يقول الماغوط معبراً عن هاجس الكتابة:
في المساء يا أبي
مساء دمشق البارد والموحش كأعماق المحيطات
حيث هذا يبحث عن حانة
وذاك عن مأوى
أبحث أنا عن «كلمة»
عن حرف أضعه إزاء حرف
مثل قط عجوز
يثب من جدار إلى جدار في قرية مهدمة
ويموء بحثاً عن قطته…
إنّ قلمي يشم رائحة الحبر
كما يشم الذكر رائحة الأنثى
ما إن يرى صفحة بيضاء
حتى يتوقف مرتعشاً
كاللص أمام نافذة مفتوحة
تستوقفنا في هذا المقطع الماغوطي بامتياز، ثلاثة تشبيهات تنضح من مخزونها الغريزي، هي (القط العجوز يموء ويبحث عن قطته والقلم يشمّ رائحة الحبر كما يشم الذكر رائحة الأنثى، وارتعاش قلم (الشاعر) كاللص أمام الصفحة البيضاء) للتعبير عن هاجس الكتابة عند شاعرها، باعتبارها حاجة ملحة صريحة غير مواربة، بعد أن تنزاح فيها حاسة الشم من القط إلى قلم الشاعر، بل إلى الشاعر ذاته. وهي ليست مجرد تشابيه وظيفية باردة، بل حارة تنطلق من الإلحاف الغريزي المحموم، للقط الموسوم بالشمّية القصوى، وبالمواء القابلتين للتحوّل من صفة فنية تصويرية عارضة في القطّ إلى صفة ثابتة في شاعرها، لذا سيتمّ تجاوزها وتحويلها من القطّ إلى الشاعر المعني، محفوفة بكل خصائصها الغريزية الشمية والصوتية والحركية، كما سيتم تجاوز إرهاف حاسة الشمّ المستعارة للقلم وكامل الصورة الشعرية (كما يشم الذكر رائحة الأنثى ويرتعش كاللص أمام الصفحة البيضاء) بما تنطوي عليه من الحسية وتعبيرات الغريزة الفطرية أيضاً، لتسفر عن علاقة الشاعر الماغوط بالقلم كوسيلة للكتابة أو للشعر، وهي كلها تحفزها في المقطع السابق مثيرات تتصدرها حاسة الشمّ المضمرة في القط العجوز وبالمواء (الصوت) لتعبيره الصريح عن إلحاح الحاجة أو إلحافها، وقد اتخذت دلالاتها الجديدة من خلال السياق التعبيري والتصويري، مبرزة علاقة غريزية فطرية بينهما، وهي ذاتها التي انسحبت على العلاقة البصرية ارتعاش القلم أمام (الصفحة البيضاء) باعتبارها المؤثر البصري الفاضح، الذي أوحى في السياق بارتعاش الشاعر نفسه أمام صفحة امرأة، وحيث يمكننا بسهولة، أن نستبدل أطراف العلاقة، بين القط وقطته، والقلم والحبر، والارتعاش أمام الصفحة البيضاء بالشاعر ذاته ومفقوده، أو ما يبحث عنه في هذا الخواء الكبير، (ليل دمشق الموحش كأعماق المحيطات)، تتجلى حالة اغتراب وجودي عميق، يتشارك فيها الشاعر بالغربة مع الصعاليك المشردين بلا مأوى والسكارى، ويختلف عنهم في بحثه عن مفقوده الخاص، الكلمة الوحيدة، التي تعيد إلى نفسه القلقة الهدوء والألفة والتعرّف على (أناه) عبر إشهار صوتها وحواسها، في عالم الفقد والخواء الكبير.
إنها الكتابة جنس التوق والإرهاف والترقب والقلق والإلحاح، كما برزت عند الشاعر الماغوط، بل ربما هي التعويض عن إحباط الجنس الغريزي في بلوغ جنة الحب المشتهاة، فهل تكسر الكتابة هذه الصورة الميتافيزيقية المشتهاة؟
وسواء تقصّد الشاعر تلك التشبيهات الفضّاحة – ولا أظنه إلا قاصداً متعمداً – التي تماهي بين الكتابة والشهوة أو وقع عليها بحسه الفني وانتقل بها من فضاء المشبه (القطّ، القلم يشم ويرتعش) إلى فضاء دلالي آخر، فإن الشاعر يحلّ كطرف رئيسي في المعادلة، التي تأخذ منحى الميل باتجاه علاقات الشاعر الغريزية بالشعر، بعد أن تداخل معها وتشابك بالأحاسيس والمشاعر وتبادل المواقع، ثمّ انفصل عنها، بتغليب طرفها الحسي الجنسي الأعم، على الآخر الخاص (الكتابة) باعتبارهما شريكين في الوظيفة السيكولوجية الجنسية وبمرجعيتهما إلى العقل الباطن واللاوعي، قبل أن يلوي العقل الواعي أو (الأنا الأعلى) اتجاهها الغريزي المحض، لينحيّه جانباً ويبقي على الكتابة الشعرية، وقد تشرّبت كامل الأبعاد الغريزية للقلم وشهوته للكتابة، متماهية بجوى الشاعر وتلهّفه واندفاعه، وقد أضفى عليها أو عليه البعد الوجودي والهاجس الغريزي، الذي لا يملك خياراً سوى الاستجابة لندائه.
ببساطة مطلقة، يمكن أن ننسب للشاعر الماغوط السبق في التعبير والمماهات بين هذين البعدين العميقين، السيكولوجي والفلسفي، وفي مدى انغماس تعبيراتها الغريزية في الليبيدو، أو في تشكل علائقها التشبيهية في ذاكرة حسية لاواعية يهيمن فيها العقل الباطني على مخيلة الشاعر وأدواته، وهو يستحضر هذه الصورة التي استدعتها حساسية عقل ذكوري صارخ فضّاح، رغم أنّ كلاً منهما، الكتابة المقصودة والجنس، قد تطور بمعزل عن الآخر، وراكم عبر التاريخ طقوسه وثقافته وتقاليده وأخلاقياته، وما اكتسبه من الخبرات، أو ما أخضعه أو منعه عنه (الأنا الأعلى) الفردي أو الاجتماعي، حتى إذا استقرت ونسي الجميع جذر هذه العلاقة بينهما، احتاج الأمر إلى شاعر بوهيمي هجومي كالماغوط، لكي يعيد نبشها ودفعها محفوفة بما يرافقها وما يتلوها من الجـــوى المجدد للدافع الغريزي كلما خمد.
قد ينظر بعضهم إلى هذه المقاربة باعتبارها (لزوم ما لا يلزم) لكنهم لن يكونوا إلا كمن يضيف إلى محظورات البحث والتقصّي محظوراً جديداً ويحكم بالتوقف عن جلاء الالتباسات المتحايثة، فهم ببساطة يخطّئون كلّ من يعطى للكتابة بعداً غريزياً، حتى إن بدت الأولى (الغريزة ) عامة والثانية (الكتابة) فردية، وهم ينكرون، أن تنطلق كلّ من الكتابة الإبداعية والجنس مدفوعين بجوى النفس وتوقها إلى التحرر، فالحرية، بعيداً عن الاستباحة السائدة في ثقافة السوق لكليهما وتسليعهما. وإذا كانت الكتابة وسيلة اتصال معرفية، تحمل بعداً وجودياً، وترقى عبر جمالياتها الإبداعية، لتغدو وسيلة وغاية في آن، والجنس حالة اتصال وجودية خاصة، تحمل معنى إنسانياً وثقافياً، من دون أن يفقد حضوره المستقل، فإن القارئ، يأخذ دور الشريك بالتفاعل مع حيوية المنجز الثقافي، الذي يعبر عنه بالمخاض والولادة، وفي الإرهاف والانصات إلى نبض الجنين في كليهما وصولاً إلى الحالة الأسرية، التي تضيف المسؤولية إلى الحرية الفردية وما يوازيها في الكتابة من تصدّر اسم صاحب الكتاب على الغلاف، وحيث القيمة كل القيمة، في ما يبثه المنجز الثقافي من إشعاعات معرفية وجمالية أبعد من دفتيه، وربما أبعد من حدوده المحلية والوطنية.
إنها الكتابة جنس التوق والإرهاف والترقب والقلق والإلحاح، كما برزت عند الشاعر الماغوط، بل ربما هي التعويض عن إحباط الجنس الغريزي في بلوغ جنة الحب المشتهاة، فهل تكسر الكتابة هذه الصورة الميتافيزيقية المشتهاة؟ أم هل يشبع القلم وهو أحد رموز الغريزة وهم الحب ويحصنّه، من أن يتحول إلى وظيفة نمطية مبتذلة؟
٭ كاتب سوري