في «الريح تمحو والرمال تتذكر»: حسب الشيخ جعفر يعود للذائذ الموسكوفية

حجم الخط
0

يضاف هذا الكتاب إلى الرصيد الإبداعي للشاعر الناثر حسب الشيخ جعفر، وأكثر الشعراء لا يحسنون البوح النثري، إلا قلة منهم، والراحل حسب الشيخ جعفر من هذه القلة المتميزة في عالم الكتابة النثرية.
هذا كتاب سماه صاحبه «الريح تمحو والرمال تتذكر» ولأنَّ العنوان شاعري يمتاح من اللغة الشعرية لشاعرنا حسب، فقد أعطاه كاتبه عنواناً فرعياً مبيناً نوعه، إنَّه (سيرة) ذاتية، ويكاد يشكل امتداداً لكتابه السيري «رماد الدرويش» المطبوع في إحدى المطابع الأهلية في بغداد سنة 1986.

ثلاثة أشهر في موسكو

يتحدث الكتاب عن الأشهر الثلاثة التي أمضاها الشاعر في موسكو، حين أوفد خريف عام 1989، مشاركاً في الدورة الصحافية، التي كان ينظمها اتحاد الكتاب السوفييت مرة كل سنتين، والعودة إلى الأماكن التي عاش فيها سنوات الدراسة أيام العقد الستيني، ولكن بفارق أنّه يعود إليها، وقد رحل الشباب، وهذه لينا معشوقته الدائمة وقد ذَرَّفَت أعوامُها على الثامنة والخمسين، فما بين إغماضة عين وانتباهتها يغير الله حالاً إلى حال، لكن ما زال الشاعر يعب من اللذائذ، كما يعب الخمرة والنبيذ، إنّه مشغول باقتناص اللحظة الحاضرة، فالذي ذهب من العمر، قد ذهب، والمستقبل في ضمير الغيب، فما عليك سوى لحظتك هذه، فما إنْ حطت به الطائرة في مطار موسكو حتى كان يهاتف من الفندق المحبوبة القديمة (لينا) الذي ظل اسمها عالقاً في ذهني منذ أيام قرأت كتابه «رماد الدرويش» فضلاً عن سونيا وتونيا وتمارا ونينا وكتيانا وميرا وكاتيا، لكن تبقى فُضلاهن (لينا) التي يواصل معها حياته طوال الأشهر الثلاثة التي أمضاها في موسكو موفداً.
وإذا كان «رماد الدرويش» سرداً ذاتياً لذائذياً آنياً، فإنّه في «الريح تمحو والرمال تتذكر» الذي أصدرته دار المدى للثقافة والنشر سنة 1996، استخدم طريقة تيار الوعي، في استذكار أيامه الماضية في العراق، وجعل هذه الاستذكارات الموحية، كي يدل القارئ على نوعية الكتابة هذه، وإذا كان حديثه عن أيامه في موسكو يأتي بضمير المتكلم وبالفعل المضارع، فإنه يأتي بضمير الغائب وبالفعل الماضي، لدى استخدامه تيار الوعي، إنه مزاوجة جميلة بين الحاضر المعيش والماضي الغارب والعائش في تلافيف الذاكرة، إنه حديث عن موسكو، وحديث عن تلك القرية العراقية الغافية على أكتاف الهور. وتستطيع وأنت تقراً هذه الانتقالات، قراءة الحال العراقي ما قبل تموز/يوليو عام 1958 وما بعده. كما تستطيع استقراء السطور وما بين السطور في الحياة الموسكوفية، وهي تذهب بعيداً نحو التغيير، ناقلاً أحاديث الناس ما بين معارض لما يحصل من ما سمي بالبريسترويكا والغلاسنسوت التي كان يقودها غورباتشوف، فالمخازن تكاد تخلو من البضائع، وسيادة السوق السوداء، وحجب البضائع عن أبناء البلاد، وبذلها للضيوف والسياح والوافدين، ما ينذر بأشد الأخطار فداحة وقسوة وتلمس شغف النساء هناك بالبضاعة الأجنبية، حتى إنَّ الروس يغبطونه لأنّه يستطيع شراء السجائر الأمريكية والبلغارية، في حين يكون نصيبهم السجائر الروسية، وكثيراً ما طلبت منه فتاة من فتيات الحانات لفافة، لأنها لا تجد في المخازن لفافة تدخنها «واندفعت نحوي صبية حلوة ببنطلونها الأحمر الضيق، مسرحة شعرها الأصفر الباهت إلى الوراء:
هلا أعطيتني لفافة؟
وفي حانة القبو سألت عن السجائر أولاً، فلم أجدها، وعلمت من عاملة البار أنّهم في انتظارها منذ أسبوعين، وفي السوق الحرة وجدت السجائر الأجنبية مكومة كالمعتاد، فلا فودكا في مخازن موسكو الأخرى. لم يشأ سائق التكسي اصطحابي إلا بعد أنْ أغدقت عليه». بل إنَّ غائب طعمة فرمان وقد التقاه هناك يحذره من أنَّ موسكو لم تعد آمنة في الليل، في فندقكم نفسه قبضوا على عصابة خطرة من اللصوص الأوغاد قبل شهر، يبدو أنّها مافيا جديدة، إنهم لم يتورعوا عن القتل من أجل غنيمة أو صفقة مربحة، الأفضل أنْ لا تحمل معك نقوداً. ولا تتجول وحيداً في الطرقات الليلية، كما هو شأنك من قبل. حين تعود من سهراتك وفتياتك. لقد تغير الوضع تماماً. يبدو أنَّ البلد على حافة الخراب، فلا بضائع كافية في السوق.. والناس يتذمرون…
«وانفلتت من مجموعة متسكعة من الشباب فتاة في بنطلون (أمريكي) أزرق، وأسرعت لتقف عند وجهي تماماً.
– أعطني لفافة من فضلك. أشعلت لها اللفافة وهي ترمقني قائلة.
– أتريد أن أغير لك دولاراتك؟
– شكراً أنا لا أحمل شيئاً منها.
– هلا أعطيتني لفافة أخرى؟ وابتعدت مهرولة عنا.
ويظل الحصول على لفافة، الشغل الشاغل لهؤلاء الفتيات، لاسيما إذا كانت أمريكية أو بلغارية، على أنْ لا تكون روسية، ما يؤكد انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي لذلك المجتمع، وذهاب اليوتوبيات الثورية، والشعارات الجوف إلى هباء، فقد كان الوضع تجذيفاً ضد التيار، تيار الحياة، لذا سرعان ما انهار، ولو كان مبنياً على أسس صحيحة لما انهار بهذه السرعة القياسية، أيصح أنْ ينهار مثل هذا الحكم الحديدي على يد شخص واحد، ومن غير نظرية المؤامرة التي شغف بها المؤدلجون حباً؟

الانتقالات الزمنية

حسب الشيخ جعفر في انتقالاته الزمنية، عائداً إلى حياته في تلك القرية الجنوبية، عند تفرع دجلة إلى نهري المشرح والبتيرة، والغافية عند ضفاف الهور، إنما كان يعيدني إلى سنوات عشتها في ناحية العزير جنوبي العمارة، ولدى مقارنة هذه الانثيالات قبل يوليو وبعده، لنجد الحال نفسه، لا بل كان ينحدر نحو الأسوأ، فمداهمات الشرطة قائمة بشكل متواصل، والبحث عن الكتب الممنوعة ما زال متواصلاً، والفصل من المدارس آخذٌ مداه، حتى إنَّ فتانا حسب الشيخ جعفر ما اكتفى بصيغة الماضي وضمير الغائب في سرد انثيالاته تلك، بل أطلق لفظة الفتى على ذاته، كما أطلقها طه حسين وهو يسرد علينا سيرته الذاتية في كتابه «الأيام» أو كتابه «أديب» الذي يقص علينا من خلاله حياته الدراسية في القاهرة، ومن ثم في باريس وحديثه عن زميله في السوربون: صبري السربوني، الذي لم تنصفه الحياة ولم ينصفه النقد، على الرغم مما قدم للثقافة العربية، والمتوفى عام 1978، وكذلك زميلهما في البعثة إلى باريس جلال شعيب، الذي مرض هناك وأعيد إلى بلده مصر ليموت فيها، وهناك من الباحثين من يرى أنَّ طه حسين إذْ كتب كتابه «أديب» إنما كان يعني جلال شعيب، الذي ترك حقيبة ملأى بالأوراق والكتابات، لدى صديقته الفرنسية، لكن وإذْ رحل جلال شعيب، فلم تجد هذه الإنسانة أجدر من طه حسين بها، كونه صديقه وزميله في البعثة وابن بلده، لكن المعاصرة حجاب، تدفع إلى الغيرة والتنافس والإغباط، فيتركها من غير أنْ يراجعها وينشر بعض ما يستحق النشر، إكراما لذكرى زميله جلال شعيب، قائلاً «وقد حفظت هذه الحقيبة بضعة عشر عاماً، لا أعرف من أمرها، إلا أنها مملوءة بالأوراق. فلما أتاح الظالمون لي شيئاً من فراغ (يقصد طه حسين هنا يوم أقيل من عمادة كلية الآداب) نظرت في هذه الأوراق، فإذا أدب رائع حزين صريح، لا عهد للغتنا بمثله فيما يكتب أدباؤها المحدثون. وقد هممت بنشره وقدمت بين يديه هذا الكتاب، ولكن هل تسمح ظروف الحياة الأدبية المصرية بإذاعة هذه الآثار يوماً ما؟».
وأتساءل: هل يجوز هذا، قدمت كتاباً حمل عنواناً غائماً «أديب» ماذا لو سميته جلال شعيب ونشرت بعضاً مما امتلأت به حقيبة صديقك؟ لكنها سخائم الروح.
«وتجيء أخت الفتى خائفة شاحبة الوجه، قائلة إن أفراد الشرطة قد داهموا الصريفة، وهم يصرون على تفتيش الخزانة، حيث تلوح الكتب خلف الزجاج المقفل، والمفتاح معه. فأعطاها المفتاح وهو قرير آمن، فلا شيء في الخزانة أو المنزل مما يبحث عنه المفوض والمختار. وينقلب القارب عائداً بالشرطة إلى (الطوّيل) مسرعاً مثلما جاء. ها هي أيدي الشرطة تتحرى، ولم يمض إلا عام واحد بعد الرابع عشر من تموز!».
كما هو في «رماد الدرويش» يذكر الشاعر الاسم الأول من أصدقائه وزملائه، ولقد تعرفت في «رماد الدرويش» على غائب طعمة فرمان وغازي العبادي وماهود أحمد وشقيقه الباحث اللغوي والنحوي صاحب جعفر أبو جناح ومحمد صالح العولقي، الذي أصبح وزيراً لخارجية اليمن الديمقراطية الشعبية وسقطت به الطائرة يوم الثلاثاء 1/5/1973 والشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، فإنّي استطعت التعرف على معلمه الأديب المناضل حسين العلاق. صيف عام 1958، التقيا في حفل أقيم على الضفة العالية من نهر الكحلاء، وكان الفتى هو شاعر الحفل! وكان المعلم العلاق قادماً من بغداد، تحف به ذكرى استشهاد أخيه الثوري الشجاع حسن في انتفاضة تشرين (1952)، وما أظن هذا المعلم، سوى الباحث الكاتب حسين صبيح العلاق، وما زلت أعود إلى رسالته التي نال عنها الماجستير الموسومة (الشعراء الكتاب في العراق في القرن الثالث الهجري) وقد نشرت مؤسسة الأعلمي في بيروت ودار التربية في بغداد هذه الرسالة العلمية في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1979، ويقع في نحو ستمئة صفحة. فضلاً عن جلال ولعله جلال الماشطة.
في كتابه «الريح تمحو والرمال تتذكر» كان الشاعر أقل بوحاً في وصف العلاقات الحميمة، ولعله عوتب على جرأته الحسية في «رماد الدرويش» أو أنَّ للسن أحكامها، فقد كتب كتابه ذاك تحت فورة الشباب المتوقد العاصف، وكتب (الريح تمحو..) تحت وطأة ثقل السنين وكهولة مبكرة، والناس في بلادي يشيخون بسرعة بسبب صعوبة الحياة وقساوتها وعصفها.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية