إن في هياكله الداخلية أو في علاقته بالقوى الإقليمية والدولية النافذة، لم يستقر المجال العربي، المشرقي بصورة خاصة، على نسق مطرد من التطور يجنبه الخضات الكبيرة. بالعكس، ترسخ أكثر وأكثر بعد الاستقلال ما يمكن تسميته نمط التطور الكوارثي، هذا الذي يجمع العنف الفائض والدمار المادي الواسع والمعاناة الإنسانية الشديدة. ما عرفنا من ثورات عنيفة وحروب وحروب أهلية وتدخلات أجنبية أوثق صلة بأنماط تحول كارثية متكررة منها بأزمات حادة أو بكوارث عارضة. حين ننظر حولنا في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق، وفي اليمن، والسودان وليبيا، ومصر بصورة ما، لا نرى كوارث كبيرة فقط، بل يبدو أننا حيال بنية كوارثية بلا مخارج أقل عنفاً. كانت الثورات مساعي شجاعة للانتهاء من أوضاع جائرة في بلداننا وفتح آفاق أعدل، لكنها آلت بصور مختلفة إلى أوضاع أشد جوراً، أو إلى مزيج من فوضى وأوضاع جائرة لا تعد بشيء مختلف، ولا تقطع مع النمط المترسخ. ما يبرر الثورة في الأساس هو نقل المجتمع المعني إلى أوضاع تقبل الإصلاح المستمر، أي تغني عن الثورة التي هي تعريفاً وضع استثنائي، بما يدشن زمن المعالجات السياسية والحلول غير الكارثية. ثوراتنا لم تنجح في تأسيس زمن الإصلاح.
هزمت الثورات، لكن لم ينتصر من هزموها. الانتصار سياسي دوماً، ويمكن تعريفه في هذا السياق المخصوص باستحداث نمط تغير غير كوارثي، عبر نجاح الفريق الفائز في الصراع في استيعاب المهزومين في نظام استيعابي جامع يستطيعون الاعتراف به لأنه هو يعترف بهم ويستوعبهم. هذا لم يحصل في أي من بلداننا. نظام مصر الحالي لا يعد المصريين بحلول وطنية عامة، ولا يفتح مساحات للمشاركة تدفع قطاعات أوسع من المصريين للاستثمار فيه. الحال أسوأ في سوريا بمراحل، حيث يجتمع ضيق النظام بالحمايات الأجنبية بالانقسام الوطني بالفوضى الشديدة، بالنزعات المتطرفة، في تركيب مفرط الكارثية لا يقبل الاستقرار. والأمر غير مختلف كثيراً في لبنان، حيث هناك حزب مسلح مغرور بسلاحه، مترسخ ضمن جماعة أهلية كبيرة وتابع لدولة أجنبية في الوقت نفسه، متدخل عسكرياً في سوريا القريبة دفاعاً عن نظامها الإبادي، ولا يسعى وراء حلول سياسية لا في لبنان ولا في سوريا.
وفي لبنان، كما في سوريا والعراق واليمن، تعززت البنية الكوارثية بتمفصلها مع تطييف متسع لنظم السلطة وتغلغل إيراني، في الدولة وفي المجتمع. وتجنح العلاقة بتركيا إلى مراكمة عوامل الكارثية، العنف والدمار والمعاناة الكبيرة، بخاصة في سوريا والعراق.
والأساس في النمط الكوارثي هو تطرف ولا عقلانية القوى المستفيدة من الأوضاع القائمة، وتحجر نظم المصالح التي تدافع عنها، ثم تعزيز ذلك بعوامل انفعالية وإدراكية وقيمية تمتزج فيها مخاوف وأحقاد وذكريات تاريخية مرضوضة. ويبدو أن الفشل في إرساء دولنا على أرضيات سياسية توسع من المشاركة الاجتماعية في الحياة العامة، وتوفر آليات تغير ذاتية لنخب السلطة، هو ما يقوض فرص العقلانية وما يدفع نحو انفجارات عنيفة غير عقلانية. الأمر ببساطة أن البنى الاجتماعية الكارثية، أي الضيقة والمتطرفة وغير العقلانية، تتغير تغيراً كارثياً. قد يمكن تأجيل الكارثة هنا وهناك، لكن إلى اليوم بثمن ترسيخ النمط الكوارثي. وقد تجتنب وقتياً كارثة سياسية محتملة هنا أوهناك لكن في إطار سياسة الكوارث ذاتها.
حين ننظر حولنا في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق، وفي اليمن، والسودان وليبيا، ومصر بصورة ما، لا نرى كوارث كبيرة فقط، بل يبدو أننا حيال بنية كوارثية بلا مخارج أقل عنفاً
وهذا النسق هو كذلك طابع العلاقة بإسرائيل، وبقدر متسع بأمريكا والغرب. الكارثة هي النسق المستقر في فلسطين بفعل التطرف الإسرائيلي الأقصى، وبأثر الفشل العربي في الدفع نحو حل سياسي أقرب إلى العدالة، فشل يجد جذوره في كون نظمنا ليست سياسية أصلاً، هي تكوينات سلطوية ضيقة القاعدة لا تقدم مثالاً يحترم لا لمحكوميها ولا لأحد في العالم. والنسق الكوارثي مستقر كذلك في العلاقة مع أمريكا، بفعل تطرف السياسة الأمريكية في المنطقة، وهو تطرف تغذى بدوره من فراغ أنظمتنا وتخاذلها ولا سياسيتها.
وبينما ينبع التطرف في الحالتين الإسرائيلية والأمريكية من فائض مهول من القوة ومن علاقة تفوق تجاهنا، تفوق مادي ولكنه مرسخ إدراكياً وحضارياً كذلك، على نحو يبقى الكارثة ماثلة، يبدو النمط الكوارثي أوثق صلة من جهتنا بالمظلوميات النشطة التي لا تخاطب ما هو عقلاني فينا ولا تترجم منذ عقود إلى طلب لعدالة وأمان عام جامعين. وهذا بخاصة لميل المظلوميات إلى الانعقاد على الهويات الموروثة أو تنشيطها لتصير قوى سياسية دون وطنية ودون عقلانية، تطلب السيادة وليس السياسة، أي كذلك الامتياز وليس المساواة. المظلوميات الشيعية والعلوية والسنية ناشطة جداً في العقود الأخيرة، وهي وثيقة الصلة وفق كل المؤشرات بالكارثية كنسق للتطور السياسي. تغير نمط الكارثية في العراق من نظام طغيان متطرف وضيق القاعدة وبلا آليات تغير ذاتية أيام صدام، إلى نظام طائفي وتابع لإيران، يتغذى انفعالياً من مظلومية شيعية قديمة ومعاصرة ومتجددة رغم الامتيازات، وبلا آليات تغير ذاتية كذلك. وسيرة المنظمات السنية الجهادية هي سيرة الكارثة حيثما حلت، وثيق الارتباط بإدارك بارانويي وكارثي للواقع المحلي والعالمي (نحن الأمة وغيرنا طوائف؛ لنا «أستاذية العالم» لكن العالم ضدنا) انقلب إلى نبوءة تحقق نفسها من حيث مناهضة العالم لهذه التشكيلات المتطرفة والعدمية، الكارثية بالفعل، على نحو يثبتها في جنون اضطهادها وعظمتها، ويحبسها في المنطق الكوارثي. ولعل المخيلات المَعادِيّة والقيامية للإسلاميين، سنيين وشيعة، تطبع النفوس على الكوارث، تنتج سيكولوجيا كوارثية وتديناً كوارثياً. وبالمثل، لا يبدو مركب المظلومية والتفوق الإسرائيلي اليهودي متوافقاً إلى مع كارثية مستمرة، في فلسطين والمجال العربي.
إن كان من أولوية سياسية في إقليمنا فهي في الانفصال عن النمط الكوارثي السائد الذي ينحدر إلينا منذ بواكير تشكل الشرق الأوسط المعاصر حول إسرائيل والبترول والطغيان في المجال العربي أو أنظمة الاستثناء الدائم. هذه البنية شديدة التطرف ولا تسمح بحلول سياسية، تسمح بالكوارث فقط. وربما بانتظار الكارثة الأكبر من كل كارثة، دون ضمان بعد ذلك لمفعول ثوري لأكبر الكوارث على غرار ما أمل نديم البيطار يوما بفعالية ثورية للنكبة الفلسطينية. نقيض الكارثة هو السياسة العقلانية، التعدد الاجتماعي معبر عنه في تنظيمات سياسية تعمل على التسوية بين مطالبها المختلفة، ونقيض التغير الكوارثي هو الحلول السياسية وتداول السلطة السلمي. أفضل ما يمكن فعله عربيًا للانفصال عن النسق الكوارثي في العلاقة بأمريكا وإسرائيل، وإيران وتركيا، هو الانفصال عن ذلك النسق في ترتيب شؤون مجتمعاتها، والتحول إلى دول ومجتمعات سياسية.
يسمح منظور نمط التحول الكارثي برؤية بعض الأشياء التي يفيد إدراجها معاً. أولها التكوين المتطرف واللاسياسي للدولة في بلداننا على نحو يضعف العقلانية فيها وفي المجتمعات المحكومة، فلا يغلق باباً للانفعالات والانفجارات العنيفة. وثانياً ارتباط بنى التطرف السلطوية في بلداننا مع البنية الشرق أوسطية التي يسودها الأمريكيون والإسرائيليون، ويترسخ مقام الإيرانيين والأتراك فيها، ومعلوم أن تلك البنية اقترنت بحرب واحدة كبيرة على الأقل كل عقد من السنين. وثالثاً اندراج التشكيلات الإسلامية في المنطق الكارثي على نحو لا مخرج منه بفعل تكوينها اللاسياسي وإدراكها المختل كل الاختلال للواقع المحلي والعالمي. وهو يتيح رابعاً إلقاء ضوء على تطورنا الفكري خلال ثلاثة أجيال، وهو تطور متقطع، انفعالي ومتقلب، لا شيء يكتمل فيه، ولا يسمح بظهور تيارات ومدارس متميزة، ولا بعقلنة الحياة العامة. وعلى مستوى حياة الأفراد، والملايين يتأثرون مباشرة بالنمط الكوارثي للمنطقة ودولها وتفاعلاتها الدولية، تتظاهر الكوارثية في صورة رضوض وأذيات نفسية، غير معالجة غالباً، تدفع إلى ردود فعل عنيفة ومهتاجة ترسخ دوام النمط الكوارثي، أو إلى حالة من الخدر الأخلاقي وارتفاع عتبة الحساسية حيال أي كارثة جديدة بفعل بلوغ درجة الإشباع من «تكسر النصال على النصال».
وفي المحصلة، الكوارثية هياكل سياسية أنماط تغير وأوضاع دولية وبنى إدراك وتكوينات نفسية تبدو متوافقة مع التدمير الذاتي والغيري، يتعذر لحياة أن تعاش في المجال العربي دون القطيعة معها.
كاتب سوري