نواكشوط ـ «القدس العربي»: الجريمة الوحيدة التي يميل المجتمع فيها إلى لوم الضحايا بدلاً من الجناة الحقيقيين.
لا شيء يردع العنف الجنسي المنتشر كالنار في الهشيم داخل مناطق النزاعات في العالم وخاصة في أفريقيا حيث يختلط العنف بروح الانتقام، وحيث يخفي الضحايا تعرضهم للعنف الشهواني خوفا من العار ومن الفضيحة.
ويحيي العالم يوم التاسع عشر حزيران/يونيو من كل عام للفت الأنظار إلى جرائم العنف الجنسي بمناطق النزاعات، ولتحسيس المجموعة الدولية إزاء هذا الجرح الغائر وحول هذه الجرائم المخفية والكامنة.
وفي خضم النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية تبرز قضية العنف الجنسي اليوم كواحدة من أكثر الجرائم انتهاكًا للكرامة الإنسانية وأكثرها عرضة للصمت الجماعي، لكونها جرائم يخفيها الضحايا خوفا من الفضيحة ورعبا من الوصم الاجتماعي.
ورغم وحشية هذه الأفعال وتأثيراتها المدمرة على الضحايا والمجتمعات، يبقى العنف الجنسي بمناطق النزاعات غالبًا بعيدًا عن دائرة الضوء وعن الإدانات الدولية حيث يواجهه العالم بصمت جماعي، عن معاناة الضحايا الذين يتسترون على جرائم العنف الشهواني بسبب الخوف والخجل والوصم الاجتماعي، ما ساهم في استمرار هذه الجرائم دون رادع، وزاد من معاناة الضحايا.
ولعل من أسباب استمرار العنف الجنسي بمناطق النزاعات كونه يمر دون توثيق أو محاسبة، وهو ما يستوجب البحث عن السبل التي تمكن من كسر هذا الصمت وتقديم المجرمين إلى العدالة.
أفريقيا وكر العنف
في أفريقيا ينتشر العنف الجنسي بشكل مروع في مناطق النزاعات، حيث يمثل هذا السلوك المتوحش مشكلة معقدة ومتعددة الأبعاد، تتداخل فيها العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وتنتشر هذه الظاهرة في العديد من الدول الأفريقية التي تشهد نزاعات مسلحة، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان، ونيجيريا، والصومال، ومالي.
ولتفشي العنف الجنسي بمناطق النزاعات الأفريقية، أسباب عدة بينها استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، حيث تلجأ الجماعات المسلحة إلى استخدام العنف الجنسي كوسيلة لبث الرعب والسيطرة على المجتمعات المحلية.
وقد ظهر أن هذا التكتيك فعّال في تفكيك النسيج الاجتماعي وزرع الفتنة بين الفئات المتنازعة.
الصمت المطبق
تقول براميلا باتين، الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي خلال النزاعات «إن العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات يُوَاجَهُ عالميا بصمت فاضح هو أكبر صمت في التاريخ أمام جرائم بالغة الخطورة» مضيفة «أن إهمال هذا العنف يتواصل بشكل مزمن، حتى في عالم بلغ فيه عدد النزاعات مستوى قياسيًا منذ الحرب العالمية الثانية».
وأوضحت «أن العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات هو شكل من أشكال العنف المصمم عمدًا لإلحاق الضرر ليس فقط بالضحية، ولكن أيضًا بالعائلة، والمجتمع ككل؛ وهو كذلك، نوع من العنف يُستخدم لبث الخوف، والإذلال، والتهجير»؛ لافتة إلى «أن السبب الرئيسي لعدم الإبلاغ عن العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات هو الوصمة الاجتماعية، فغالبًا ما يُعاني الناجون من مأساة مزدوجة تتمثل في الاغتصاب والنبذ الاجتماعي».
وأضافت «هناك أيضًا الخوف من الانتقام، حيث يتم ارتكاب العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات من قبل جهات حكومية وغير حكومية» متسائلة بقولها: كيف يمكن الإبلاغ عن الجهات الحكومية عندما يكونون هم أنفسهم مرتكبو هذه الجرائم؟
صعوبة الإحصاء
وفيما يتعلق بإحصائيات عن الانتشار الحقيقي للعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات، أكدت براميلا باتين، الممثلة الخاصة «صعوبة إحصاء حالات العنف المرتكب» مشيرة إلى «أنه مقابل كل حالة يتم الإبلاغ عنها، هناك على الأقل 10 إلى 20 حالة لا يتم الإبلاغ عنها ولا يتم التعامل معها».
وأوضحت «أن التقرير السنوي للأمين العام، الذي تتولى هي نفسها مسؤولية تجميعه ويتم مناقشته سنويًا أمام مجلس الأمن، هو الوثيقة التاريخية الوحيدة حول جرائم العنف الجنسي، لكن التقرير لا يمكنه بأي حال من الأحوال تقديم فكرة أو إحصائية عن حالات الانتشار الحقيقي لهذه الجرائم.»
أسباب تفشي الظاهرة
ومن أسباب تفشي الظاهرة، ضعف النظام القضائي، فغالبًا ما يكون النظام القضائي في الدول التي تقترف فيها جرائم العنف الشهواني، غير قادر على ملاحقة الجناة ومعاقبتهم، ما يؤدي إلى انتشار ثقافة الإفلات من العقاب. ويظل الفقر وعدم الاستقرار السببان الرئيسيان في تفشي الظاهرة، حيث تسهم الأوضاع الاقتصادية المتردية وعدم الاستقرار السياسي في تفاقم الوضع، ما يزيد هشاشة المجتمعات ويجعلها أكثر عرضة للاستغلال والعنف.
ويدفع الخوف من العار والفضيحة أو ما يسمى الخوف من الوصمة الاجتماعية العديد من ضحايا العنف الجنسي إلى الصمت وعدم الإبلاغ عن الجرائم التي تعرضوا لها، ما يجعل من الصعب توثيق حجم المشكلة والتعامل معها.
دور الأمم المتحدة
دون أن يكون لذلك تأثير كبير، تلعب الأمم المتحدة دورًا حيويًا في مكافحة العنف الجنسي في مناطق النزاعات الأفريقية، حيث تسهم جهودها في رفع الوعي الدولي بحجم المشكلة وتشجيع اتخاذ إجراءات.
ويتجلى دور الأمم المتحدة في عدة آليات بينها التوثيق والمراقبة، حيث تعمل على توثيق حالات العنف الجنسي من خلال بعثات حفظ السلام وتقارير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
ومن هذه الآليات الأممية، تقديم الدعم الطبي والنفسي والقانوني للضحايا عبر شركائها من المنظمات غير الحكومية.
ويشمل الدعم الأممي كذلك، إنشاء مراكز دعم وتوفير الخدمات الصحية المتخصصة.
وتتولى الأمم المتحدة كذلك ممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي مستخدمة نفوذها السياسي للضغط على الحكومات والجماعات المسلحة لوقف استخدام العنف الجنسي كتكتيك حربي، كما تعمل على تعزيز القوانين والسياسات الوطنية لمكافحة العنف الجنسي وحماية الضحايا.
ومن آليات مواجهة العنف الجنسي، ما تنفذه الأمم المتحدة من برامج تعليمية وتوعوية تهدف إلى تغيير المفاهيم الاجتماعية السلبية حول العنف الجنسي وتدريب القوات الأمنية على كيفية التعامل مع هذه الجرائم. وتشجع الأمم المتحدة على إشراك المرأة في عمليات صنع السلام واتخاذ القرار، ما يعزز من جهود منع العنف الجنسي ومعالجته.
التحديات والنجاحات
رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الأمم المتحدة، إلا أن التحديات لا تزال هائلة. ويتطلب الأمر تعاونًا وثيقًا بين الدول، والمجتمع المدني، والمجتمعات المحلية لكسر الصمت وإيجاد حلول فعّالة ومستدامة.
ومع ذلك، هناك بعض النجاحات التي يمكن البناء عليها، مثل محاكمة بعض مرتكبي جرائم العنف الجنسي في المحاكم الدولية، وتزايد الوعي والاعتراف بالمشكلة على المستوى العالمي.
وتتطلب معالجة العنف الجنسي في مناطق النزاعات الأفريقية، مع جميع ما سبق، التزامًا دوليًا قويًا وجهودًا مستدامة لضمان العدالة للضحايا وإنهاء هذه الجرائم البشعة.