خاطئة أو ناقصة، وبهذا المعنى سيكون الكاتب العايف قارئا وسيطا (بين الكتاب، وقرّائه المحتملين. وبتقفية آثار الثقافة، كُتباً وأحداثاً ومستجّدات، وتسجيله انطباعاته عنها، مُعرّفاً، أو ناقداً، أو مستعرضاً، فإنّه يجسّد انشغاله بهذه الآثار، وإحساسه بالمسؤولية تجاهها إلى مستوى الانغمار، أو التورّط في صناعة الحدث الثقافي)، كما يشير الفنان هاشم تايه.
يتناول الكاتب جاسم العايف، في كتابه هذا، كما في معظم كتبه الصادرة سابقا، قراءة مجموعة متنوعة من الكتب معظمها صدر في مدينة البصرة، تضم أجناسا أدبية وثقافية متنوعة في الشعر والرواية والموسيقى والرسم والمسرح وتاريخ مدينة البصرة. وتبدأ رحلته مع الشاعر مجيد الموسوي بعنوان «رثاء الذات عبر الآخر» يكثف فيها رؤيته لعالم الشاعر، فيرى في جمالية قصائد الشاعر مجيد الموسوي أفقا تحتدم فيه الروح (ويغدو فيها الإمساك بالبدء والمنتهى أقرب للمستحيل) فتصبح القصيدة لديه «تريد أن تقول شيئا، أن تبوح بسر ما، برؤية، بحلم، بشيء مدهش، شيء من السحر يؤجج الأعماق ويشعل الروح، إنها أشواق متحدة بالأقاصي ونشوة شاملة تتلبس الروح».
ويلاحظ العايف وجود مهيمنات في ديوانه «كوابيس أنكيدو» للشاعر الموسوي يكون فيها الراثي هو المهيمن والمرثي غالبا ما يقصى إلى الخارج، ليصبح النص «هو في النهاية نص الموسوي ذاته وشخصيات النص رمزية تتجه إلى رثاء ذاته من خلال رثاء الآخر». والعايف يتماهى مع الشاعر الراحل فيعبر مسافة (الوسيط)، ليتحدث عن هواجس شخصية الشاعر الخاصة بفعل العلاقة العميقة التي تربطهما حين يقول «بالنسبة للموسوي القصيدة لا تولد من فراغ، أو من حسن النوايا، إنها معاناة خاصة تجمع طرفي التأمل والشكل، أي تفريغ رؤية الشاعر في شكل»، و»حين يرى مواجهة الشاعر للواقع الضاري برومانسية عالية» فإنه يسجل له مواقف حادة يلعن فيها الحروب، مستعيرا من هنري ميللر مقولته الشهيرة «الحرب هي شكل من أشكال الجنون، سواء أكانت أهدافها نبيلة أم منحطة». وخلال هذه السياحة في شعر الشاعر مجيد الموسوي، يعمد الكاتب الراحل إلى تطريز قراءته بما كتبه القاص محمد خضير، والشاعر الناقد مقداد مسعود عن هذا الشاعر، وينهي قراءته بتدوين السيرة الثقافية للشاعر وتاريخ ولادته، وما أصدر من مجاميع شعرية.
وفي كتابته عن «البصرة جنة البستان» يستغرق في كشف معاناة الغربة التي تحملها الشاعر مهدي محمد علي، وهو يحمل معه مدينته البصرة في كل مكان هاجر إليه، ويضيف إلى معاناة الشاعر ما حصل للمدينة خلال فترة غربته الطويلة حين «بدأت تثلم منذ إزالة (الطاق) في العشار ومبنى (البنك العربي) و(ساعة سورين) وتغيير ملامح (كورنيش ) شط العرب وساحة أم المبروم والإجهاز على أكثر من 17 دارا للعروض السينمائية الصيفية والشتوية واختفاء كافتيريا (علي بابا)». وهي معلومات إضافية لم ترد في كتاب «جنة البستان»، بل هي وجهة نظر الكاتب عن الخراب الذي طال المدينة مقارنة بما كانت عليه أيام طفولة الشاعر مهدي محمد علي التي جسدها في جنته.

يلاحظ العايف وجود مهيمنات في ديوانه «كوابيس أنكيدو» للشاعر الموسوي يكون فيها الراثي هو المهيمن والمرثي غالبا ما يقصى إلى الخارج، ليصبح النص «هو في النهاية نص الموسوي ذاته وشخصيات النص رمزية تتجه إلى رثاء ذاته من خلال رثاء الآخر».

وعن تاريخ البصرة الثقافي والسياسي يتناول الراحل جاسم العايف كتاب «عبير التوابل… وتلك الموانئ البعيدة» للأديب إحسان وفيق السامرائي، بالنقد والتحليل، مقترحا عليه إضافات مهمة غابت عن ذاكرة إحسان، بفعل المادة الضخمة التي كتبها عن المدينة (638 صفحة) يستثمر السامرائي لأجلها (مئات المصادر التاريخية والحديثة من كتب وصحف ومستندات ووثائق حكومية منسية ومذكرات شخصية ورسائل خاصة، بحيث أصبح كتابه هذا كما وصفه الشاعر حسين عبد اللطيف «متحفا فيه كل نادرة عجيبة وقائع وأحداث حكايات وأساطير نوادر ومآسي فيضانات وأوبئة».
من الأحداث المهمة في تاريخ المدينة التي ذكرها الراحل العايف، ولم يرد لها ذكر في الكتاب إضراب عمال شركة النفط في البصرة، الذي كان حدثا مهما في المدينة وقد كتب عنه الروائي مهدي عيسى الصقر روايته الموسومة «رياح شرقية رياح غربية»، في حين يتحدث السامرائي بدلا عن ذلك بشكل مفصل عن تنقيبات هذه الشركة في البصرة «ومنجزاتها الكثيرة ومنها تطوير القطاع النفطي وبناء مستشفى خاص». ومن الأحداث المهمة في المدينة التي لم يتطرق إليها الكتاب «المعركة الضارية التي جرت فيها بين القوات البريطانية والمتطوعين العراقيين لقتالها على أرض الشعيبة ذاتها خلال ثورة العشرين». وحين يتناول (السامرائي النشاطات الثقافية والفنية في عموم مناطق البصرة، بكل أقضيتها وبعض مناطقها، لا يذكر محلة (الجمهورية/الفيصلية) وما فيها من حركة ثقافية – اجتماعية) ثم يدرج العايف اسماء مجموعة من مثقفي محلة الجمهورية ورساميها وشعرائها، منهم الشاعر كاظم الحجاج والفنانان فيصل لعيبي وصلاح جياد، كما يذكر القاص لطيف ناصر حسين والفنان طارق الشبلي والشاعران الشعبيان أبو سرحان وفالح الطائي وغيرهم).
وبعنوان «الحفر في تاريخ المدينة»، يعاود الكتابة عن مدينته التي أدمن التعلق بها وبتاريخها، بقراءة كتاب «ذاكرة البصرة» وهو الكتاب الوحيد الذي صدر ضمن سلسلة كتب خاصة بالبصرة، كان المفروض أن تصدرها وزارة الثقافة بالتعاون مع مركز دراسات البصرة ـ لكنها توقفت بسبب الظروف المالية. ومن القضايا التي استوقفت الكاتب ما كتبه الشاعر حسين عبد اللطيف عن تاريخ الحركة الثقافية في البصرة، خلال فترة سبعينيات القرن العشرين، ولكن ذاكرته أهملت العديد من النشاطات والوقائع الأدبية مثل، تأسيس اتحاد الأدباء في البصرة الذي تأسس كما يؤكد العايف (بداية الستينيات من القرن العشرين) برئاسة القاص محمود عبد الوهاب وعضوية (الشعراء سعدي يوسف، وعبد الرزاق حسين وكاظم نعمة التميمي والقاص مهدي عيسى الصقر والسيدة نهوض إسماعيل) وقد أغلق هذا الاتحاد بعد عام من تأسيسه لأسباب (سياسية)، ولم تحصل «الموافقة على فتح فرع للاتحاد إلا في منتصف الثمانينيات». ويستثمر الكاتب عرضه لهذا الكتاب ليقدم من خلال ثقافته ومعرفته الموسوعية عن تاريخ المدينة طبيعة البنية السكانية والدينية لهذه المدينة «كون سكانها خليطا متنوعا من الأعراق، وأتباع الأديان والمذاهب والأقليات الدينية. وهناك معبد لليهود وكنائس متعددة وثمة محفلان للبهائية، وأكثر من مندى للصابئة، وكان السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والإنجيليون الأرمن واللاتين والكلدان والصابئة والبهائية، يقيمون طقوسهم الدينية بمنتهى الحرية والتسامح، قد استثني من ذلك البهائية بعد أن حرمت بموجب القانون». ومن خلال هذا الاستعراض الذي لم يرد في الكتاب يعمد العايف إلى تأكيد وضرورة إدامة هذا التنوع في حياة المدينة، بوصفه علامة من علامات الحياة الصحية السليمة في المجتمع المدني الحديث.
وحين يتناول كتاب الباحثة فاطمة عيسى جاسم الموسوم «غائب طعمة فرمان روائيا» يستعير من الناقد محمد جمال باروت توصيفه لفرمان بأنه «برلمان الحياة العراقية» ويضعه عنوانا لقراءته، ولا يكتفي بذلك بل، يوظف قراءاته المتنوعة عن فرمان، باعتباره رائدا في كتابة الرواية العراقية، كما أنه طيلة حياته في المنفى استثمر ذاكرته الخصبة في استحضار شخوصه الشعبيين، وجسدهم في روايته.. ويكتب العايف أن الروائي «دافع عن أشخاص يعرفهم اجتماعيا ويتبنى قضاياهم ويتعاطف معهم إنسانيا، مؤكدا في هذا كله أن قضيته إنسانا وكاتبا لا تخرج عن هذا الإطار». والكاتب هنا يؤكد موقفه هو من ضرورة التزام الأديب: الشاعر والروائي والناقد والفنان بقضايا الإنسان وانحيازه للناس المهمشين والضعفاء والذين وقع عليهم الظلم للدفاع عنهم، وانتشالهم من الواقع الذي يكبل حركتهم وحريتهم وهو ما فعله الراحل طيلة حياته.
إن كتاب «في ألق الكتب» سياحة ثقافية في عالم الكتب، وتاريخ ذاكرة حية تنقب وتستكشف وتضيف إلى عالم الكتب ما يكمل ويغني، يستثمر فيها الكاتب جاسم العايف، موضوعاتها، ليقدم من خلال ثقافته المتنوعة ويقظة ذاكرته، وتوجه أفكاره نحو التغيير الإيجابي لصالح الإنسان، عصارة فكره، وخلاصة آرائه عن العدالة والحياة اللائقة بالإنسان، التي آمن بها، وعاش حياته دفاعا عنها.

٭ كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية