من الممكن أن يستدعي عنوان المقال في أذهان بعض القراء عنوانا آخر للكاتب الفرنسي مرسيل بروستMarcel Proust هو “ في البحث عن الزمن الضائع”. غير أنّ من لا يعرف هذا العنوان سيعتقد أنّ العنوان من ابتكارنا ولا جذور له قديمة. الربط الذهني بينالمتشابهات أو المتقاربات هو نشاط يمكن أن يتحقق لسانيا بما يسميّه اللسانيون علاقات جدولية بين الكلم. فعلى سبيل المثال فإنّ المتكلم حين يشرع في الكلام يبدأ بالاختيار فينشط في كل مرة كلمة واحدة من الكلمات التي تتنافس على أن تظفر في ذهنه بالتنشيط وكأنّها كانت مقيّدة في سجن الذاكرة وتريد أن يحررها الاختيارمن قيدها فتستعمل في الكلام. حين اختار مارسيل بروست ‘ في البحث عن الزمن الضائع’ بالفرنسية ‘A la recherche du temps perdu ‘ اختار حرف الجر المناسب من حروف أخرى لأنّه هو الذي يستجيب أكثر من غيره للمعنى المطلوب واختار بقية الكلمات تحت ضغط القاعدة والاستعمال والبحث عن المعنى. يقول اللسانيون بدءا من دي سوسير إنّ للكلمات علاقات ذهنية جدوليّة هي التي توجّهنا إلى أن نغترف من الأواني المتماثلة في الذهن: آنية الحروف والأفعال والأسماء وكل آنية تفضي بنا إلى أخرى حتى نصل إلى الغاية والمبتغى.
لكن ما الذي جعلني أفكر في جملة بروست لكي أختار هذا العنوان؟ لقد خزنت في ذاكرتي عنوانه و حاولت أن أنحت على شاكلته عنوانا مماثلا. ليست المسألة شكلية كما يعتقد بل هي إدراكية وتمثيلية. هي إدراكية لأني وقبل أن أختار عنوانا شبيها بعنوان بروست كنت في ضرب من تمثل حقيقة المعنى وكأنّه شيء يمكن أن يضيع؛ وأنا كالباحث عنه تماما كما كان الزمان بالنسبة إلى بروست شيئا قابلا لأن يضيع وهو يبحث عنه. لكني لا أنا ولا بروست نتحدث عن المعاني الأصلية لأنّه لا الزمان يضيع ولا المعاني تضيع إن نحن فهمنا الضياع على أنّه فقدان لشيء مادي ملموس يمكن أن نبحث عنه ونجده أو لا نجده.
وما بيني وبين بروست شيء مشترك في اختيار هذين العنوانين: هو آلية التفكير الاستعارية. نعني بآلية التفكير الاستعاريّة أنّ بروست استعار للزمن المجرد غير القابل للضياع شيئا من التجربة الملموسة القابلة للضياع.وبحكم أنّ للبشر جميعا تجارب مادّية مشتركة في إضاعة الأشياء والسعي إلى البحث عنها، فإنّ بروست استعار للمجرد المعقّد المبهم والملغز شيئا ماديا قابلا لأن يَستوعب ما لا يستوعب. الزمن لا يضيع في الأصل ولكنّ البشر جعلوه قابلا للضياع وجعلوا البشر قابلا لأن يخوض تجربة في البحث عنه. ونحن نعرف جميعا أنّ الزمن لا يمكن أن يوجد بعد بحث وهذا اعتقاد سائد حتى عند الناس الذين يؤمنون بأن الوقت يقبل أن يضيع و عندالشعوب التي تعتقد أنّ الزمن لا بدّ أن يضيع حتى لا يشعروا بوطأته عليهم فيبددونه بالصيد أو باللعب واللهو أو حتى بالخصومات التي لا معنى لها.
الخصومة التي لا معنى لها هي خصومة ضاع معناها؛ وهذا وجه من وجوه فقدان الأشياء معناها الذي يعنينا في هذا الإطار. لكنّنا نعلق الكلام فيه وقتيا حتى نواصل التمييز بين استعارتي واستعارة السيد بروست. استعارتي لفقد المعنى هي في الحقيقة عالقة باستعارته فأنا دخلت سوق الاستعارات المشتركة والمتاحة وبدلا من أن أعبّر عن فقد المعنى وعن ضياعه قصدت شكلا من ذلك الفقد يذكر باستعارة بروست بل بالصيغة التي استعملها في استعارته؛ وهكذا استعرت طريقة قول وأنا أبني استعارتي في تجربتي مع المعنى. عادة ما يسمّى هذا الضرب اقتباسا أو أخذا أو اصطرافا أو سرقة أو تناصّا بحسب نوايا من يأخذ المعاني أكانت شرعية علنية أم لم تكن كذلك ؛ أكانت واعية أم لم تكن. لكن كيف يمكن لي أن أبني جملتي (في البحث عن المعنى الضائع) وأنا لم أعرف من قبل أنّ هناك من بنى جملة شبيهة بجملتي اسمه بروست؟
لقد أوهمنا كثير من النقاد القدامى بأنّ شكلا من السرقة في الشعر كان من باب الصّدفة أو من باب وقع الحافر على الحافر. كانوا يعنون أنّ الشاعرين يمكن أن يبنياالمعنى نفسه ويكسوانه اللفظ نفسه والإيقاع نفسه. ويأتي الناقد ليبرّئ أحدهما لأنّه حين صاغ الكلام كان حافره بقياس حافر فرس آخر للكلام لا يعرفه: أيّة صدفة عاثرة هذه؟ لو ضاع المعنى الذي بنى عليه الثاني لحلّت العقدة أمّا أن يبحث الناقد عن شكل من المعاني التي ضاعت لكي يقارنها –شكلا ومضمونا– بالمعاني التي يتحدث عنها، ففي ذلك بحث مسبق الإضمار والترصد عن المعاني التي لو ضاعت لكان في ضياعها راحة: ما دام فيها تكرير للمعنى والشكل والصيغة نفسها.
لنعد إلى بحثنا عن المعاني الضائعة من البداية لكي نسأل: هل تضيع المعاني مثلما يضيع الزمن؟ وهل للمعاني الضائعة باحثون كالباحثين عن الزمن الضائع؟هناك أشكال ثلاثة تضيع بها المعاني: الشكل الأول بهجرها وحين تهجر المعاني لا يمكن أن يفكّر المرء في إعادة صياغتها. معنى القربان الأسطوري والديني القديم ضاع اليوم في أضاحي عيد الأضحى. بقيت التسمية وضاعت الحاجة إلى معناها. البحث عن المعنى الضائع يكون دائما في شرح معنى الأضحى في عيد الأضحى. الشكل الثاني لضياع المعاني هو تكريرها حتى تنسى وجهها الأصلي وخير مثال على ذلك عبارةسيّارة التي فقدت استعمالها الأصليّ لأنّا بتنا نكرّر معناها المستحدث فما يهمّ المتكلم اليوم وهو يستعمل لفظةسيارة في الحديث عن الركوبة المتحركة المعروفة من أن يعرف أنّ القافلة كانت قديما تسمّى سيّارة وأنّ الرابط بينهما يمكن أن يبحث عنه في صيغة المبالغة سيارة التي كانت تعني كثرة سير القوافل الذاهبة إلى الأقاصي.
البحث عن المعنى الضائع نصّيّ في هذا السياق وهو موجود في سورة يوسف في قوله تعالى :(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم). الشكل الثالث من أشكال ضياع المعنى والبحث عنه هو الذي في العبارات الجاهزة والأمثال. فالعبارات الجاهزة هي عبارات فقدت معناها القريب الذي تؤلفه أغلفة العبارات؛ فعبارة ( فلانينفخ في الماء) لا تعني معناها المباشر وإنما تعني أنّفلانا يفعل فعلا غير مفيد. وللمرء بعدها أن يبحث عن علاقة المعنى الحرفي بالمعنى الاستعمالي أو المتداول. ومن أمثلة هذا الضرب أيضا الأمثال فهي وإن حافظت على معناها فإنّها لا تدلّ إلاّ على سياقات فقدت علينا أن نكملها. علينا أن نعرف قصة المثل وهذه القصة يمكن أن تكون من صنعة بعضهم و قد أراد أن يأكل بعقلنا حلاوة كي يربكنا فصدق الناس روايته وباتوا، في ظل ضياع المعنى الأصلي، عالة على معناه القديم يستحضرونه. هذا شكل من أشكال أنّ البشر يمكن أن يضيعوا المعنى أو يدّخروه أو ينسوه أو يتناسوا أين أخفوه.. وعلى القادمين من بعدهم ليس لهم مفاتيح ذلك المعنى أن يفكروا في البحث عن أشباه مفاتيح بها يفتحون أبواب المعاني التي أضاع الناس أقفالها أو فقدوا مفاتيحها: ليس عليهم وقتها إلا أن يعيدوا تركيب مغاليق جديدة ويصنعوا لها المفاتيح الجديدة وسوف يضيعونها ذات مرة لينشأ شيء جميل اسمه التأويل.
وجد السيد بروست شيئا من الزمن الضائع في “روايته النهر“ ونحن نجد المعاني في عبارات قصيرة أضاعها الاستعمال مرة ونسيتها الذاكرة أخرى؛ المهمّ أنّ هناك رابطا بين الزمن الذي يضيع والزمن الذي يوجد والمعنى الذي يضيع والمعنى الذي يلقى هو: الكلام.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية.