في بحثها عن «الأخوَين رحباني»… هل قالت خالدة سعيد كل شيء؟

يعد المسرحُ اللبناني دائماً مساحةَ اختبارٍ نقدية، ومثارَ تآويل مرتبطة بذاكرة مُتسعة ومفتوحة على حركة ثقافية/ فنية، شكلت في العِقدين السادس وحتى منتصف السابع من القرن الماضي حقبةً ذهبية لنشوء وتطور أب الفنون، قبل دخول البلاد في الحرب الأهلية (1975 – 1990). بهذا المعنى لا تزال خالدة سعيد حاضرةً بقوة في المشهد المعرفي المحلي، وهي ترى إلى بناءِ مرجِعٍ مسرحي شامل توثيقاً وتأويلاً في كتابها «الحركة المسرحية في لبنان 1960- 1975 تجارب وأبعاد» (لجنة المسرح العربي 1998 ) الذي وعلى الرغم من اتساع المسافة الزمنية لأكثر مِنْ عِقدَين على إصداره، لم تتراجع أهميته النقدية التي تنبع أولاً من شح النقد – ولا نقول التأريخ والإحصاء – المسرحي المُنافِس له عامةً، وعلى مِحورَي التفسير والتحقيق.
فندَ الكِتاب التجارب المحلية على المستوى النظري وغذاهُ بآخرَ إجرائي في التأليف والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا والفِرَق والمؤسسات والمهرجانات، بمختلف مدارسها ومفاهيمها الفكرية، فلمْ يتجاوز أياً منَ الشخصيات الريادية التي حرصنا على إدراج كامل أسمائها، للحقبة المشار إليها أعلاه، كاستذكارٍ واجب ومُراجعةٍ دقيقة للتأكد وللتأكيد على صحة ما يُرادُ له البحث في هذا المقام، وهي كالتالي: مارون النقاش، محمد شامل، جوزيف دوناتو، منير أبو دبس، أنطوان ولطيفة ملتقى، أنطوان معلوف، عارف الريس، أنطوان كرباج، ميشال نبعة، رضى خوري، ميراي معلوف، برج فازليان، كريكور ساتاميان، ألفونس فيليبس، إدوار أمين البستاني، ميشال وألفرد بصبوص، كاسبار ايبيكيان، فاروجان حدشيان، فارس يواكيم، رضى كبريت، فائق حميصي، روجيه عساف، نضال الأشقر، بيتر شبيعة، ميشال غريب، ديفيد كوراني، شوشو، محمد كريم، رفعت طربيه، ثيودورا راسي، فاليري صروف، جورج شحادة، شريف خزندار، جوزف طراب، ماري – كلود اده، بول مطر، جان – ماري مشاقة، تريز بولاد، حنان عبود، ألين تابت، غابرييل بستاني، نزار ميقاتي، أدونيس، أنسي الحاج، جيرار خاتشاريان، منير معاصري، نبيه أبو الحسن، إلياس إلياس، آلان بليسون، عصام محفوظ، شكيب خوري، جلال خوري، بول غيراغوسيان، تريز عواد بصبوص، فؤاد نعيم، ريمون جبارة، مادونا غازي، فيليب عقيقي، يعقوب الشدراوي، جيرار أفيديسيان، موريس معلوف، جوزيف بو نصار، كميل سلامة، زياد الرحباني، رئيف كرم.
على امتداد صفحات الكِتاب التي تجاوزت السبعمئة صفحة، لمْ يُدرَج اسما عاصي ومنصور الرحباني إلا اضطراراً، في الوقت الذي كان من غير الطبيعي فيه عدم تضمين تَرْجَمَتَين خاصتَين بهما، أقله بموازاة صانِعِي المسرح المذكُورِين آنفاً، مِمن تناولتْ المُؤلفة كلاً منهم على حِدَة بحثاً وتقديراً بالحُكمِ عليهم، في ترجماتٍ متفاوتة لا تقل عن صفحتَين لواحدهم، أنجزتْ حقهم التاريخي كمُبدِعين بتجاربهم المختلفة الوظائف، وقدمتْ تفسيراً موضوعياً لقضاياهم وهمومهم الخاصة والعامة، التي انبسطت على الخشبات المحلية والعربية، ومنطلقاتهم النظرية التي نهضتْ عليها إبداعاتهم نصاً وعرضاً.

كانت المفارقة أن كل ما وردَ في الكِتاب عن عاصي ومنصور – على نُدرته – جاءَ هامشي الطرح، لا أصيل العرض، وفعلاً تِقنياً بمعناه السياقي أثناء الحديث عن تجارب الآخَرِين ممن عملَ معظمهم تحتَ إشراف وبتوجيهات الرجُلَين.

خليقٌ بنا هنا جرْدُ النقاط النادرة التي تناولتْ حرَكية الأخوَين رحباني، كما وردتْ في هذا الكِتاب وبتجرد: ففي حديثها عن إنشاء الفِرَق المسرحية مرت سعيد بِسطرَين على « فرقةٍ تمثيلية « لعاصي وأخيه منصور في انطلياس، قدمت عرضاً مسرحياً بعنوان «حسناء الحجاز» في الأربعينيات، ثم وبخمسةِ أسْطر أشارتْ إليهما بعد ذلك كرائدَين للمسرح الغنائي الفلكلوري اللبناني، المُقام على قِيَم الخير والحق والوطن والحرية، موهوبَين في «الشعر والتأليف الموسيقي والمسرحي» وذلك «بفضل الموهبة الاستثنائية لنجمته الأولى الفنانة فيروز» إلى ترجمة منير أبو دبس الذي مثلَ طفلاً في أوائل مسرحيات عاصي الرحباني في بيروت في تلك الفترة، مروراً بعصام محفوظ الذي لعبَ دوراً كبيراً في التقريب بين برج فازليان والأخوَين رحباني للتعاون في العروض، وصولاً إلى أنطوان كرباج وقد «بدأ التعاون مع الرحابنة في الفرقة الشعبية اللبنانية عام 1968 في مسرحية الشخص» وانتهاءً بعِبارةٍ يتيمة في ترجمة زياد الرحباني بوصفه «ابن فيروز وعاصي الرحباني وأنه ورِثَ مواهبهما».
كانت المفارقة أن كل ما وردَ في الكِتاب عن عاصي ومنصور – على نُدرته – جاءَ هامشي الطرح، لا أصيل العرض، وفعلاً تِقنياً بمعناه السياقي أثناء الحديث عن تجارب الآخَرِين ممن عملَ معظمهم تحتَ إشراف وبتوجيهات الرجُلَين مع التأكيد، وللموضوعية، أن سعيد نجحتْ أيما نجاح في نحت واشتقاق البِنى النقدية لتلك المرحلة، فلم تقِف على عرض المُنجزات والأدوار، بل رَتبَتْ دفعةَ آراءٍ جذرية صَلْبةِ الرؤى ناجِزَة الاستشراف باتجاه تأصيل المسرح المحلي، كأخصب ما يكون بين المسارح العربية، إنما بعيداً مِنَ التجربة الرحبانية الأساس.

ومع الحرص الكبير على عرض المسألة ومقاربتها بالشواهد، لا بالأهواء في كل كلمة وردت آنفا، فنحنُ لا نتحدثُ بالضرورة مِنْ إعجابٍ أو إيثار ومُحاباة للفن الرحباني، فهو شأنٌ ذائقي خاص وشخصي، وإنما مِنْ واقعٍ فني غني جداً موجود ومُخصب في أس التربة المسرحية اللبنانية، مِما لا يمكن لناقدة وأكاديمية شاملة بمستوى خالدة سعيد أنْ تتجاوز عنه لأي سببٍ كان. نستدركُ تمحيصاً وتدقيقاً بِما لا يُمكن إغفاله أن سعيد كتبتْ لاحقاً في المسألة الرحبانية، فأوردتْ في كتابها «يوتوبيا المدينة المُثقفة» (مجموعة مقالات، دارالساقي، بيروت 2012 ) مقالاً بعنوان « الريادة الرحبانية» هو في الواقع تقريظٌ لمُنجزات عاصي وحَسب مع العُرُوج وبعباراتٍ سريعة «مسلوقة» على بعض نشاط منصور، مِما لا مفر من ذِكره بحكم ارتباطه بعاصي، وبشكلٍ تقني ينكمشُ على توطئةٍ نفسية للقارئ قبل إطْلاعِهِ على عملية بَتْرِ الحالة الرحبانية بالفَصْلِ بينَ الرجُلين، بدءا بالغَمْز الواضح جداً من مسألة التوقيع المُشترك (الأخوان رحباني) لأنه «باتَ من الصعب التمييز بين حدود الإسهام، أو نوع الإسهام لأي من الأخوَين في العمل الواحد» إلى القَول: «ولستُ هنا في معرض المفاضلة بين موهِبَتَي الأخوَين رحباني، بل لنْ يكون التمييز مُمكناً لأن لِصِيغة التجمع عبقريتها وأسرارها… لكنْ بعد انحلالِ التجمع يذهبُ كل في اتجاه». تبرأتْ سعيد من نية المُفاضَلَة كفِعل، لكنها أقرتْ بالمُفاضلة نفسها كواقع بمجردِ ذِكْرِها بينَ عاصي ومنصور، في إيحاءٍ مُثير وحساس يزرعُ فكرةً جديدةً متحولة سلباً عن أصالة العلاقة وعمقها في مسيرة الأخوَين، ويتركُ الحكم فيها للتاريخ، ولا يوضحُ الغموضَ الحال في مفهوم «انحلال التجمع» بينَ العضوي أو الابداعي.
خلاصةُ القول إن ما سُقناه بالبينة حتى هذا السطر هو سؤالٌ كبير ومشروع، بحثاً عن حقيقة الأخوين رحباني في المشروع النقدي لخالدة سعيد، التي لرُبما لم تقُلْ أو لا تريد قول كل شيءٍ بعد.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد الصالح:

    لا يمكن اغفال تحربة الاخوين الرحباني الا عن قصد، فقد تخطت شهرتهما حدود لبنان الى العالم العربي والى العالم كافة.فهل يمكن اغفال الركائز المسرحية حين حديثنا عن المسرح اللبناني؟ من في الوطن العربي كافة خاصة لا يذكر المسرحيات الغنائية لفيروز ونصري شمس ووديع الصافي؟

    1. يقول الحسام محيي الدين:

      أتفق معك عزيزي وهذا ما بسطته في مقالتي . ومع ذلك حرصت على ألا أطلق موقفاً أخيراً في هذه المسألة فلربما كان لدى خالدة سعيد ما تقوله بعد في مسرح الأخوين رحباني .

اشترك في قائمتنا البريدية