كلمة «أخلاق» باتت على الألسنة كلّها، في الجزائر، ولسنا نعلم ماذا يُقصد منها، ومن يودّ إصلاح أخلاق الآخر، فالجميع يدّعي أنّه ملاك بينما الآخر شيطان. ففي خرجة غريبة، قبل أيام، قررت «سلطة ضبط السّمعي البصري» وهي هيئة أوكل لها تنظيم سوق الإعلام في البلاد، قرّرت تعليق بثّ إحدى القنوات ـ مؤقتاً ـ والسّبب أن القناة المعنيّة عرضت، في ساعة متأخرة جداً من الليل، في ساعة لا يُشاهد فيها الناس التلفزيون، فيلماً تضمّن مشهداً «غير أخلاقي» بتعبير سلطة ضبط السمعي البصري. من غير أن توضح الجهة التي أصدرت القرار ما هي الأخلاق التي يجب على القنوات مراعاتها في التوجه إلى المشاهدين الجزائريين. هذه القناة التي صدر بحقها المنع المؤقت، ليست أكثر من قناة مغمورة، بالكاد يسمع عنها الناس، فما بالك أن يُشاهدوها، برامجها تصنف في خانة «الهواة» تبث الملل ولا تحفز على المشاهدة، لكن بمجرد أن خرج هذا القرار إلى العلن حتى صارت القناة المقصودة أشهر قناة في البلاد، بل صار الناس كلهم يبحثون عن الفيلم الذي عرضته وتسبب في منعها ـ مؤقتاً ـ فمن ساهم إذن في المساس بالأخلاق؟ (على رأي سلطة ضبط السمعي البصري) هل هي القناة التي بثّت الفيلم من غير أن يُشاهده سوى قلة من الناس؟ أم سلطة ضبط السمعي البصري، التي تناقلت وسائل الإعلام الأخرى كلها قرارها؟ فصار الفيلم محلّ الجدل يرغب فيه الجميع.
وليست هذه المرّة الأولى التي تتدخل فيها سلطة ضبط السمعي البصري في محاسبة الفضائيات بناءً على «الأخلاق» فقد سبق لها أن أوقفت ـ نهائياً ـ قناة أخرى، العام الفارط، بحجّة أنّها عرضت فيلماً تضمن قُبلة بين ممثلين. يبدو أن سلطة ضبط السمعي البصري لها حساسية مفرطة من الحبّ، كلّما شاهدت عاشقين على الشاشة تحسّست مسدس المنع، بينما كان يجدر بها ضبط سوق الإعلام في تفادي الشائعات والأخبار المغلوطة، في تفادي التشهير والطعن في الناس، لكنها نسبت إلى نفسها مهمة أخرى، وهو ضبط أخلاق الجزائريين، كما لو أن المشاهدين في مرتبة القديسين، وأنها شرطي أخلاق، ووصي على عقولهم، تجيز لنفسها الحقّ في تحديد ما يشاهدونه وتمنع عنهم ما لا يروقها.
هذه الرّقابة التي باتت تمسك بأعناق القنوات الفضائية، في الجزائر، تجعلنا نتساءل: هل هذه هي جزائر نوفمبر/تشرين الثاني 1954 أم نحن نعيش في بلد آخر؟ كما نعلم فالجزائر تؤسس تاريخها المعاصر على حدث أساسي: وهو حرب التحرير (1954-1962) هو اللحظة المرجعية في نسب الهوية الوطنية.
بين الثورة والمرقص
الغالب أن سلطة ضبط السمعي البصري تتدخل بالمنع، في القضايا التي تتعلّق بالحبّ، لا يُرضيها أن ترى ممثلين يؤديان دورهما. ففي الحالتين الأخيرتين اللتين منعت فيهما قناتين، الأولى بشكل نهائي والثانية بشكل مؤقت، لم يكن الأمر يتعلّق سوى بفيلمين، بالتالي يبدو أنّ لها حساسية مفرطة أخرى إزاء الفن، لا تدري أن ما يُعرض في أفلام ليس بالضرورة هو الواقع، كما أنهما فيلمان أجنبيان، والمشاهد يعلم مسبقاً أنّهما يتحدثان عن مجتمعين آخرين لا يخصانه، مع ذلك تتدخل هذه الهيئة وتلعب دور «الأخ الأكبر» بالزجر والمنع، في قضيتين كان يمكن التّعاطي معهما – في أسوأ الحالات – بإنذار للقناة أو غرامة مالية، لأن المنع من البثّ يعدّ العقاب الأقصى، ويضع هذه الهيئة في ورطة، فهي لم تعد مؤسسة تضبط سوق الإعلام، بل صارت أيضاً في مرتبة «إمام» فقد ورد في بيان منعها القناة الأخيرة، أن لقطة الحبّ التي عرضت في الفيلم، تتنافى والدين الإسلامي. دون أن تبلغنا هذه الهيئة ما هو النصّ القرآني الذي يتعارض مع الحبّ بين شخصين بالتراضي بينهما.
هذه الرّقابة التي باتت تمسك بأعناق القنوات الفضائية، في الجزائر، تجعلنا نتساءل: هل هذه هي جزائر نوفمبر/تشرين الثاني 1954 أم نحن نعيش في بلد آخر؟ كما نعلم فالجزائر تؤسس تاريخها المعاصر على حدث أساسي: وهو حرب التحرير (1954-1962) هو اللحظة المرجعية في نسب الهوية الوطنية. هذه الحرب التي خلّفت ما خلفته من شهداء ومن دمار وانتهت بالاستقلال، لكن هناك تفصيلا ثانويا، يجعل من قرارات هيئة ضبط السّمعي البصري ضدّ القنوات، قرارات تتعارض مع أفكار حرب التّحرير. فمع اندلاع تلك الحرب طرأ سؤال عسير: من أين التّمويل؟ من أين المال قصد شراء السّلاح وتجهيز المجاهدين؟ فانطلقت حملات تبرعات واشتراكات من أجل الحرب، كلّ مواطن يدفع ما يقدر عليه، وتسلّم له قسيمة اشتراك إثباتاً لمشاركته في الحرب: التجار، الفلاحون، الحرفيون، الجميع شارك بما يقدر عليه من مال، بما في ذلك المغنيات والراقصات في الملاهي، كنّ يدفعن اشتراكات من أجل رفاقهن في الجبال. في تلك الأثناء لم يكن رقص إحداهن في ملهى عيباً، لم تكن مغنيّة في كباريه مخالفة للأخلاق ولا للدين، لم تكن القُبلة في العلن محرّمة ولا علاقات الحبّ كذلك، كانت الجزائر واحدة في تنوعها وتعددها، كان الدين في المساجد والطرق الصوفية، والحياة لمن استطاع إليها سبيلاً، في حرب شارك فيها المسلم والنصراني واليهودي وغير المتدّين. في تلك السنوات، التي شُيّد فيها تاريخ البلاد، لم يتحدّث أحد عن الأخلاق، فالأخلاق الوحيدة كانت الالتزام بالقضية الوطنية، فماذا جرى كي ننقلب على أعقابنا؟ ونحاسب قناة لأنها تعرض قبلة بين عاشقين أو أخرى تعرض صورة حبيبين وهما يتصارحان تجاه بعضهما بعضا بمشاعرهما؟
بحكم أن سلطة ضبط السمعي البصري، قد ارتدت عباءة إمام، ونصّبت نفسها شرطي أخلاق، من أجل إرضاء الأحزاب السياسية المتديّنة التي يعجّ البرلمان بضجيجها، فلا بدّ أن تُخبر المشاهدين بالأفلام التي يحقّ لهم متابعتها. هل يجب أن يعود إلى فيلم «امرأتان» الذي دأب التلفزيون العمومي، في السنوات الماضية، على عرضه، في ابتذال تعنيف المرأة وتبرير العنف الأسري؟ أم يجب عليهم مشاهدة أفلام محليّة بسيناريوهات مستوحاة من الكتب المدرسية؟ يبدو أن هذه السلطة العليا التي تتحكم في أنفاس الفضائيات، وبالتالي تتدخل في حرية المشاهد، صارت توكل إلى نفسها مهام تتعارض مع تعريف الإعلام، ومشكلتها ليست مع الفنّ والأفلام التي تعرض في القنوات، بل غايتها ـ على ما يبدو ـ أن يُحرم المواطن من جرعة حبّ، في جزائر تكثر فيها كلّ يوم أخبار الطّعن والقتل والسلب والغرق والانتحار وحوادث المرور.
روائي جزائري
شتان ما بين محاربة الحب و محاربة الاهواء الطاءشة.