في تضامن التونسيين مع جيرانهم الإيطاليين

يمكن الجزم بأن المبادرة الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد، والمتمثلة في إرسال بعثة طبية تونسية إلى إيطاليا، للمساهمة في مجابهة روما لخطر فيروس كورونا، هي خطوة رمزية إيجابية في الاتجاه الصحيح، وتستحق المباركة لأنها تصب في خانة التضامن مع شعب جار، يجمع التونسيين به تاريخ ضارب في القدم. كما تجمع التونسيين بالإيطاليين جغرافيا تجعل البلدين الجارين في شراكة مستمرة، أساسها تقسيمهما للبحر الأبيض المتوسط إلى حوضين، واحد شرقي وآخر غربي، وفي الإشراف المشترك، على واحد من أهم المضائق في العالم، أي مضيق صقلية الواقع على الطريق البحرية الدولية، التي تربط المحيطين الأطلسي والهندي عبر البحرين المتوسط والهندي.
من المؤكد أن إيطاليا دولة كبرى، وليست بحاجة إلى هذه البادرة، والتونسيون هم الأولى بأطبائهم في هذا الظرف الاستثنائي العصيب، الذي يمرّ به العالم، الذي جعل نشاط القرصنة يعود في ثوب جديد، من خلال السطو على صفقات المعدات الطبية، لكن الخطوة كانت جيدة، على الرغم من كل شيء، وأبرزت أهمية التضامن بين الشعوب عند الأزمات، الذي يذيب الفوارق بين بني البشر، ويجعل الشعوب جميعا أمة كونية واحدة.
ولعل ما يستحق الثناء أيضا، هو عدم استغلال التونسيين ورئيسهم لهذه البادرة الطيبة للدعاية لأنفسهم إعلاميا، باعتبارهم «شعب الله المختار» مثلما يفعل العديد من الأنظمة المهترئة وشعوبها. كما لم يحتج التونسيون إلى مساعدتهم للغير، مثلما تفعل أطراف في شعوب أخرى، بل على العكس من ذلك تماما توحّد أبناء الخضراء حول مبادرة الرئيس، وباركوها ولم يقللوا من شأن الشعب الإيطالي، ولا انتهكوا عرضه ونعتوه بأقذع النعوت، مثلما فعل آخرون اعتقدوا أن رئيسهم منح معونة لتونس في وقت سابق، بمناسبة زيارة أداها إلى بلادهم.. وبقي التونسيون على إدراكهم لحجمهم الحقيقي في هذا العالم، ولحجم الطرف الذي قدموا له يد المساعدة، واعين بأن لا أحد محصن من الاحتياج، بما في ذلك الأمم الكبرى، وضربوا بالتالي موعدا جديدا مع السلوك الحضاري المطلوب.
إن ما يربط التونسيين بالشعب الإيطالي تعود جذوره إلى ما قبل قرطاج، حيث تثبت البحوث والدراسات التاريخية، أن التفاعل بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط كان يتم عبر هاتين البوابتين، اللتين تتوسطان هذا البحر الأسطوري العجيب، الذي كان قلب العالم ومحوره. وحتى خلال النزاع بين قرطاج وروما حول السيادة على المتوسط، كان العديد من المدن الإيطالية يساند قرطاج في هذا الصراع. وحينما غزا القائد التونسي القرطاجي حنبعل، أو هنيبعل، كما يطلق عليه المشارقة، جبال الألب وشعوبها، ثم الأراضي الإيطالية، وحاصر روما في عقر دارها، أعجب بمعمار تلك البلاد وفنونها، والفلسفة الإغريقية، التي كانت منتشرة في ربوعها، ما جعله يرابط لأكثر من عقد من الزمان يتعلم، ويعلم ولا يلقى إلا الترحاب في تلك الربوع، ما جعله يتراجع عن التدمير، وهذا ما تؤكده المراجع التاريخية الإيطالية، خلافا لما كان يقال من أن سبب تراجع حنبعل هو امتناع قرطاج عن ارسال التعزيزات العسكرية إلى قائدها الفذ، أو بسبب انصراف حنبعل إلى حياة اللهو والمجون في ما يعرف بإيطاليا اليوم.
هذه المراجع تؤكد على أن شبه الجزيرة الإيبيرية، التي كانت تسيطر عليها عائلة حنبعل برقا، كان فيها من الجنود ما يمكنه من أن يغزو كوكب الأرض قاطبة، وهي إلى جانب ذلك قاب قوسين أو أدنى من الأراضي الإيطالية، والإيبيريون (الإسبان) كانوا يقاتلون باستمرار تحت راية حنبعل، باعتبار أن الأراضي الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) في ذلك الزمن، قبل ميلاد المسيح: كانت مستمرة قرطاجية. وبالتالي فإن فرضية عدم توفر المدد العسكري لتدمير روما المحاصرة تصبح بلا معنى. كما أن حنبعل كان رجلا منضبطا وجنرالا صارما ويصعب أن ينصرف إلى حياة اللهو والمجون، وهو القائد الملهم الذي آمن جنوده بعقيدته الموروثة عن والده أميلكار أو عبد ملقرت، وما يدعم هذا الرأي هو تأكيد المراجع التاريخية على أن حنبعل لم يبحث عن الغنائم، ولم يسبِ النساء، ولا استعبد الرجال كما يفعل الغزاة عادة..

التضامن بين الشعوب عند الأزمات، يذيب الفوارق بين بني البشر، ويجعل الشعوب جميعا أمة كونية واحدة

وإلى يومنا هذا، مازال البعض في إيطاليا يحتفي بحنبعل تكريما لهذا القائد الفذ، الذي انتصر للعلم والمعرفة والفن والجمال، على حساب القتل والتدمير، ونشر الخراب. وبقي الغرب في جدل إلى اليوم أيضا حول من هو الأكثر عظمة حنبعل قرطاج التونسي، أم إسكندر المقدونيين والإغريق. وفي إطار العلاقات والروابط التاريخية، يجب عدم إغفال أن روما بعد أن طاب لها المقام في ربوع شمال افريقيا قبلت بأن يكون على رأسها إمبراطور افريقي لوبي أو ليبي أمازيغي، هو سبتيموس سيفيروس، الذي زارته أخته في روما وتحدثت معه باللغة البونية لغة قرطاج، التي بقيت طاغية على شمال افريقيا، كما هي العربية اليوم، وكان ذلك في مركز الحكم، وأمام الملأ، ولم يثر ذلك أي إشكال، وكان مرحبا بالشقيقة وبشقيقها الإمبراطور. ويجب كذلك عدم إغفال أن صقلية بقيت لقرون جزءا من تونس (افريقية) سواء مع الأغالبة أو الفاطميين، قبل مغادرتهم إلى القاهرة، ثم عاش المهاجرون الإيطاليون بسلام في ربوع تونس، إلى ما بعد نهاية الفترة الاستعمارية، ولم يغادر أغلبهم إلا مع تأميم بورقيبة للأراضي الزراعية وافتكاكها من الأجانب. ولعل الحي الإيطالي في حلق الوادي، والعبارات الإيطالية الكثيرة التي تزخر بها اللهجة التونسية خير دليل على هذه العلاقات التاريخية، ناهيك من الآثار الرومانية في تونس، والآثار البونية القرطاجية والإسلامية في ربوع إيطاليا.
وتبقى النقطة السوداء في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين، هو فرض الإيطاليين للتأشيرة على جيرانهم التونسيين، مع تغلغلهم في المنظومة الأوروبية سياسيا واقتصاديا وماليا، ما أزعج التونسيين، في وقت ما، على الرغم من علمهم بأن ذلك قد تم بإملاءات وضغوط أوروبية..
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو منجل:

    انا سمعت ان إيطاليا منحت 50مليون اورو مساعدة لتونس في حربها على كوروناوليس العكس

  2. يقول عن ماذا تتحدث؟:

    تونس بحاجة للمساعدة وليس العكس.لا أعتقد أن أي دولة عربية بخلاف دول الخليج يمكن أن تساعد أي دولة أوروبية.

  3. يقول ابن كسيلة:

    الله الله عليك يا أستاذ….يا سلام يا سلام ….ها هو المقال اللذي يجب تدريسه لاصدقاءنا في الشرق…هذا هو التاريخ يتكلم…التاريخ الصحيح و ليس المزور….

  4. يقول ابن كسيلة:

    فكرني المقال في بيت شعر للعباس بن الأنف….”صرت كاني ذبالة نصبت……تضيء للناس و هي تخترق “

  5. يقول ابن كسيلة:

    تصحيح……..العباس بن الاحنف…

  6. يقول ابن كسيلة:

    تصحيح ثاني…….” و هي تحترق “

  7. يقول Amine:

    شكرا لك علي كلي هذه المعلومات القيمة تاريخ مشرف رغم غدر الرومان تحيا قرطاج تحيا تونس ❤❤??

اشترك في قائمتنا البريدية