«في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون: سيرة ذاتية غيرتْ وجه الأدب المغربي في العصر الحديث

أثر حاسم

عندما سافر الأديب المغربي عبد المجيد بن جلون (1919- 1981) إلى القاهرة عام 1937، ازداد اتصاله بالأدب المصري الحديث، الذي كان ذا حظوة ومرغوباً فيه من جمهور المُتعلمين ورجالات الحركة الوطنية المغربية، وانفتح وعيه أكثر على الوسط الثقافي هناك؛ في مصر الكوزموبوليتية. كانت القاهرة حاضنة النهضة ومعترك الأفكار التقليدية والحديثة، وكانت تموج بألوان الطيف السياسي وحركاته الفكرية والاجتماعية، وكان النشاط السردي يستفيد من هذا الانفتاح الذي عرفته، وكان فن السيرة الذاتية، أو رواية الترجمة الذاتية – بتعبير عبد المحسن طه بدر- ينال اعتراف المؤسسة الأدبية بعد «المخاوف والمحاذير» التي تعرض لها صاحب «زينب» ويقبل عليه كبار الكُتاب (طه حسين، توفيق الحكيم، إبراهيم المازني، عباس محمود العقاد) الذين أعطوا زخما لهذا الفن إذ أخذت ملامحه تفرض نفسها على الذائقة. وكانت الأعمال السيرذاتية لهؤلاء الكتاب، على اختلاف مستوياتها وأشكال تحققها الفني، تكشف آثار التمزق والحيرة في نفسياتهم؛ إما بسبب عجزهم عن الانتماء للواقع الذي رفضوا قيمه ومواضعاته الاجتماعية رفضا فكرياً وذهنياً، أو نتيجة الإحساس المفرط بالذات، فيما هم ينزعون إلى تصوير الحياة بصورة كئيبة والتشكيك في قيمها السائدة، وإلى تعبيرهم عن إحساسهم الدائم بالغربة والقلق وشكواهم من عجزهم عن تحقيق آمالهم. فالنزعة الذاتية ميزت عاطفة الكاتب العربي الحديث، وكشفت أساليب السرد التي نشأت منذ عشرينيات القرن العشرين عن مدى التوترات خلال نهوضها بهذه النزعة على أساس تحرير الكتابة من طرق التعبير التقليدية.
من هنا، نرجح أن عبد المجيد بن جلون قد تَعرف على مثل هذه الأعمال التي كانت ذائعة الصيت، وتشرب عناصرها الخطابية والنوعية أثناء إقامته الطويلة في القاهرة (1937- 1955) وهو ينشر سيرته الذاتية «في الطفولة» لأول مرة في حلقات أسبوعية في مجلة «رسالة المغرب» عام 1949، قبل أن تصدر في كتاب عام 1957. صحيحٌ أنه لم يكن يرتهن بنموذج قبلي أو مُتعالٍ لنوع السيرة الذاتية، وإلا لكان جَنسها أصلاً، لكن نعتقد أن عمله السيرذاتي كان يستضمر بعض «تجليات» هذا النوع في المجال العربي، وكان واقعاً تحت تأثيرها تبعا لمفهوم «الأثر الحاسم» الذي تطرق إليه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في «الاستشراق». فعلى غرار «الأيام» – على سبيل التمثيل- يواجه قارئ «في الطفولة» صعوبةً في تحديد النوع الأدبي الذي ينتمي إليه العمل، غير أن العنوان يوحي له أن يفهم هذا العمل بأنه سرد للأحداث والوقائع المؤثرة التي عاشها الكاتب في طفولته الماضية، ابتداءً من الطفل الذي كانه وهو يتحسس عالمه ويحاول اكتشافه، أو حين يكتشف «الصدمة» التي تلقاها في أول دروس المدرسة، لكنه انتصر على إكراهات الواقع، وحقق رغبته في أن يثبت فرديته وطموحه بعد أن انخرط في مشروع الكتابة والوعي بالمسألة الوطنية.

سردية الفضاء الثالث

بالفعل، ظهرت في الأدب المغربي سير ذاتية سابقة أُنْتجت بين 1860 و1942، وقد وقف عليها الكاتب عبد القادر الشاوي في دراسته «الكتابة والوجود: السيرة الذاتية في المغرب» (افريقيا الشرق ـ 2000)؛ وهي: «ثمرة أنسي في التعريف بنفسي» لأبي الربيع سليمان الحوات، و«الزاوية» للتهامي الوزاني، و«الإلغيات» لمحمد المختار السوسي، و«ذكريات من ربيع الحياة» لمحمد الجزولي، غير أن السيرة الذاتية لعبد المجيد بن جلون كانت أكثر امتثالاً لعناصر هذا النوع الأدبي، عدا التأثير الكبير الذي أرخته على النتاج السردي الحديث في المغرب. ورغم أن الكاتب ترك عمله الأدبي خارج التصنيف الأجناسي؛ لأن ذلك لم يكن شاغله أو كان واعياً به في حدسه النظري، على عادة مُجايليه، لكنه ضَمن هذا العمل مؤشرات ومعطيات نصية وموازية تُدْمجه ضمن النوع السيرذاتي، وضمن محكي الطفولة كما يقترحه الناقد المغربي محمد الداهي في دراسته «السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع» (المركز الثقافي للكتاب 2021).
ووفق ما يتيحه لنا ميثاق القراءة، حسب تصور الناقد الفرنسي فيليب لوجون، نجد أن العنوان «في الطفولة» يوحي بانتساب العمل إلى هذا المحكي السيرذاتي، حيث يتعهد الكاتب من خلاله بأنه سيسرد الأحداث والوقائع المؤثرة التي عاشها في فترة طفولته، ويستعيد ذكرياتها الماضية منذ النشأة الأولى: «لا أستطيع أن أتذكر بالطبع كيف شرعت في الحياة، لكن لا شك في أنني كنتُ أرفع صوتي بالعويل في الشهر الأول..» وأن هذه المحكي الاسترجاعي يحيل على ذاته بطريق ضمير المتكلم، كما يظهر في مستهل سيرته، بل إنه يعلن عن هويته الاسمية بشكل جلي عندما يحيل على لقبه الحقيقي في حديثه عن أبيه «مستر ت. بن جلون» وعن جده من الأب «أحمد بن جلون». وفي آخر فصول سيرته، يبرز المؤلف مقصديته منها، في ما يشبه تصريحاً أو تعاقدا مع قرائه المفترضين يلتزم به أمامهم بالصدق، وأمام فعل الكتابة التي ما إن فرغ منها حتى انفتح بابٌ آخر في تأويل معنى هذه السيرة وتأبيدها: «وبعد، فإن قصة طفولتي يجب أن تقف هنا، وليس من المهم أن يعرف بها القارئ شخصي، فما قصدت إلى ذلك، وإنما قصدت أولا إلى إرضاء رغبة في نفسي ـ وقصدتُ ثانيا إلى تسجيل حياة طفل عاش في بيئتين تكادان أن تكونا متناقضتين..».

يسرد العمل، بناءً على قواعد النوع السيرذاتي المُضمنة فيه، تاريخ أنا الطفل لنحو عقدين من الزمن؛ من الولادة إلى أول الشباب وهو يناهز ثمانية عشر عاماً. وعبر هذا التاريخ، نتعرف على سلسلة ولادات متتالية مرّ بها الطفل وامتحنت ذاته ونفسيته وطبعت هُويته ورؤيته للأشياء والقيم والعالم، نتيجةً لما واجهته حياته الفردية من مؤثرات وتجارب متغيرة، شخصية وعائلية ووطنية، وفي طليعتها شعور هذا الطفل بوطأة المنفى والضياع في الفضاء الثالث بتعبير هومي بابا – بين مانشستر (إنكلترا) وفاس (المغرب) ضمن ما يستتبعه هذا الفضاء من ازدواجية اللغة واختلاف السلوك الاجتماعي والمعتقد الديني وأنماط العيش واللباس وطرق الحوار والمحادثة. فالطفل تعرف في بيتهم في مانشستر إلى «كثير من صور الحياة» وطبائع المراكشيين وقيمهم (رفع الأصوات عند الحديث، غياب الذوق والأناقة، عزة النفس، حب الخير والإقبال على الاستمتاع بالحياة..) وفي بيت آل باترنوس تعرف إلى أفراده مع اختلاف سلوكهم وأمزجتهم وطبائعهم وأحاديثهم عن تقدم الحضارة، ومع ميللي تعرف إلى الحياة واتسع أفق وجوده وهو يرتاد دور السينما والمسرح والحدائق العامة، وأخذ يتشرب قيم المجتمع ومثله العليا وثقافته العصرية (حب الاستطلاع والاكتشاف، المغامرة، القدرة على السيطرة..). بيد أن الشارع الفاصل بين بيتهم وبيت آل باترنوس لم يعد هو الفضاء الثالث الذي يعبره بسرعة، بل امتد هذا الأخير ليشمل مجالات أرحب وأعقد تمس كينونة الطفل بعد عودته إلى وطنه المغرب، وتخاطب وجدانه وفكره، وفي إثر كل ذلك بدأت هوية الذات تنشأ من جديد في سياق ما واجهته من مصائر متقلبة، شخصية وجمعية، غيرت رؤيته للعالم رأسا على عقب.

الذاكرة والتخييل

بيد أن هذا الماضي الذي يريد استعادته تواجهه صعوبات الذاكرة، وهو ما يطرح مسألة الوهم المرتعي الذي تنتجه السيرة الذاتية، والذي يجب أن لا يُخْفي عنا حمولة التخييل المتضمنة فيه، إذ لا يمكن للمؤلف أن يأخذ بالاعتبار حياته كما جرت. إنه يصنع منها حَكْياً، بمعنى أنه يُكيف هذه الحياة مع الإكراهات المرتبطة بالشكل السردي، أي يعيد تشييد حياته حتى يكتبها، ويسعى إلى إعادة تنظيم «تعرجات» ماضيه وآثاره على ضوء ذاته الحاضرة: «وإنني لأعود بالنظر إلى الوراء، إلى هذه الخطوط المتعرجة التي رسمتها آثار قدمي في سفح جبل الحياة. فهل أنا الذي يكتب هذه السطور في المرحلة الرابعة هو حقا ذلك الطفل الذي ترك عند السفح تلك الآثار». يصير الفعل السيرذاتي، عبر نشاطه التذكري، خزانة الذكريات والمكان الذي يُعاد من خلاله التفكير في الماضي وابتكاره باستمرار. فالهدف الرئيسي من هذه العودة إلى الوراء التي تلازم كل عمل سيرذاتي، إنما هو الذهاب نحو غير المَقُول من أجل تحرير معنى الحياة.
وفي هذا السياق، تبدو أولوية التخييل الذي تسنده بقايا العاطفة كحافز داخل الخطاب، من أجل استثارة الذكريات ورتق ما انثلم منها بكيفية جديدة؛ فكان ينهض على شرط العاطفة التي بها يتم استحضار أي ذِكرى عاشها وتأثر بها على شكل صور واحتمالات وأحاسيس ومشاهد حميمية تخفت أو تقوى تبعاً لتأثيرها ودوامها في وجدانه، كما يلتبس مع الإدراك والاستذكار عندما يتحول ما كان يتخيله إلى عنصر إثراء الذات وخبرتها بالعالم وابتكار لهويته، على نحو كان يساعدها أحياناً على فهم واقعها والسعي لتجاوزه. ظل الكاتب يستحضر هذه العاطفة التي كانت مسيطرة على نفسه في ذلك الحين، وامتزجت فيها صور متضاربة من مشاعر «الاستغراب والخوف والتطلع» ويعيد اكتشافها كما لو أنه يكتشف «حدود مدينة قديمة»؛ ليس لأن محكي الطفولة بما ينغلق من غموض وأسرار واستيهامات ومشاهد حميمية يفترض مثل هذا التوتر الانسيابي بين المرجعية والتخييل، بل لأن السارد نفسه يستثير تلك البقايا بمهماز الخيال ويتذرع به في مغامرة تذويت أسلوب الكتابة، واكتشاف هويته النصية على مناطه الخاص، وفي المقابل لا يستعين بمصادر خارجية إلا في ما ندر (رسائل، شهادات، مذكرات..).
إن الخطاب السيرذاتي الذي ميز «في الطفولة» كان يبني مرجعيته الداخلية كنوع أدبي تمليه مقتضيات بنائه الفني الخاص، ويؤدي وظيفة أساسية تكمن في الدفاع عن قيمة الذات وفكرها الحر وتكوينها المعرفي وسط المحن والحوادث الانقلابية. فالذات كانت تسرد أشكال الصراع التي تمتحن حياتها الشخصية ووجودها الفردي على التخوم، وتسائلها من منظور حسها التجريبي وافتتانها بالغريب والمختلف والمغاير بين ضفتين (إنكلترا/ المغرب) ثم تتمرس بعد عودتها إلى وطنها الأصلي بآليات المقاومة الجمالية (الكتابة) والثقافية (رؤية العالم). ومن ثمة، فهذا الخطاب ما يزال يحتفظ بمستنداته النوعية، وقيمته الجمالية التي لم تفصل قضية التعبير عن قضية الشكل السردي الذي انعكست عليه، مثلما كانت تتخلله لحظات ثقافية تنقل أسلوب السيرة من خاصية التذويت إلى نوازع السياسة في تصور الذات لما تكتبه وتعيه بلغة عربية حديثة قادرة على حمل قيم جديدة تمتزج بثقافة المغاربة وحياتهم في العصر الحديث، وتشخيص أشكال تمثيلهم للذات والتاريخ ضمن رؤية استشرافية ما بعد كولونيالية.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mohamed:

    نريد فصل 18 19 ارجوك يا في طفولة?

اشترك في قائمتنا البريدية