رياض نجيب الريّس
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لرحيل الصحافي والناشر السوري اللبناني رياض نجيب الريّس (1937-2020) ـ وهو الابن الأول للصحافي والسياسي نجيب الريّس ـ رحل عن عالمنا، ولعلّه أحد أكثر المؤثّرين في الثقافة العربية المعاصرة في العقود الخمسة الأخيرة على الأقل. بعد مسيرة حافلة كرسته كقامة أساسية في المشهد الثقافي العربي.
من برمانا إلى عاصمة الإمبراطورية
وُلِدَ رياض الريّس في دمشق سنة 1937 ودرس في مدارسها الابتدائية، ثم حلّ في مدرسة برمانا العالية في لبنان وله عشر سنوات، يقول الريّس: «لا أذكر أشياء تفصيلية من طفولتي ومراهقتي في دمشق، لكنني أعرف أنها كانت طفولة ومراهقة سعيدة ومدللّة. حيث نشأت وترعرت في المطبعة، وكان يصطحبني والدي معه إلى مكتب النشر وأنا ابن سبع سنين، وأذكر آخر مرة لقيته وعمري 13 سنة عند الصنوبرة الكبيرة وسط مدخل مدرسة برمانا، لا أذكر من حديثه إلاّ جملة واحدة علقت في ذهني، قال لي.. ليس لديّ ثروة لأتركها لك، لكن عندي أصدقاء كثيرون وهم ثروة أهم من المال»( الصحافة ليست مهنتي) ومن برمانا إلىلندنعاصمة الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تزال تملك شيئاً من أوجها، قبل أن يبدأ غروب الشمس عنها منذ ذلك الحين. غادر الريّس إلى كامبريدج في 1957 لاستكمال دروسه الجامعية، ليعود إلى لبنان، وينخرط في عالم الصحافة المزدهرة آنذاك، حيث تحوّل إلى حالة خاصة ومتفردة في الوسط الثقافي العربي، أو بالأحرى إلى تعامل خاص مع الثقافة وأهلها.
بعيداً عن أعمدة الدخان في بيروت
في بيروت محطات عديدة في مسيرة الريّس الأدبية والصحافية، التي قضى فيها سنوات حياته، وكان والده قد منحه اسم رياض تيمّناً برياض الصلح، رئيس حكومة الاستقلال الأولى في لبنان. ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (1975-1989) بدأ الريّس يفكر بمغادرة بيروت إلى مدينة الضباب لندن سنة 1977، هناك سيخوض تجارب صحافية متعدّدة باللغة العربية، ليصدر منها أول أسبوعيّة عربية مهاجرة في أواخر السبعينيات من قلب القارة الأوروبية باسم «المنار» ثم أسّس هناك أيضاً دار رياض الريّس للكتب والنشر سنة 1986، التي كانت مرآة لصاحبها.
عاد الريّس إلى بيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية في منتصف عام 1989، حيث يقول الأكاديمي اللبناني خالد زيادة: «عاد رياض إلى بيروت مدينته التي أحبها وأحبته، بعد دمشق التي غادرها في الصغر، فانغمس في الصحافة مع كامل مروّة في جريدة «الحياة» ثم غسان تويني في جريدة النهار». ويعلق رياض الريّس عن تجربته في «النهار» خلال عشر سنوات.. «كنت أنا الوحيد الأنكلوسكسوني الوحيد في مجتمع فرانكفوني، وغير اللبناني الوحيد فيها أيضاً».
ويؤكد الروائي السوري فواز حداد في حديثه لـ«القدس العربي»: «لم يتخل رياض الريّس عن صحافة الرأي، حتى بعدما أجرى انعطافة في مسيرته نحو الصحافة الثقافية، ليحدث زلزالاً بإصدار مجلة «الناقد» حيث كانت قفزة فارقة لا مبالغة في أنّ الثقافة لم تعد بعدها كما كانت قبلها».
الورّاق المتواضع
رياض الريّس صاحب البصمة الاستثنائية في تاريخ الصحافة العربية، والشاعر الضالّ على تخوم مجلة «شِعر» وجد بلاغته في الكتابة الصحافية، كان الراحل يوقّع مقالاته الصحافية ومؤلفاته أيضاًباسمه الثلاثي رياض نجيب الريّس، وكأنه بذلك يجعل من تجربته امتداداً لتجربة والده محاولاً استكمال ميراث الأب، نجيب الريس. يقول وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية حمد بن عبد العزيز الكواري: «عرفته أولاً من خلال كتبه، وبالذات كتبه عن الخليج العربي، وكنت أعيش بعيداً عن عالم العرب في أوروبا ثم في الولايات المتحدة، فأعجبت بلغته الجميلة وبقدرته التحليلية ومعلوماته الدقيقة والتزامه القومي، وكنت متلهفاً للتعرف عليه عن قرب». وبيّن الكواري لـ»القدس العربي»: «وجاءت الفرصة حين عُينت عام 1992 وزيراً للثقافة والإعلام في قطر، وبدأت بيننا صداقة على المستوى الشخصي والعائلي، ووجدت في صداقته إثراء لثقافتي وقد تقاربت الكيمياء وأصبحنا نتبادل الاتصالات والزيارات في بيروت والدوحة بشكل دائم». وبرحيل رياض نجيب الريس، غاب ناشر الكتب الأنيق صاحب المقولة الشهيرة: «أنا ناشر ولست بطابع كتب» ومنتهك المحرّمات في النشر والصحافة. الرجلُ شغف بالصحافة التي اعتبرها متعته الشخصية، وكان يفخر بالانتماء إلى فترتها الذهبية، من منتصف ستينيات القرن الماضي حتى بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. ويضيف فواز حداد.. «بدخوله معترك النشر، أحدث رياض الريّس تحولاً نوعياً في الحريات التي تمتع بها الكتاب الممنوع، لم يعد حبيس الأدراجن أو يُنشر سراً، بات يُنشر علناً. كان رياض الريّس صحافياً مغامراً، صاحب رأي سياسي، مثقفاً لامعاً وناشراً جريئاً، وشاعراً في شبابه، ولم يكن مشاغباً إلاّ لأنه كان ضد السائد. كلهم تجمعوا في شخصه، وكان جديراً بهم».
ويستكمل خالد زيادة قائلاً: «لقد عاد رياض في الوقت المناسب إلى بيروت، ربما لأنه ضجر من الغربة، واشتاق إلى ضجيج بيروت، وكان جزءاً من هذا الضجيج في ستينيات القرن العشرين، وهو أحد النجوم الذين صنعوا بيروت الثقافة والصحافة، في زمن كانت تُصنع السياسة والصحافة في المقاهي ويعرف الرواد حوادث الغد وأخبارها قبل وقوعها».
الشِعر
لم يكتف الريس بالعمل صحافياً، حيث تقدَّم إلى الشعر مُصدِراً ديوانين، وقد لا يعرف كثيرون أنَّ مؤلفات الريّس الأولى كانت شِعرية، وأنه كان ضمن فريق تحرير مجلة «شِعر» التي أسسّها الشاعر اللبناني يوسف الخال سنة 1957، كان الريّس يكتب ويشارك في تحرير مجلة «شِعر» برفقة توفيق صايغ وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وآخرين. وكانت منبراً رائداً للحداثة في الشِعر العربي المعاصر. لكن الريّس كثيرا ما ردّد أنه لم يكن طرفاً في تلك المجموعة، مع أنه شارك في الكتابة فيها من إنكلترا. فقد أصدر ديوان «موت الآخرين» عام 1962 ـ كتب المقدمة جبرا إبراهيم جبرا ـ فيما أصدر في سنة 1975 نصاً شعرياً بعنوان «البحث عن توفيق صايغ». يقول زيادة: «كان الريّس آنذاك شاعراً في حلقة شعراء الحداثة، إلاّ أنَّ الصحافي خطف الشاعر، وجال به في بلاد العرب صحافياً متخصصاً ببلدان الخليج. فكتب الكثير من التحقيقات التي جمعها في ما بعد في كتب، وكان بذلك يكمل ما بدأه أمين الريحاني في مطلع عشرينيات القرن العشرين في كتابه «ملوك العرب».
الاكتشاف ورهبة المغامرة
بقلم وكاميرا خاض في رمال الصحراء وعبرَ بحاراً وقارات ومدناً خرافية. بدأ أول رحلة في حياته من عاصمة الأمويين دمشق، تجوّل الريّس في عدد من المدن الأوروبية شرقاً وغرباً (بوخارست، براغ، قبرص، كوبنهاغن) وعن ذلك قال الريّس «أقنعت غسان تويني بأن يتيح لي فرصة السفر إلى مناطق الاضطراب في العالم العربي كمراسل متجوّل» حيث لم تعرف الصحافة اللبنانية قبل رياض الريّس فكرة (الصحافي الجوّال) الذي يذهب إلى مكانالحدث. فلكل مدينة زارها رياض الريّس سحر خاص، حيث يعطي الريّس وصفاً غزلياً للمدن التي زارها في رحلاته.. «المدن كالنساء، لكل منها طريقة خاصة في استقبال الرجل القادم إليها، والمدن كالنساء أيضاً، لكل منها عطر خاص يعلن عن هويتها من بعيد». (الجانب الآخر للتاريخ).
من جهته يقول محسن الكندي رئيس قسم اللغة العربية في جامعة السلطان قابوس: «لم يكن هذا الصحافي الشهير إلا صوتاً صحافيّا عربيّا محترفاً متفرداً في قلمه، متميزاً في أطروحاته، متقدماً في أفكاره، يحاول بكلّ جدارة أن يرصد الأحداث ويحلل الوقائع ويقاربها بتوازٍ منهجي دقيق أحياناً، وبلغة سلسة طيّعة تذوبُ في وجدان القارئ وقلبه وتدورُ في لسانه؛ ليخطَّ قلمه كتاباتٍ وأبحاثاً عُمانية حيّة مقروءة شملت التاريخ السياسي الممتد من عُمان الوطن الأم إلى زنجبار المهجر التاريخي المفقود». فالصحافي، كما يعطيه الريّس، وصفاً هو كمنقب عن الآثار لا يعرف أين تقوده حفرياته. فيدرك بعد فترة، وقد ملّ من التنقيب، أنه كحفار القبور الذي تعب من تراكم الجثث، فعالم الآثار وحفار القبور والصحافي ما هم إلاّ فصيلة واحدة من النوع الذي – ربما- لم يعد يحتاج إليه أحد اليوم.
ويصف رياض الريّس مشواره الصحافي قائلاً.. «تنقلت في حياتي الصحافية، على مدى نصف قرن، بين مدن تاريخية ومدن خرافية، ووقفت على أطلال قلاع وهمية وفي ساحات ثورات مجهضة، ومررت بثكنات شهدت انقلابات فاشلة، وعبرت بوادي وواحات جفّت ينابيعها ومات نخيلها. هكذا كانت محطات أسفاري .. فيها نكهة الاكتشاف ورهبة المغامرة». (الجانب الآخر للتاريخ).
مؤلفاته
كان الريّس متشبعاً بالأفكار الليبرالية ويضع حرية التعبير فوق كل اعتبار، ويعتبر نفسه سليل ثقافة الخوارج الرافضة لسطوة السائد، كما أكد في كتابه (آخر الخوارج).
رياض الريّس تجربة فريدة في العالم العربي واستطاع لوحده أن يحمل على كتفيه أجمل وأجد وأنقى ما في الثقافة العربية المعاصرة، بالكثير من الإيمان والتضحية والشجاعة. ترك الريّس مؤلفات كثيرة ومهمة تعتبر مراجع في التاريخ السياسي وعن مهنة الصحافة وتجربته الشخصية فيها، تصل إلى أكثر من 40 كتاباً، من أبرزها.. «الخليج العربي ورياح التغيير» «قبل أن تبهت الألوان صحافة ثلث قرن» و»صحافي المسافات الطويلة» وهذا الكتاب هو عبارة عن مذكرات الريّس التي تتضمن خلاصة تجربته ومهنته في الصحافة. وكان آخر كتاب حمل توقيعه بعنوان «صحافة النسيان».
روحٌ حزينة
يقول الرّيس: «إنَّ الصحافي يمضي حياته دون أن ينجز تحقيقاً واحداً عن نفسه. إنه ممنوع من ذلك. الصحافة التي عرفتُها لم تكن يوماً كتابةً عن الذات. فأنا لست الخبر، والخبر لم يكن يوماً أنا. وإن كنت أجد نفسي الآن أكتب ولأول مرة هذا التقرير الروائي، الشخصي فوق العادة، كمن يعرِّف عن نفسه أخيراً لعائلته». رحل الريّس عن دنيانا بعد تخطيه العقد الثامن من العمر متأثراً بمضاعفات فيروس كورونا، في بيروت بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر 2020، ودفن فيها. ونذكر ما قاله الريّس في آخر أيامه: «ما يفعله الأصدقاء حين يغيبون. يتركون في ذاكرة من بقي حيّاً عاداتهم المفضَّلة، أصواتهم، رؤيتهم للحياة، ونكرانهم المتواصل للموت. وهذا ربَّما ما أفعله الآن».
صحافي وكاتب سوري
شكرا لكم الكاتب الرائع على وفائكم لخالي الاستاذ رياض رحمه الله
الأستاذ رياض معلمنا رحمة الله عليه من ألمع نجوم العالم العربي في الصحافة والنشر والسياسة…
صخصية لن تتكرر