ليس بيننا وبين الشعراء «الآباء» من الذين اصطلحنا عليهم بـ«الرواد»، تلك الحجب الكثيفة من الزمان والمكان، التي تفصلنا عادة عن شعراء القرون الخوالي. فنحن، إذا سوغت لنفسي أن استأنس ببيار نورا في كتابه «أماكن الذاكرة» (بالفرنسية) ننتمي إلى «الحدث الجيلي» نفسه. وأقصد الجيل الذي يعي نفسه، ويعي ما يفصله عن الأجيال الأكبر منه سنا، ومثاله في فرنسا «جيل الرومانسية». فقد أدرك هذا الجيل أنه يكوّن بعد الثورة الفرنسية، وبعد الإمبراطورية، مجموعا متجانسا استطاع أن يعيش تجربة تاريخية واحدة، وفي سياق هذا الوعي، اشتغل أفراده بـ«أنموذج» أو «مثال» أو «منوال»؛ أو «مكان ذاكرة» بالنسبة إلى الكتاب والمثقفين والمفكرين اللاحقين الذين يتمثلون بهذه الحقبة، أو هم يُحيلون إليها، وكل هؤلاء تقريبا يستخدمون مصطلح «جيل» كلما تعلق الأمر بمجرى الزمن ودواماته.
ومثال ذلك أيضا جيل السابع والعشرين في تاريخ الشعر الإسباني، وهو المثال أو المرجع الشعري طوال عقدي العشرينيات والثلاثينيات؛ فهو يضم الشعراء الذين ولدوا ما بين 1893 و1907 وهي فترة قد تلوح قصيرة، أو هي لا تبرأ من تعسف ومبالغة، ما تعلق الأمر بـ»التحقيب». ولعل رأي آخرين في أن ثلاثين عاما هي الفترة الزمنية المثلى بين جيل وآخر؛ أي أن ظهور الأجيال يتحدد بالعام الذي يبلغ فيه أفرادها سن الثلاثين. وهؤلاء الذين يعيشون في عالم واحد، ويكون بينهم تواصل، نجدهم في الأغلب الأعم يعبّرون عن مشاغل ومواقف مشتركة أو متقاربة.
لنأخذ مثلا موضوع «الجيل» في العالم العربي؛ وهو مصطلح ديموغرافي بالأساس، وكل منا ينتمي إلى جيل اكتنفته مؤثرات شتى أو ألمت به، بنسبة أو بأخرى، ولنسأل: ما الجيل؟ وكيف نحدد هذا الجيل في بلدان يكاد كل منها يكون عالما قائما بنفسه؟ وأي دور يمكن أن ينهض به هذا الجيل أو ذاك، في عالم الأدب، وتحديدا الشعر؟ وهناك في الشعر العربي جيل ما قبل الاستقلال، وجيل ما بعد الاستقلال، بل هناك من الكتاب والفنانين والشعراء مثلا، من يرى أن المبدع الحق «لقيط» أو مجهول النسب متهم الأصل، وهو يرفض من ثمة أن يضع نفسه في جيل بعينه، ويبحث عن طريق ثالث، عدا طريق الشواهد الحجرية؟
هل بإمكاننا أن نستدل بفترة معينة فارقة في تاريخنا الحديث، أو مفصلية؛ نتدبر بها الزمن الشعري بمصطلح «الجيل»؟ الحق أن الفترات أو اللحظات الفارقة ليست بالقليلة في تاريخ البلدان العربية الحديثة، ومع ذلك أجدني آخذ بالاعتبار أن المدارس الجديدة أو المستحدثة هي الأساس في ظهور ما يمكن أن نسميه «جيل المدارس» أو «الجيل المدرسي» في هذا البلد العربي أو ذاك. وقد كان «الكتاب» أو «المدرسة القرآنية»، يجمع أجيالا متفاوتة في السن؛ في حين أن المدرسة الحديثة بمعمارها الغربي وطاولاتها وكراسيها، وهيئة معلميها، تجمع أجيالا من السن نفسها تقريبا.
هل بإمكاننا أن نستدل بفترة معينة فارقة في تاريخنا الحديث، أو مفصلية؛ نتدبر بها الزمن الشعري بمصطلح «الجيل»؟ الحق أن الفترات أو اللحظات الفارقة ليست بالقليلة في تاريخ البلدان العربية الحديثة، ومع ذلك أجدني آخذ بالاعتبار أن المدارس الجديدة أو المستحدثة هي الأساس في ظهور ما يمكن أن نسميه «جيل المدارس» أو «الجيل المدرسي» في هذا البلد العربي أو ذاك.
وهي أجيال تتحدر من أصول مدنية، ومن أصول ريفية، وأكثرهم ممن اضطر إلى الابتعاد عن أهله، وعن البيئة التي نشأ فيها ودرج؛ ليجد نفسه في بيئة جديدة، يتقاسم مع أصدقاء «غرباء» حياة واحدة، حيث مناهج التعليم واحدة والقراءات هي نفسها، والآمال والأحلام هي نفسها، مدرسة بروحين: روح التضامن العمودي: المعلم/ التلميذ المريد أو المبتدئ، وروح التضامن الأفقي بين أفراد الجيل اليافع أو الشاب نفسه، وهكذا ظهرت في ثقافتنا الحديثة، مصطلحات لم تكن تجري على ألسنة أسـلافنا، كما تجري على ألسنتنا نحن بيسر وسهولة. ولعل أكثرها دلالة هذا الاستعمال الشائع «زميل دراسة»؛ وعليه تأسس نمط جديد من شبكات الصداقة والرفقة، يتقاسم أصحابها تجربة تاريخية مشتركة، أو شعرية كما في علاقات جيل شعراء الحداثة في العراق ومصر وبلاد الشام وبلاد المغرب.
وهو مما يسوغ الرأي في أن «الجيل» مفهوم جديد زمانا ومكانا، بل هو مرتبة من مراتب المعرفة الأساسية، نشأت في ثقافتنا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مركزين كبيرين: بلاد الشام ومصر. ثم كانت لهما فروعهما في سائر البلاد العربية. على أن خواص هذا الزمان وهذا المكان غير ثابتين، ومعاييرهما نسبية، على الرغم من وحدتهما العضوية؛ فقد يحل المركز محل الهامش، والهامش محل المركز، وقد يكون الزمان بطيئا في نظام سريع الحركة، وقد يكون أقصر في نظام عديم الحركة، وما إلى ذلك، مثل نسبية الماضي والحاضر، حيث الماضي هو المكون الفاعل كما هو الحال في ثقافتنا نحن، حيث تتعايش أجيال مختلفة حد التباين بالجملة.
أما إذا توخينا «تحقيبا» أكثر دقة، بمعزل عن مفهوم «الجيل»؛ فقد لا نجد أفضل من الخطاب الشعري نفسه، وهو خطاب يتجاذبه، وأنا أستعير عبارات أهل الفلسفة، طرف «الأبولونية» بكل ما تعنيه من توازن وتناسب وتناغم… و»الديونيزوسية» بكل ما تعنيه من مصادفة وعشوائية وغرابة.. ومثال «الأبولونية» عند الرواد بدر شاكر السياب المأخوذ بمتانة اللغة والوزن والتقفية، والأقرب إليه أحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش وسعدي يوسف وسامي مهدي، وليس البياتي من أبناء جيله أو بلند الحيدري.
وأما «الديونيزوسية « فمثالها أنسي الحاج وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر ويوسف الصائغ ومحمد بنيس وأمجد ناصر، وغسان زقطان وحسن نجمي وصلاح بوسريف وخالد النجار ومها العتوم.. أما أدونيس فيراوح في الفسحة القائمة بينهما شكلا، وصورة ودلالة؛ فهو «أبولوني ديونيزوسي» في جل شعره، وهذا مبحث قائم بذاته. وقس على ذلك شعراء لم يشتهروا شهرته مثل فتحي النصري وعلي اللواتي في تونس. وربما لاحت الصورة في جل قصائده النثرية غريبة أو انقطاعا في سيرورة تجربته؛ أو هي تنطوي على تركيبة انفلات تجعلها تتوارى حتى على تشكلها الخاص. ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقرأ هذا الشعر من حيث هو مدونة واحدة، وإن تعددت القصائد وتنوعتْ.
وأعني بـ«شعرية الأثر» أثر اللغة التي يطويها النسيان أو ما يتبقى بعد أن تُعفيَ الذاكرة كل شيء حيث تنهض الأسماء ومسمياتها بـ«طوبوغرافية متخيلة» تصل بين أزمنة وأمكنة متحولة، وتكتنه الفضاء من حيث هو مكون جمالي لشعرية الأثر، وتؤسس الكتابةَ تَغْرِيبًا لأوضاع طبيعية أو لأشياء مألوفة.
على أن هناك «ظل الآخر» عند كل «الآباء المؤسسين» على ضرورة تنسيب الحكم، وأعني بـ«الظل» حضور الغائب، أو استخفاء الأثر. و»الأب» يمكن أن يخفي «أباً آخر». والشعر العربي الحديث عندنا في بلاد المغرب أو بلاد المشرق، محكوم في كثير من نماذجه برغبة حافزة، في مضاهاة النص الشعري الغربي. ولا يقدر أحد أن يدعي السلامة منه ومن أثره، ومن ثمة لا نستغرب أن يَشِجَ كثير أو قليل من شعرائنا نصوصهم بهذا النص (رمبو بيرس، شار، ريتسوس، كافافي أليوت…) ما دامت الكتابة «جيولوجيا» كتابات، والنص تتجاذبه نصوص، أو هو عمل مرجأ باستمرار، يجترح في كل مرة أصلا من أصوله وطقسا من طقوسه.
ولعل هذا ما يجعل المدونة الحديثة تنضوي على اختلافها، إلى «شعرية الأثر» بالمعنى العميق للكلمة. وأعني بـ«شعرية الأثر» أثر اللغة التي يطويها النسيان أو ما يتبقى بعد أن تُعفيَ الذاكرة كل شيء حيث تنهض الأسماء ومسمياتها بـ«طوبوغرافية متخيلة» تصل بين أزمنة وأمكنة متحولة، وتكتنه الفضاء من حيث هو مكون جمالي لشعرية الأثر، وتؤسس الكتابةَ تَغْرِيبًا لأوضاع طبيعية أو لأشياء مألوفة.
لا يحب «الأبولوني الديونيزوسي» لقصيدته أن تكون متاهة فاغرة، حتى وهي تحتفل بالأشياء وتسميها، ففيها تتقاطع الخطوط وتزدوج، أو تمتد في هيئات متشابكة مضفورة، أو تنكسر وتنحني وتلتوي. والشاعر يؤدي هذه الخطوط والهيئات في جمل وصور قد تنفك في مواضع، عن النسق اللغوي القائم، وتشرع المبادرة، وطمس وجه التقابل بين الصورة وعمقها أو «خلفيتها»؛ في سياق يجعل الشعرية تكمن داخل شكل التعبير، وليس داخل المعبر عنه. وهذه مما لا يقدر عليه إلا الشاعر المتمكن من لغته ومواد شعره، القادر على الموازنة بين الاحتمالات الرأسية (الصرف أو المعجم) والاحتمالات اللغوية الخطية الأفقية (النحو أو التركيب) وبين البعدين الاستعاري والكنائي أي الرمزي؛ وما إلى ذلك من تماثلات الصوت والإيقاع والصورة التي تكثف اللغة فتصرف الانتباه إلى خصائصها الشكلية وليس الإسنادية. وأقدر أن مدارسة المكون الإيقاعي والمستوى المعجمي والمستوى التركيببي النحوي، هي المهاد الذي يتيح لنا الانتقال من مكونات الشعر الأساسية إلى فروض الشعر الخيالية وتجريداته البعيدة كما تمثلها الصورة. والمكونات الأساسية ليست بالأمر الذي يستعصي رصده، إذ يمكن إخضاع كل من المعجم والتركيب لأساليب البحث العلمي الخالصة، والتقدم بها في أرض موطأة واضحة المعالم، خاصة أن مسائلها عند الشعراء «الآباء» و»تلاميذهم» لا تتزاحم، وقضاياها لا تتداخل. فلعل في هذا تكمن الشعرية «المنشودة»، حتى لا يتحول النص إلى «تشعير» بعبارة هنري ميشونيك أو «مسطح عاكس» يقع عليه ما يقع من بائد العوالم، وينجرف إليه ما ينجرف من أضواء الماضي الشعري وظلاله؛ حيث روائح الأسلاف تملأ فضاء القصيدة، والشعر يمكن أن يفسد الشعر.
كاتب وشاعر تونسي
عرض رقيق و جذاب من الكاتب و الشاعر التونسي الدكتور منصف الوهايبي