في تطور جديد حول الأزمة الأوكرانية، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين الاثنين الماضي، اعتراف بلاده باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانيتسك الأوكرانيتين. والأكيد أن بوتين ما كان ليقدم على هذه الخطوة لولا تأكده من تخلي الغرب، بما يشمل الولايات المتحدة، عن حليفته أوكرانيا التي باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى.
تداعيات هذه الأزمة التي ظلت تشغل العالم لأسابيع، لا تخص البلدين المتنازعين فقط، بل تستمد أهميتها من كون أنها مرشحة لتكون علامة فارقة في تاريخ السياسة الدولية المعاصرة، حيث يتوقع أن تحاول الصين أيضاً التمدد عسكرياً في محيطها، إذا تأكد لها العجز الغربي، كما يتوقع أن يؤدي هذا لموجات من التوتر والصراع العالمي حول النفوذ.
الرسالة التي وصلت جميع الأطراف بوضوح، كانت أن التحالف مع الولايات المتحدة لا يمكن التعويل عليه، فأوكرانيا التي تخلت عن سلاحها النووي، وانتهجت لسنوات سياسة رهنت فيها خياراتها لصالح الانضمام للنادي الأوروبي، ولعضوية حلف الناتو، تأكدت اليوم من أنها كانت تستند إلى سراب، وأنها لدغت من الجحر ذاته للمرة الثانية، حين واجهت منفردة تحدٍ مماثل في عام 2014. ومن المؤكد أيضاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نجح في أن يكون محور الأحداث، وأن يثبت أن الولايات المتحدة ما عادت وحدها من يقرر بشأن الحرب والسلام. خلال العام الأول من عهدة الرئيس بايدن تضعضعت مكانة الولايات المتحدة، حيث تسرب كثير من الملفات من بين يديها، إما لعدم القدرة أو لعدم الرغبة في حلها، فبداية من أفغانستان التي اكتفى الأمريكيون بطموح الخروج الآمن منها، ثم الملف النووي الإيراني الذي ما تزال مفاوضاته تراوح مكانها، ونهاية بالقضايا الإقليمية الصغيرة كالأزمة في إثيوبيا وفي غيرها من البلدان، لم تعد التهديدات الأمريكية مخيفة لقادة العالم الذين بدأوا يبحثون عن مصالحهم بمنأى عنها.
صحيح أن كثيراً من دول الجنوب ما تزال تتعامل مع الولايات المتحدة كقوة رادعة يجب الحصول على دعمها، أو على الأقل تجنب شرها، لكن من الصحيح أيضاً التذكير بأن دولاً وأنظمة وصلت لدرجة الحليف مع الولايات المتحدة، من دون أن يقود ذلك لتوفير الحماية لها. ينطبق ذلك على الحكومة «الصديقة» السابقة في أفغانستان، وأيضاً على دول مثل باكستان وأوكرانيا وتركيا. تركيا مثال جيد هنا، فهي دولة تتمتع بعلاقات طيبة وتاريخية مع الولايات المتحدة، وهي ليست مجرد عضو في حلف الناتو، بل تعد من أهم الأعضاء، وتأتي عسكرياً في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. على الرغم من كل ذلك فإن هذا التحالف الذي يضم القوى العسكرية الأكثر فاعلية في العالم لم ينجح في منع الهجمات الإرهابية التي كانت تواجهها، ولم يعتَبِر أعداءها من المجموعات الكردية التي كانت تستخدم الهجمات ضد مرافق الدولة كوسيلة للنضال، أعداء للحلف، بل إن الحلف، بقيادة الولايات المتحدة، دخل في تحالف مع هذه الجماعات وقام بمنحها الغطاء والشرعية اللازمين معتبراً أنها تقوم بجهود يمكن الاعتماد عليها للتصدي «لتنظيم الدولة». أكثر من ذلك فإن الحلف ظل يرفض لوقت طويل منح تركيا صواريخ باتريوت الدفاعية، التي كانت تحتاج إليها، ما جعلها تلجأ لروسيا التي تعاقدت معها على منظومتها أس 400، ما ولّد أزمة متعددة الأطراف.
لم تعد التهديدات الأمريكية مخيفة لقادة العالم، الذين بدأوا يبحثون عن مصالحهم بمنأى عنها
النتيجة التي يخلص إليها اليوم متابعو الساحة الدولية هي، أن العلاقة الاستراتيجية مع قوى إقليمية مثل تركيا أو روسيا هي أكثر جدوى بكثير من بناء علاقة مكلفة ومرهقة مع الولايات المتحدة، ففي حين تدخلت تركيا بجدية لمناصرة حليفتها أذربيجان، وحسم الحرب لصالحها في نزاعها مع إرمينيا، وفي حين حسمت روسيا خلال ساعات الأزمة في كازاخستان، ظلت الولايات المتحدة مترددة في التدخل لصالح حلفائها، بمن في ذلك الأوروبيون منهم. العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة تبدو مثالاً آخر جيداً هنا، فهذه العلاقة، على ما فيها من تاريخية، لم تدفع الولايات المتحدة لمساندة دول «التحالف» في معركتهم اليمنية، بل لم يقم الحليف الأمريكي بأي شيء ذي بال لحماية كل من السعودية أو الإمارات، بعد أن أصبحتا هدفًا للمسيّرات والصواريخ الحوثية، وحتى اليوم ترفض الولايات المتحدة، اعتبار الميليشيات الحوثية تنظيماً إرهابياً. في السياق، وفي حين تبدو عبارات التعاطف الغربي عقب كل هجوم شاحبة وبلا معنى، تقدّر القيادات الخليجية بشكل أكبر الدعم التركي، حيث لم تتردد تركيا في استنكار الهجمات الإرهابية، وأوضحت منذ البداية موقفها الداعم والمتفهم لصراع الدول الخليجية مع الذراع الإيراني في اليمن.
العامل الإيراني يبدو مهماً هنا، فسواء نجح الغربيون في الحصول على صفقة نووية جديدة، أو باءت مباحثات فيينا بالفشل، فإن هذا البلد مرشح للتحول إلى بلد نووي خلال مدىً قد لا يتجاوز بضع سنوات. التعامل بواقعية مع هذه الحقيقة يدفع لإعادة التفكير بالعلاقة مع إيران، فإذا كانت هناك ثقة جادة في الولايات المتحدة كحليف كان يمكن تبني خيار المواجهة، التي يمكن أن تبدأ اليوم من أجل قطع الطريق على الطموحات النووية الإيرانية، لكن كما ذكرنا، فإن الوضع يبدو مختلفاً ولا شيء يضمن أن تترك الدول الخليجية لمواجهة مصيرها، إن حدثت مواجهة مباشرة.
البراغماتية قد تصلح بديلًا للمواجهة، فبعلاقة جيدة مع إيران وخلق تشبيك اقتصادي وسياسي معها يمكن الوصول إلى حل للصراع، الذي يأخذ ساحات مختلفة ويستهلك كثيراً من الوقت والجهد والأرواح. لإنجاح ذلك يجب أن تقتنع إيران أولاً، وأن تعلم أن جو انعدام الثقة الحالي لا يصب في مصلحتها، وأن الأفيد هو تعميق الشراكة، خاصة الاقتصادية، التي هي أحوج ما تكون إليها حالياً. أول إشارات حسن النية في سبيل ذلك هو كف الأذرع المرتبطة بإيران عن المنطقة، وتوقفها عن التحول لمهدد للأمن الإقليمي، بما يشمل جماعة الحوثي التي امتدت هجماتها للعمق الإماراتي.
تسير الإمارات في هذا الاتجاه فتفتح أبوابا للتواصل مع الإيرانيين، داعية إياهم للعودة لقواعد حسن الجوار، لكنها تسعى في الوقت ذاته لإيجاد حلفاء إقليميين يمكنها الاعتماد عليهم وقت الحاجة، ولعل تركيا تكون إحدى أهم الدول في هذا الاتجاه لما تتميز به من موقع جغرافي وقوة رادعة.
بدورها استطاعت تركيا أن تحتفظ بعلاقة سياسية طيبة مع إيران، على الرغم من الاختلافات الكبيرة حول قضايا إقليمية أساسية، وعلى الرغم من نظرة إيران المرتابة لتمدد النفوذ التركي في آسيا الوسطى عبر منظمة الدول التركية. على مر السنوات الماضية، ورغم التعاون البناء، إلا أن مسار العلاقات لم يخل من تعثر، أو تصريحات ناقدة متبادلة. على الرغم من الشراكة الاقتصادية الممتدة، إلا أن السلوك الإيراني المتمثل في محاولة إيران خلق أذرع لها داخل تركيا، أو قيامها بالتخطيط لعمليات إجرامية، كمحاولة الاغتيال التي تم كشفها الأسبوع الماضي، كل هذا كان يضع حاجزاً أمام التطبيع الكامل مع تركيا. كل هذه الأسباب وغيرها تفسر التقارب المتسارع بين كل من الإمارات وتركيا، الذي وصل مرحلة التنسيق والتكامل الذي يتجاوز موضوع الشراكة الاقتصادية واتفاقيات التعاون، على أهميتها للبلدين، للدخول في علاقة استراتيجية كاملة وقادرة على مواجهة التحديات المشتركة وتجاوز كل خلاف.
كاتب سوداني