الرهانات من وراء كتابة القصة القصيرة كثيرة، فكل كتابة تنشد غاية، فقد تجدها مشاكسة للواقع، أو التاريخ، أو الذات، أو حالمة ومعانقة للفنتازيا بكل ما يعنيه ذلك من ابتعاد عن المحسوسات والتحام بالمجردات، تلك هي طبيعة الكتابة لا يستطيع أحد أن يقيدها بشروط قبلية، فعلاقة الدوال بالمدلولات لا يمكن التكهن بها. ويجد القارئ في مجموعة «الهروب.. أو هكذا تبدأ القصص» لسمير بن علي التي صدرت عن دار ورقة للنشر والتوزيع في تونس في سنة 2019 عنونة دعائية مثيرة، كما سيجد نفسه يتساءل عن كنه هذا الهروب وفحوى هذه القصص التي يرسيها هذا الفعل أو يرسي بداياتها بدلالته المخلخلة للزمان والمكان والحال.
البطل الهامشي المتمرد
تتسم علاقة البطل بمحيطه بطابع الانفصال الذي يتجلى تحديدا في فعل الهروب، فـيهرب علي الفرشيشي في قصة (الهروب) مع حبيبته حسناء ابنة أحد الأعيان زمن البايات إلى مجاهل الصحراء بعد أن أرسله أبوه لتلقي العلم في جامع الزيتونة وحلم بأن يصبح قاضيا. ويهرب الهادي في (العائد) إلى أوروبا من الفقر ثم يعود لدفن أمه ويهرب مرة أخرى، ويتكرر الأمر مع الصحافي أحمد في قصة (لخريف سيأتي.. ممكنات الكتابة) الذي يترك الكلية والمدينة نحو الصحراء، ومع المعلم الفيلسوف في (المعلم) الذي يترك العاصمة وجمهوره ويأوي إلى مدينته الأم، والقائد البربري تاكفاريناس في (رؤيا تاكفاريناس) الذي يقود تمردا على الرومان تاركا وراءه مكانته الرفيعة تحت سلطتهم ويختفي بين الشعاب والوديان معلنا المقاومة.
يعين فعل الهروب الهوة الفاصلة بين البطل وواقعه، ويتجسد الانفصال عن المكان جزئيا أو كليا وتبدأ رحلة الصراع بين الهامشي والمركز، وتسبق الانفصال محاولة الاتصال، لكنها تفشل إذ ينهار مبدأ التعاون Principe de coopération بينه وبين أغلب الشخصيات الأخرى ليحل ملفوظ الراوي في كثير من المواضع محل التبادلات القولية، وتخلف الخيبة كما هو الشأن مع علي الفتى المنحدر من المحاميد المنتمين إلى عرش الفراشيش الذي «أحب ابنة أحد أعيان العاصمة. وحين أراد أن يعرف ردة فعل أهلها كاد يُفصل عن الدراسة، لولا تدخل بعض المشايخ الذين توسموا فيه النباهة وتصوروا له مستقبلا باسما».
وينشأ عن هذا صوتان الأول قوي الحضور يمثل الهامش، والآخر خافت وضمني في أحيان أخرى يمثل الواقع، ويتحول البطل في إطار الأول إلى شخصية ملحمية تواجه مجتمعا بأكمله له أعرافه الخاصة وحاميته العسكرية وتقاليده السياسية وثقافته المرفهة، ويتحول في إطار الثاني إلى مجرم يجب مطاردته والتخلص منه. يتقاطع هذان الصوتان بوضوح في ملفوظ أحمد أبي علي: «إذا لم يرتضوا أن يجمعنا الدم، أصدقكم القول إنني لست غاضبا من ابني. فقد فعلها أعمامه وأجداده من قبل. لقد فر بفتاته. هذا عُرفنا إذا نادى القلب استجاب له الزنْدُ وما تحت الزنْد، بل إن جميع إخوتي وأبناء عمومتي لا يرون فيه إلا فتى العرش الأول. فقط يحز في نفسي أنه لم يصبر قليلا ليُتم دراسته فيتولى القضاء ويُذلهم جميعا بالشرع والعدل، لكن لا يهم فقد أذلهم ونفذ إرادته فوق شواربهم ولحاهم التي لا ينفكون عن صبغها».
ويفقد أحمد في قصة (لخريف سيأتي.. ممكنات الكتابة) الرغبة في أشياء كثيرة منها ما يتعلق بتلقي المعرفة ومنها ما يتعلق بالمدينة بسبب انتشار التفاهة، فيقرر الهروب صحبة كريمة إلى الجنوب، والبحث عن خيمة في فضائها الشاسع. تتضح هنا قتامة الواقع المخيب لآمال البطل، كما تتضح في القصص الأخرى ومنها قصة (نظرة مارقة) وقصة (المعلم) وقصة (العائد) حيث الواقع المنفر والسوداوي، ويتحول أخيرا إلى معنى الخيانة فإن قصة (رؤيا تاكفاريناس) تحيل على طعن الأمازيغ لقائدهم في ظهره، بينما كان يحارب الرومان، ويتدخل صوت الراوي مؤكدا هذا الغدر لدى البطل بقوله في قصة (رؤيا تاكفاريناس): «تقول المصادر التاريخية أن تاكفاريناس سقط في أيدي الرومان بسبب خيانات القبائل المتحالفة معه» وإحالته الأخرى على خبر الغدر بالثائر علي بن غذاهم.
المرأة موضوع رغبة مركبة
تتميز القصص جميعها ودون استثناء بهيمنة الاتصال على محور العلاقة بين البطل الفاعل والمرأة موضوع القيمة، وهذا على عكس علاقته بالواقع، ذلك أن الرغبة التي يُبديها البطل تنتج استجابة، ثم يؤول الأمر إلى نوع من الاتحاد في الحلم أو الحالة، وينتهي بهما الأمر إلى الانتفاض على المعهود والموروث والمرور إلى فضاء جديد مفتوح كالصحراء. ويظهر التفاعل بين البطل والمرأة بتمثيلات متنوعة ضمنية تفيد التناغم ترِد ثني صوت الراوي، كما هو الحال مع حبيبة علي الثائر على البايات، أو بارزة في ملفوظ الشخصية النسوية، كما في قصة (التأشيرة) لما تكتب كارلا دي تشيني رسالة تحاول فيها استعادة حبيبها أحمد قائلة: «قررت أن أرسل لك لأخبرك ولأول مرة أنك حين سافرت تركتني حاملا. وحين وضعت لم أرد إخبارك لأنني أردتك أن تعود من أجلي لا من أجل الطفلة مريم ابنتك ابنتنا. لكنها الآن تطرح أسئلة كثيرة». ويتضح في ملفوظ البطل في هذه القصة ما أشارت إليه القصص الأخرى من رفضه للتنميط بأنواعه، إنه ههنا يمحو صورة الرجل الشرقي كما ترسخت لدى المرأة الأوروبية قائلا: «لا آنستي. نساؤنا لا تنزع أحذيتنا. إننا ننزعها لوحدنا، ونغسل أرجلنا لوحدنا، بل نحمل أيضا الطعام إلى نسائنا في الفراش، لقد ولى عصر الجواري». غير أن المرأة بوصفها موضوع رغبة تشف عن رغبات البطل في استرجاع المدينة والفكر والوطن والذات، فتتحول بهذا المقتضى إلى مرتبة الرمز المُثري لأفق النص.
إدانة الواقع قصصيا
تنفتح القصة هنا وهناك على المرجع بأشكال مختلفة مثل الإحالة بقوة على التاريخ واستحضار زمن البايات والرومان ومثل الإحالة على الواقع الاجتماعي عموما والطلابي بوجه خاص بانقساماته الأيديولوجية لينتج هذا البطل بوجهيه التاريخي والواقعي المعاصر مع ثبات انفصاله عن محيطه القاتم، لكن هذا الانفتاح لا يعني غلبة المرجع الخارجي لأن نهاية القصص على اختلافها غامضة بعيدة عن التصريح، وتتطلب التأويل في دائرة القراءة، فعلي المنتفض على البايات واقع في مفترق طرق بين طموحه إلى المواجهة والتخفي في الصحراء، وتهيمن الرحلة المجهولة في نهايات قصص أخرى يبتعد فيها الفرد الواعي عن تفاهة المركز، ويسترجع البطل في هذا الشأن جدية الحياة الجامعية وعلاقتها بالفكر من خلال الصراعات الفكرية والبيانات المختلفة والنقاش، ألا يكون الاسترجاع في مثل هذا الموضع هروبا آخر يُتيحه الزمن؟
ويظهر ثراء العالم القصصي بتجاوز زمن الأحداث Temps d’evenements من خلال منظور الشخصية Point de vie وبوح البطل بمكنونه في عروض خطابية تذكر بالبطل المرئي في المسرحية في (قصة الهروب) ومن خلال القصة داخل القصة كما في (لخريف سيأتي) والرؤيا في (رؤيا تاكفاريناس) والرسالة في (التأشيرة) والتوثيق الماكر باستخدام الاسم العلم وعناوين وتطوير معجم مهم له بدلالات فنية وثقافية ورمزية، يدمج السائس والمفكر والفيلسوف والأديب والممثل في الملفوظ القصص.
إن القصة طريقة من طرق صياغة تجربة الكاتب صياغة جمالية منفتحة تختلف عن أي صياغة أدبية أخرى، لأن المعنى في القصة القصيرة له تزمينه وطبيعته الخاطفة والمكثفة، وقد تجلت في مجموعة الفرار صورة الفرد بوصفه ذاتا حائرة تنتمي إلى محيطها الاجتماعي والثقافي، ولا تنتمي ذاتا مهددة بالتدجين ومحكوما عليها مسبقا بالتبعية والرضا برتبة الهامش، ويمنح هذا للكتابة وظيفة إدانة الواقع والتاريخ والثقافة إدانة صاغها سمير بن علي بوعي حاد من داخل القصة القصيرة وبتنويع فني لافت، وهو وعي شكل رؤيته في مجموعتيه القصصيتين الأخريين (نظرة أخرى) و(الارتطام).
ناقد تونسي