في انتظار الطامة… دروس النكبة والنكسة

إذا كان قسطنطين زريق قد أطلق على ما حصل في سنة 1948 مصطلح النكبة، في حين أطلق العرب على هزيمة سنة 1967 مصطلح النكسة، فإن ما ينتظره العرب بعد مقترحات أو هذيانات الرئيس الجديد للبيت الأبيض، قد يقود إلى الطامة الكبرى نظراً للتداعيات الخطيرة التي تحتملها تلك التصريحات، غير أن أسباب هذه النتائج تعود إلى عدم إدراك العوامل، وأهمها المراهنة بالمطلق على الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، فلكل نتيجة مقدمات، بما في ذلك الماضي، وما سينتج في المستقبل، وفي كل الأحوال فإن الوعي بالمقدمات كان يمكن ألا يقود إلى ما عانى منه العرب، وما سيعانون منه، فالذاتية المفرطة، والتنكر للقضية المصيرية استجلب هذا الضعف والتنمر. إن ما أطلقه الرئيس الأمريكي ترامب من تصريحات لا يعكس سوى نموذج من نماذج العنصرية الممزوجة بشيء من استغباء الآخر، أو العالم برمته، غير أن الأمر ليس منوطاً حقاً بما يريده ترامب، أو الولايات المتحدة الأمريكية بمقدار ما هو معني بالواقع العربي الذي ربما يتجه إلى اختبار الطامة الكبرى، التي ستلقي ظلالا قاتمة على المستقبل العربي لعقود طويلة، ما لم يتغير النهج والتفكير.

لقد استغرقتنا المفاهيم الكاذبة التي تنهض على القانون الدولي وحقوق الإنسان، والإيمان المطلق بمقولة العقل الأخلاقي الغربي، الذي لم نتعلم من تداعيات ماضيه الاستعماري الأسود، ناهيك مما ارتكبه من جرائم تجاه شعوبه، وتجاه الشعوب الأخرى، غير أن العالم في عهد النموذج الترامبي بات أقرب إلى سيرك يقوده مهرج لا تستقيم اللغة السياسية، أو الدبلوماسية عند مخاطبته، ولا حتى كل ما تنطوي عليه أقسام العلوم السياسية والشؤون الدولية والقانون، من مفاهيم أو نظريات للتعامل مع عقل يفتقر لأبجديات فهم المرجعيات التاريخية والأخلاقية، كونه رجل عقارات يتحالف مع مجرمي حرب لابتزاز العالم برمته. إن التعويل على ردة الفعل العربية قد لا يبدو واقعياً، ولاسيما في ظل نقص المنظور الواعي لتجاوز الذاتية الوطنية الضيقة، أو الحسابات الفردية، حسب مقولة النأي بالنفس عن الصراع، حتى وصلت الحرائق إلى الأبواب، ولعل هذا الخلل سوف يؤدي في النهاية إلى تقويض وجود الجميع، والأمر لا يعني فقط الوجود المجرد، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تهديد المعنى الوجودي للذات العربية التي باتت في حالة ضمور أو أنها تتجه إلى التلاشي، كونها باتت بلا قيمة حقيقية، خاصة في ظل هذا الاجتياح لمنظومة الوعي الثقافي العربي، الذي يبدو متهافتاً، وشكلانياً، ولم يبق منه سوى طقوس وشعارات لا تنطوي على أي قيمة حقيقية. لعلنا نتساءل في وعينا العميق عن حدود الطامة الكبرى – لا سمح الله – التي يمكن أن يتعرض لها العرب الذين قدموا التنازل تلو التنازل، ولم يبقوا لأنفسهم قيمة، وانساقوا إلى حلول سلمية وهمية، فكانت الدعوة إلى التسويات أقرب إلى مهدئات، فالأكذوبة التي تنهض على أن السلام قابل للتحقق، لم تكن سوى محاولة للنفاذ إلى الوعي، وترويضه، وفي مرحلة لاحقة تطبيع العقل العربي، ومزاجه كي يقبل وجود هذا الكيان الذي بات يقايض السلام بالتطبيع، والآن يتجاوزه بالتهديد لما هو أكبر من ذلك.

حذر قسطنطين زريق في كتابه «معنى النكبة» من مخاطر الهزيمة المعنوية، حيث كان يسعى إلى توصيف واقع ما قبل النكبة، وما بعدها، والذي يماثل سياقات الطامة الكبرى التي تقترب، ففي ذلك الزمن فقدت الشعوب العربية ثقتها بقادتها وزعمائها، وتمكن اليأس منهم، وبذلك يرى زريق أن هذا اليأس، أو الانتكاس المعنوي، أو الروحي أشد خطراً من الهزيمة المادية، فاليأس من القدرة على التغيير قد تمكّن من وعي الشعوب، ومن هنا ينبغي أن تُستعاد الثقة بالنفس أو العقل، ومن خلفها منظومة ثقافية وحضارية وتاريخية اختبرت الكثير من التحولات. إن النكبة ضمن قراءة تاريخية لم تكن سوى نتاج عقل غربي تمكن من التلاعب بالعرب، فأغرقهم بالمفاوضات والاتفاقيات والمشاريع، إلى أن تمكنت العصابات الصهيونية من تشكيل نواة دولة الكيان، ويمكن الإحالة في هذا إلى كتاب أكرم زعيتر «القضية الفلسطينية»، الذي يقدم صورة واضحة عن الفشل العربي السياسي تجاه التعامل مع سياقات ذلك الزمن، ولكن التأمل في حيثيات النكبة قد يجعلنا نعي النهج عينه، فقد كانت الدول العربية مشغولة بمراسلات وإصدار مذكرات للأمم المتحدة، والقوى الكبرى، ومن ثم تشكيل اللجان – كما يذكر أكرم زعيتر في كتابه – غير أن ما نلاحظه من الماضي أو نستنتجه من التاريخ عدم وجود فاعلية مادية أو نوايا حقيقية لمقاومة المشروع الصهيوني، وعلى ما يبدو فإن ما نختبره الآن يبدو جزءاً من معضلة العقل البنيوي العربي، الذي يفتقر إلى أدوات فاعلة، أو التفكير بأدوات حقيقية سوى الإذعان، على الرغم من التداعيات التي يمكن أن يقود إليها هذا الإذعان على الجميع.

لقد وضع زريق عدداً من الآليات التي يمكن أن تساعد على تجاوز النكبة، غير أن أهمها ينهض على تأكيد أهمية الفكر والمفكرين، الذي يبدون مغيبين عن القرار في الوعي العربي الراهن، فالنهج القائم ينهض على وعي المكاسب الذاتية على حساب الوعي بالصورة الكاملة، والتي يمكن أن يمكن أن تعني كابوساً يشمل الجميع، فهل تعلم العرب من درس النكبة؟ إن التعلق بالآخر، أو الغرب، لن يحقق الأهداف المرجوة، ولاسيما أننا بحاجة للتأمل في قيم الخلل العميق، الذي يكمن في بنية الفكر العربي الذي يبدو متوجساً من ذاته الأخرى، أو بوصفه جزئيات لا تنجذب إلى بعضها بعضا، إنما هي تتنافر، وتستشعر حساسية الثقة بالآخر، رغم أن زريق قد حذر – قبل عقود- من أن خطر الكيان لا يتوجه إلى جزء من أجزاء الأمة العربية، إنما هو يتهدد كيانها بالكلية. يمكن أن نقرأ قيمة العمل الجمعي في إشارة بسيطة أتى عليها زريق للمواجهة، والتي تنهض على التعبئة المادية والفكرية والمادية والعسكرية، ولكنه أشار أيضاً إلى أهمية التواصل مع الدول الأخرى، وها نحن نرى الآن بعض دول أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى بعض الدول مثل جنوب افريقيا قد أقامت تحالفاً من أجل دعم الاعتراف بدولة فلسطينية، كما ثمة دول أخرى في آسيا وأوروبا تساند القضية الفلسطينية، فهل توجهنا إليها للتنسيق من أجل تشكيل قوى مناهضة للمشروع الإمبريالي الأمريكي بصبغته التجارية المخاتلة؟
إن هذا النهج من شأنه أن يضفي قوة واقعية على مواجهة مشاريع التصفية، وبهذا فإننا أمام حدود تاريخية لفهم وعي الأزمة التي نعاني منها، غير أن القيمة الحقيقية تكمن في القدرة على فهم التاريخ، وأهم درس عدم الثقة بالغرب الذي يتقن التسويف عبر استعمال اللغة أو الخطاب، كما الإعلام.. ولكن رؤيته تبقى واحدة أو ثابتة لا تتغير تجاه هذه المنطقة، وأهمها الاستفراد بكل جزء فيه لإخراجه من المعادلة، ولعل هذه اللعبة بات يدركها الطفل الصغير، فكيف لا تدركها الدول.
كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية