بدءا من سبعينيات القرن الماضي، وبتزامن مع الفورة النفطية الأولى، أخذت تتواتر الشكوى من أن ما يناله الخبير الغربي في دول الخليج العربية أعلى بكثير مما يناله نظيره العربي، حتى حين تتساوى الكفاءات. وكان هذا بمثابة إعادة إنتاج لبنى القوة الدولية على مستوى البلدان المعنية بهذه الظاهرة، وضع يمكن قراءته بإرادة نخب القرار في هذه البلدان التماثل مع النافذين الدوليين في العالم الأول، وإحالة القادمين من العالم الثالث وما دونه إلى موقع ذمي مماثل لوضع لبلدانهم في سلم القوة الدولي. عبارة الذمية تحيل إلى وضع «أهل الذمة» في عالم الإسلام الإمبراطوري، وهو وضع تابع، مجرد من السلاح ومخفوض القيمة، ينال الحماية لكنه في انكشاف دائم، ضرب من مواطنة من الدرجة الثانية بلغة اليوم. في الزمن الحديث، منذ القرن التاسع عشر، يشغل المسلمون، والعرب بخاصة، وضعاً ذمياً على المستوى الحضاري التاريخي، وهو وضع جرى استبطانه على نطاق واسع، في صورة شعور بالنقص والتبعية، وصولاً إلى عنصرية ذاتية، أو استذمام ذاتي إن جاز التعبير. توافق ذلك مع إنتاج عالم أول داخلي بخبراء غربيين أو دونهم، وعالم ثالث داخلي أو ما دونه من المحليين والوافدين، مع قيام الدولة بحراسة هذا الترتيب وضمان إعادة إنتاجه. بمثل هذا المسلك ترتد مسألة كون الواحد من الناس أولياً أو ثالثياً، سيداً أو تابعاً، إلى أصل أو منشأ، وليس إلى فعل وكفاءة، فتندرج العلاقة مع الخبير الغربي في إطار العلاقات الزبائنية المقوضة لأخلاقيات العمل وعقلانية النظام الاجتماعي، مما هو مستقر ومستمر في بلداننا بصور مختلفة. سوريا تنتظم حول مثل هذا النموذج دون خبراء غربيين، حيث الجميع ذميون سياسياً لسيادة سلالية ومشخصنة حاكمة، ويتوزع ما يحوزه الذميون السوريون من رأسمال اجتماعي في مراتب حسب أصلهم وفصلهم، وليس حسب قدراتهم وكفاءاتهم، ويعاد إنتاج العالمين الأول والثالث أو ما دونه محلياً عبر علاقات المحسوبية والولاء، فتنهار قيمة العمل المادية وأخلاقيته هنا أيضاً.
على أن هناك شواهد متواترة على إعادة إنتاج علاقة القوة في مجالات البحث وإنتاج المعرفة السورية حتى في أوساط نشأت في إطار الثورة السورية التي كانت ظاهرة كلية واسعة ومُغيِّرة، رغم الفشل السياسي. لدينا مجتمع شتاتي كبير (نحو 30٪ من السوريين) مشتت هو ذاته، لكنه حر ومنتج بمقادير متفاوتة. وقد تطورت مؤسسات وأطر ممارسة متنوعة، وسجل السوريون خلال السنوات المنقضية حضوراً في التمثيل المعرفي لبلدهم وسياقاته انطلاقاً مما يقارب لا شيء قبل الثورة. بالكاد وجد عدد قليل من الكتب بمحتوى نقدي كتبها سوريون قبل عام 2011 عن سوريا، بمن فيهم المغتربون. كان الاعتماد كلياً على ما ينتجه باحثون غربيون من معرفة بسوريا، هذا إن شاء المرء اجترار الخطاب الرسمي القائم كلياً على الكذب. ورغم كل شيء كان يبدو ما يكتبه باحثون غربيون، حتى حين يكونون ممالئين للنظام مثل باتريك سيل أو جوشوا لاندس، نقدياً بالمقاييس السورية لغياب تفكير نقدي سوري (كتاب باتريك سيل «الأسد والصراع على الشرق الأوسط» حظر في سوريا رغم موالاة مؤلفه لباني السلالة).
ثقافة احتكار العنف الإبستمولوجي المشروع هذه يجب تحديها، إن كنا لا نريد أن نعيد على مستوى الثقافة إنتاج وضع السلطة المرجعية غير المقيدة وغير الدستورية للبحث الغربي حتى في شؤوننا
فقط بعد الثورة والشتات واتساع دوائر الكتابة السورية، أخذ يتوفر نتاج بحثي وفكري سوري يستند إلى تجارب غنية وإحاطة أفضل بالسياقات المحلية من جهة، ولا يفصل المعرفة عن الحساسية والانفعال والفاعلية الخاصة بالسوريين من جهة أخرى، فضلاً عن أنه أخذ يجادل بدرجات متفاوتة فيما أنتجه الباحثون الغربيون من تمثيلات. هذا انعكس في دوائر هؤلاء الأخيرين بالذات. فالأكثر نقدية وجدية بينهم أخذوا يتفاعلون مع هذا الإنتاج المستجد، فيما ثابر ذوو التكوين التقليدي من خبراء الشرق الأوسط في لوك مقارباتهم الجيوسياسية والثقافوية التقليدية القائمة منهجياً على إنكار فاعلية المحليين (بعد الثورة فقط ظهرت تنويعة غربية ثالثة كانت خفية لأنها قلما قالت شيئاً عن سوريا قبل الثورة: مناهضو الإمبريالية من فوق، الذين يفكرون في أمريكا كألوهة دنيوية شريرة وكلية القدرة، ومثالهم الأبرز نوام تشومسكي).
على أن لهذا التطور الإيجابي في ظهور باحثين سوريين جانبه الأقل إيجابية: مراعاة واعتراف وتكريم تمييزي للباحثين الغربيين أكثر من المحليين الذين تباح معاملتهم باستخفاف من قبل محليين مثلهم، في ضرب من ذمية بحثية متعددة الأوجه، يستحسن تسليط الضوء عليها لحماية التطور المعرفي السوري. الذمية البحثية امتداد للشرط الذمي إلى النطاق البحثي والفكري بما يهدد بتهافت هذا النطاق. وهذا لأن إنتاج المعرفة يقوض نفسه إن لم يعمل على التفكير الانعكاسي في علاقات القوة التي تحكمه، والتي يجازف بإعادة إنتاجها دون ذلك. ثم لأنه يفترض أن تكون هذه العلاقات موضوعاً من مواضيعه المهمة من جهة أخرى. وأخيراً لأننا نتكلم على دوائر تعنيها قيمة حرية التفكير والحرية عموماً، والتفاعل المعرفي بين متساوين او متطلعين إلى المساواة، فإذا ركنت إلى علاقات ذمية أو فشلت في التفكير فيها خذلت نفسها، صارت استمراراً ذاتيا لوضعنا الذمي الموضوعي اليوم.
وليس نقيض الذمية البحثية أو المعرفية هو ضرب من الاكتفاء الذاتي بالقليل الذي لدينا (وهذا هو الظلامية بعينها) أو إنكار شرط الذمية الموضوعية المتمثل في وضعنا التاريخي التابع. نحتاج إلى أن نتعلم من المفكرين والباحثين الغربيين ممن راكموا مناهج وأدوات لا نستغني عن التفاعل معها إن كان لنا أن ننتج معرفة ذات قيمة. نقيض الذمية التي هي مزيج من احترام تبجيلي للغير وقلة احترام للنفس هو التفاعل، الأخذ والعطاء، وليس قلة احترام غيرنا وتبجيل النفس على ما يميل المزاج الإسلامي السائد إلى فعله. نقيض الذمية هو احترام النفس والغير في آن.
ومن أشكال الذمية في السياق السوري الإحالات الحصرية إلى نتاجات غربية حتى حين يتعلق الأمر بسورية وشؤونها. وهو ما لم يعد مقبولاً من باحثين غربيين، فما بالك بالسوريين. هذا الضرب من الاستلاب مما يحد من وعود تكاثر الطالبات والطلاب السوريين في الأكاديميا الغربية. ويبدو أنه يسير يداً بيد مع وضع التجربة الهائلة للثورة بين قوسين، فيهدر في آن ما كانته من مختبر كبير للمعرفة الاجتماعية والسياسية، وكذلك أثرها النفسي المحرر من التبعية والشعور بالنقص. الأقل ذمية معرفية بين السوريين هم من يجمعون بين تلك التجربة الهائلة ذات الصفة المرجعية وبين أدوات يتعلمونها أو يطورونها عبر التأهيل الأكاديمي.
والوجه الآخر لحصر الإحالات بالسلطات المرجعية الغربية هو إعفاء تلك السلطات من اللوم المعرفي (الإبستمولوجي) حتى حين تظهر انعدام حساسية كامل حيال انفعالات المحليين وذكرياتهم ومخيلتهم ومخاوفهم ومنابع شعورهم بالذل، ما يعادل مجزرة تمثيلية لا يسيل فيها دم، لكنها استفادت لأجيال من تقاليد الإفلات من اللوم المعرفي على نحو يماثل تقاليد الإفلات من العقاب التي تتمتع بها نخب السلطة العربية (والدولية خارج بلدانها) ولطالما انتفعت منها نخب السلطة الغربية (وغير الغربية) حتى صارت ثقافة. ثقافة احتكار العنف الإبستمولوجي المشروع هذه يجب تحديها، إن كنا لا نريد أن نعيد على مستوى الثقافة إنتاج وضع السلطة المرجعية غير المقيدة وغير الدستورية للبحث الغربي حتى في شؤوننا. ويوماً ما، لعله اليوم، يتعين مساءلة البحث الغربي في تمثيله للعالم وللغرب نفسه. وهذا ليس لقلب العلاقة الذمية لمصلحتنا، بل من أجل جمهورية بحث قائمة على المساواة، تضع أي سلطة موضع تساؤل.
كاتب سوري
شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. هذا من أجمل المقالات التي قرأتها لك نظرًا لأهية هذه المعضلة على المستوى البحثي بشكل عام في العلوم النظرية أو التطبيقية (العلمية) مثلًا، وليس فقط على المستوى الفكري السياسي. لدي عدة ملاحظات. في البداية “يربكني أحيانًا صلابة اللغة في بعض التعابير لدرجة أنني أقرأها أكثر من مرة للإحاطة بكامل معناها أو محتواها.
أعجبني تعبير “تبجيل النفس على ما يميل إليه المزاج الإسلامي”، لكن أعتقد أن صحة ذلك ليست مقصورة على المفكرين الإسلاميين بالمعنى الضيق. أو أن هذا التعبير متداول علميًا لكل مفكر ( مسلم؟) يدافع فكريًا عن ثقافتنا (الإسلامية). مثلًا الأستاذ سعيد يقطين والكاتب في القدس العربي فهو، أذا كنت قد أحسنت فهمه!، بل أيضًا يميل إلى التبجيل الذاتي في الدفاع عن المحلية المغربية لهذه الثقافة الإسلامية (والتماهي مع سياسة المملكة المغربية كما حصل بعد إنتهاج سياسة التطبيع مع إسرائيل)، وفي ذات الوقت الذي يرفع به البطاقة الحمراء على الثقافة الغربية. ويرأيي بشكل غير دقيق أو لنقل بانعدام للنقد الذاتي (مثلًا انعدام الحرية في مجتمعنا، انظر مقاله بتاريخ ٨ أب/أوت في القدس العربي)، وإن كان قوله صحيحًا.
ملاحظة أخرى، يبدو لي أحيانًا، أن هذه “الذمية” لدى الباحثين الغربيين تعود في واحد من أسبابها إلى ارتباط التمويل البحثي بالحكومات بشكل مباشر وكذلك الأمر بنطبق تمويل البحث في المعاهد ذات الإرتباط بمؤسسات أخرى تجاربة! عموماً. فالباحث والكاتب أيضًا قد يفقد ( مثال: الفيلم عن أوبنهايمر أوضح كيف تمت ملاحقته بدعوى ميوله الشيوعية رغم كل ماقدمه من خدمة لأمريكا أو بالأحرى للحكومة الأمريكي ذاتها اتي لاحقته بهذا الإتهام) أو لايحوز على التمويل اللازم أو أن الكاتب لاتروج كتبه وربما لاتوافق دور النشرعليها لأن المبيعات يتكون منحفضة! وبالمناسبة أيضًا هو الصراع على سوق العمل فالدول المتقدمة تريد الإستفادة كن الخبرات الأجنبية لكن تريد في نفس الوقت التركيز على أن يبقى سوق العمل بيد الباحث أو الإختصاصي المحلي. ولهذا نجد بعض الأكاديميين لايستطيعون الحصول على العمل المناسب لتحصيلهم العلمي أو كفاءاتهم. عمومًا يبقى أن أساس المشكلة هو هذا الأخطبوط الإستبداي الذي يكبلنا فلا يسمح باستغلال طاقات الإتسان والإرتقاء الخضاري في وطنه الأم بدلًا من الهروب مجبرًا لهذا السبب أو ذاك نحو الخارج.